أنوار الكهف تبدد ظلمات الفتن {فأووا إلى الكهف}
أنوار الكهف تبدد ظلمات الفتن
﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف: 16]
تخيل أن رجلًا كان يجلس وحيدًا في بيته ليلًا وفجأة انقطعت الكهرباء عن البيت فلم يعد يرى شيئًا، إذا أخرج يده لم يكد يراها، وكلما حاول المشي تخبَّط في أثاث بيته رغم أنه يعرف مكانه ويحفظه؛ ولكن الظلام جعله لا يرى شيئًا، يا ترى ما أحوج ما يحتاج إليه هذا الرجل؟
بالتأكيد إن أحوجَ ما يحتاج إليه نور يضيء له في الظلمة أو مصباح يهديه الطريق أو شمعة تبدد بشعاعها الظلمات لتمنعه من التخبُّط والسقوط.
من رحمة الله بنا أن أنزل لنا القرآن نورًا وهاديًا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، أنزل لنا القرآن ليكون بصائر للناس في كل وقت وحين، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].
﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9].
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
وفي ظل الفتن والابتلاءات التي تمر بنا في الحياة نمسك بكتاب ربنا لنلتمس من نوره، ونهتدي بمشكاته، ونسترشد بقناديله، فإذا بنا نتوقف عند سورة عظيمة؛ وهي سورة الكهف، فنجدها تضيء لنا أنوارًا عظيمة، وتكشف لنا عن قيم وحقائق مستورة عنا بظلمات كثيرة، إذا بها تهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وتنشر لنا من رحمات ربنا، وتهيئ لنا من أمرنا مرفقًا، فما علينا إلا أن نأوي إليها ونستظل بظلالها لننهل من نورها؛ لذلك حَثَّنا رسولنا أن نأوي إلى الكهف أسبوعيًّا، كما ورد في الحديث الذي صححه الألباني “من قرأ سورةَ (الكهفِ) في يومِ الجمعةِ أضاء له من النورِ ما بين الجُمُعَتَين”.
فلماذا نعرض عن أنوارها وهي بين أيدينا؟! ولماذا نتولى عنها ونترك سراجها المنير فلا نستضيء به؟!
وكما أنها نور فهي تحمل في طياتها وسائل ووصايا جليلة تعصمنا من الفتن المحيطة بنا ولم لا؟! إذا كان من حفظ عشر آيات من أولها عُصِم من أعظم فتنة تقع على الأرض من لدن آدم إلى قيام الساعة كما في صحيح مسلم “مَن حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ”.
فكما أنها تعصم من دجل الدَّجَّال الذي يُزيِّن الباطل في صورة الحق ليفتن الناس، فمعه جنة ولكن في حقيقتها نار، ومعه نار ولكن في حقيقتها جنة، فهي تعصمنا من فتن تموج كموج البحر، فتن تُصيِّر الحليم حيرانَ، وتنشر لنا رحمة من ربنا لنهتدي بها في هذه الظلماء.
فهيا بنا نرتشف من عذب وصاياها ونستنير بنورها، هيا بنا لنضيء أركان قلوبنا بأنوار الكهف، هيا بنا لننير أرواحنا من كلمات ربي التي لا تنفد ولو كان البحر مدادًا لها.
عندما نتدبر السورة ونتوقف معها نجدها تبصرنا، فأنواع كثيرة من الفتن كفتن السراء والضراء، فمن فتن السراء فتنة زينة الحياة الدنيا عامة كما ذكرت الحياة الدنيا وزينتها في أربع آيات سنُبيِّنها لاحقًا، ثم فصلت لنا السورة بعض هذه الفتن في أربع قصص متتالية- لم تذكر في غيرها من سور القرآن – فقصة فتية الكهف كانت (فتنتهم في الدين)، ففرُّوا بدينهم من فتنة قومهم الذين كادوا أن يرجموهم أو يعيدوهم إلى مِلَّتهم بعد أن آمنوا بالله وعرفوا الدين الحق، فأووا إلى الكهف المظلم غير الممهد بعد أن عاشوا في القصور، فجعله الله لهم فيه من الرحمة والرشد، وربط على قلوبهم، وهيَّأ لهم من أمرهم مرفقًا، فنجحوا في هذا الاختبار، ونجوا من هذه الفتنة.
