المسيح ابن مريم عليه السلام (20)


المسيح ابن مريم عليه السلام (20)

 

ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن الله تعالى حكمَ بكفر من ادَّعى أن المسيح ابن الله، أو أنه الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، وسقت صريحَ القرآن الكريم في ذلك، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مشهدًا من مشاهد الحقِّ يَسأل فيه عيسى ابن مريم للتنديد بمن عبده وأمه مع الله عز وجل، حيث يقول: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109].

 

ثم يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 116 – 118].

 

وليس في قوله تعالى هنا: ﴿ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] ما يفهم أنه مَن مات على الشرك قد يغفر له؛ لأن الكلام منصب على جملة من جاءهم عيسى عليه السلام، وفيهم من آمن به على أنه عبد الله ورسوله، ومنهم من كفر به في حياته بينهم، ومنهم من كفر به بعد رفعه؛ إذ زعم أنه إله أو ابن إله، والمقصود من السياق يفيد أن عيسى عليه السلام ما قال لهم إلا ما أمره الله عز وجل به أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأنه يشهد لمن أجابه مدة حياته بينهم، ويشهد على من عصاه مدة حياته كذلك، فلما رفعه الله إليه ارتفع علمه عن أحوالهم، وكان اللهُ وحدَه هو الرقيب عليهم، لا يعلم عيسى من أمرهم شيئًا سواء في ذلك من اتبعه على الهدى أو ضل عن سواء السبيل، فمردُّ الجميع إلى الله يعذب من يشاء من العصاة عدلًا، ويثيب ويغفر لمن يشاء فضلًا؛ لأن الجميع عباده وهو العزيز الحكيم، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: ((اللهم أمَّتي أمَّتي))، وبكى، فقال الله عز وجل: ((يا جبريل، اذهب إلى محمد – وربُّك أعلم – فَسَلْهُ: ما يبكيك؟))، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: ((يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ فقل: إنا سنرضيك في أمَّتك ولا نسوؤك)).

 

ولا شكَّ في أنه بقي إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان يعرف من النصارى أن عيسى عبد الله ورسوله بسبب امتداد دعوة آريوس ومن تبعه؛ ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي ملك الحبشة بعضَ سورةِ مريم مما اشتمل على قصة ولادة المسيح وكلامه في المهد بأنه عبد الله آتاه الكتابَ وجعله نبيًّا – بكى النجاشي حتى اخضلَّتْ لحيته، وصرَّح بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في توحيد الله يخرج هو والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة.

 

فقد قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: “لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنِّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نَسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كلِّ بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكلِّ بطريق منهم إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلِمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله! إذًا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على مَن سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرَنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدِّين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنامَ، ونأكل الميتةَ، ونأتي الفاحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصِدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرَّحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللهَ وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قالت: فعدَّدَ عليه أمورَ الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتَّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا اللهَ وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلَّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من سورة مريم، قالت: فبكى واللهِ النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج مِن مشكاة واحدة، انطلِقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون…”؛ إلخ الحديث.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The Story Behind The Real Amazing Amy Books From Gone Girl – Screen Rant
Top 10 Colleen Hoover Books Every Fan Should Read – The Literary Lifestyle