أما الفتنة الثانية فهي (فتنة الناس بالمال والولد والأتباع) كما في قصة صاحب الجنتين الذي أعجب بجنته وماله، وفتن بها واغترَّ بها حتى ظن أنها لا تبيد، وحتى كفر بالله واغترَّ كذلك بكثرة أولاده، فقال لصاحبه: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، فاغترَّ بكثرة ماله وولده وجنتيه وما فيهما من ثمر، وكل ذلك من زينة الدنيا وابتلائها، وقد فشل في هذا الابتلاء وعوقب بزوال جنته وذهاب ماله ليعلم ولنعلم جميعًا أنها متاع زائل.
أما الفتنة الثالثة في السورة فهي (فتنة العلم) في قصة سيدنا موسى لما سأله قومه: هل يوجد من هو أعلم منك؟ فقال: لا، فعاتبه الله وأرسله إلى الخضر ليتعلم منه، فتواضع لمن هو أقل منه منزلةً لأنه أعلم منه، ولم يتكبَّر بعلمه؛ لأنه يعلم أن الله هو الذي مَنَّ عليه بهذا العلم ليس كما قال قارون: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تعلَّم العلم ليُباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم”؛ رواه ابن ماجه وغيره، وصحَّحه الألباني.
أما الفتنة الرابعة: فهي (فتنة الملك والقوة والسلطان والجاه)، فقد ظهرت واضحة جلية في قصة ذي القرنين الملك الصالح الذي أعطاه الله من كل شيء سببًا، فسخر له الملك والتمكين الذي مكنه الله فيه لخدمة الضعفاء ولإعمار الأرض ولم يظلم أحدًا، واعترف بأن ما هو فيه من عند الله وليس بمجهوده وذكائه بل اعترف بالفضل لله ولم يركن إلى الأسباب والقوة المادية ويغتر بها وينسبها إلى نفسه، استمع إليه ماذا يقول؟ ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾ [الكهف: 95]، وقال لما مَكَّنه الله من بناء السد ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ﴾ [الكهف: 98].
ولم ينسَ الآخرة وينكر البعث كما فعل صاحب الجنتين الذي فتن بما عنده، بل قال: ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 98]؛ أي: خروج يأجوج ومأجوج قبل يوم القيامة.
وهناك أيضًا فتنة أخرى ذكرت في السورة الكريمة؛ وهي (فتنة إبليس لبني آدم وعداوته لهم): ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]، وإبليس هو أصل كل فتنة على الأرض، ولم لا؟ وقد أقسم أن يُضِلَّنا ويُزيِّن لنا في الأرض ويغوينا عن الصراط المستقيم ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39]، وقد حذرنا الله من فتنته في مواضع أخرى من القرآن ﴿ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 27]، فكما أنه خدع أبوينا بالأكل من الشجرة بعد أن سمَّاها لهم شجرة الخلد، ولبَّس عليهما الأمر، وزيَّنه لهم، فانخدعوا به، فهو يخدعنا الآن، ويزين لنا الباطل؛ ليبعدنا عن الطريق القويم، فلننتبه لخطواته وتزيينه، ولا يغرنكم الشيطان.
ثم لا تتركنا السورة الكريمة حتى تحذرنا من فتنة الدنيا عامة في أكثر من موضع حتى لا نغتر بها وننسى الباقيات الصالحات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف علينا أيضًا من فتنة الدنيا، ويحذرنا منها، كما قال: “فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ”.
فالموضع الأول كما جاء في أول السورة قوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].
اقرأ الآية مرة أخرى وأرْعِها سمعَك، يقول الله لنا إن كل ما على الأرض من أموال ومساكن وأولاد وأزواج وتجارة وعقارات وزروع وأنعام وذهب وفضة وأنهار وحدائق وغيرها، كل ذلك مجرد زينة وليس قيمة في حد ذاته، فلا تغترَّ بالزينة الزائلة، وتنسى القيمة الحقيقية لحياتك من أعمال صالحة باقية تنفعك في حياتك الدائمة.
ولكن لماذا خلق الله هذه الزينة للأرض؟
ركز جيدًا في قوله تعالى: ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ ﴾ [الكهف: 7]، هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل الله من أجله كل ما على الأرض من زينة، ليختبرنا فيها ويرى وهو يعلم سبحانه أي منا سيكون أحسن عملًا فينجح في اختبار السراء والشهوات، وأي منا سيفشل وتغرُّه الدنيا بزينتها.
ولكن هل ستستمر هذه الزينة للأبد؟
لا، استمع للآية التي بعدها ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ﴾ [الكهف: 8]؛ أي: ستفنى هذه الزينة وتكون ترابًا يوم القيامة، كما في قوله تعالى في نفس السورة: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ [الكهف: 47] الأرض ستكون بارزة يوم القيامة؛ أي: ليس عليها شيء حتى الجبال الرواسي ستسير، فما بالك بما عليها من بيوت ودور؟! فلا تنخدع بها ولا تغترَّ بزخرفها.
وقد أبدع الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية، قال رحمه الله: “وستعود الأرض صعيدًا جرزًا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست آثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغترَّ بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتَّعوا بها تمتُّع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدَّمَتْ يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطائفتين”.
وهكذا جلت لنا الآية بوضوح أن كل ما على الأرض هو اختبار لنا وابتلاء ليرى الله- وهو أعلم- كيف نتعامل مع هذا الاختبار، فنحذر من الفتنة والاغترار بها عن الحياة السرمدية؟
أما الموضع الثاني الذي ذكر فيه الحياة الدنيا فهو قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28].
وفيه يأمر الله نبيه بأن يصبر على صحبة المؤمنين الذين يدعون ربهم ويريدون وجهه، ولا يجعل زينة الحياة الدنيا تشغله وتلهيه عن صحبتهم؛ لأن النظر لزينة الدنيا تلهي القلب عن ذكر الله كما قال السعدي: “أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك”.
﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28]، فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذَّات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية”.
وهذا هو التنبيه الثاني لنا في السورة لنحذر فتنة الدنيا الزائلة، ونعمل لما هو باقٍ، فما عندنا ينفد وما عند الله باقٍ.
ثم تنقلنا السورة لموضع جديد يرسم لنا التصور الحقيقي للحياة الدنيا حتى لا ننخدع بها، وذلك عن طريق أسلوب ضرب الأمثلة التي تجعل المعنى المعنوي ملموسًا ومحسوسًا، فيكون أكثر تأثيرًا على النفس، وهو قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45].
أرأيت المطر حين ينزل على الأرض الجافة الميتة فتزدهر وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، فيعجب بها الناس ويفرحون بمنظرها البديع، ثم إذا بها بعد وقت قصير تجف أزهارها، ويموت زرعها، فيزهد فيها الناس وينصرفون عنها؟!
هذا مثل الدنيا مهما تزدهر للناس فيحققون منها ما يريدون من متاع وشهوات فإنها تزول عنهم سريعًا، أو يزولون عنها، كما في الحديث “عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه”.
والجميل أن هذا المثل جاء بعد قصة صاحب الجنتين الذي فتن بسبب ما عنده من حرث وثمار وزروع، فجاء المثل مناسبًا تمامًا للقصة، فبعد أن تصورنا جنتيه وما فيهما من زروع ونخيل وأعناب، ثم أصبحت بأمر الله خاوية على عروشها، ثم يأتي هذا المثل الرائع ليؤكد لنا أن كل ما على الدنيا فانٍ وزائلٌ، فلماذا نُؤْثِر الحياة الدنيا على الآخرة.
ثم تأتي الآية التالية لها مباشرة لتزيد يقيننا بذلك، وتُخبِرنا ألَّا تُلْهينا الأموال والأولاد عن الباقيات الصالحات التي تبقى لنا بعد الموت، وهي قوله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].
تفصل لنا الآية فتنتين عظيمتين يسقط فيها الكثير من الناس: الفتنة بالمال، والفتنة بالأولاد والبنون، فالمال فتنة عظيمة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].
عن كعب بن عياض قال رسول الله: “إنَّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً، وفتنَةُ أمَّتي: المالُ”؛ صحيح.
والأولاد فتنة أيضًا ليختبرنا الله فيهم، في الحديث عن يعلى العامري “جاءَ الحسَنُ والحسينُ يَسعيانِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ فضمَّهما إليه وقال: إنَّ الولدَ مَبخلةٌ مَجبنةٌ”؛ صحيح.
وقال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ [الفتح: 11]، وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].
فهل تشغلنا تلك الفتنتان- المال والبنون- عمَّا هو باقٍ لنا وأكثر نفعًا وأرجى أملًا ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، فخير ما يدخر الإنسان ويفرح به ويتنافس فيه هو الباقيات الصالحات من الأعمال الصالحة والمرضية عند الله من ذكر وصلاة وصيام وزكاة وبر وصلة وغيرها من أبواب الخير التي يبقى نفعها وأثرها للإنسان بعد موته، وهي خير ما يؤمله ويرجو نفعه، أما المال والبنون وغيرها من شهوات الدنيا إنما هي زينة ينتفع بها بعض الوقت في الدنيا ثم تزول أو يزول الإنسان عنها.
وكأن السورة- بعد هذا البيان الواضح لحقيقة الدنيا وكثرة الكلام عنها- تصرخ فينا: لا تغتروا في الدنيا، ولا تركنوا إليها، ولا تطمئنوا بها، وترضوا بها؛ فإنها زائلة، وكأنها تقول كما قال مؤمن آل فرعون: ﴿ يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39].
ما أرحمك يا ربنا! تبين لنا بالمثل والقصة وأسلوب النهي حقيقة الدنيا وحقارتها وسرعة زوالها وانقضاءها لننتبه لذلك، ونعمل لما هو خير وأبقى وأنفع لنا.
فهل ترانا نَتَّعِظ بكلام الله ونوقن به أم سنظل كما نحن نتمسك بالدنيا وزينتها فتلهينا عما نحن قادمون عليه؟
هل سنكون ممن قال الله فيهم: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، أم كمن قال الله فيهم: ﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ [الفتح: 11]؟
قال مالك بن دينار: “لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى، قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى”، فهل سنستبدل الخزف الفاني بالذهب الباقي؟ فهل سنبيع الآخرة ونشتري الدنيا؟ أم سنبيع أنفسنا وأموالنا لله ونشتري الجنة؟
هل سنترك أساور الذهب والسندس والإستبرق وأرائك الجنة وما فيها من نعيم سرمدي لم تره عين ولم تسمعه أُذُن ولم يخطر على قلب بشر ونستبدله بمتاع الدنيا وزينتها المنغصة المكدرة التي لا تدوم لأهلها ولا يدوم أهلها لها؟
أما عن فتنة الضراء في السورة، فقد ظهرت في القصص الثلاث التي كانت بين سيدنا موسى والخضر: قصة السفينة، والغلام، والجدار.
فما أهم ما ترشدنا إليه سورة الكهف في هذه القصص؟
• علمتنا أن الابتلاء وإن كان ظاهره شرًّا، فإن عاقبته خيرٌ لدين المسلم، فها هو صاحب الجنتين بعد ما أصابه ما أصابه وأحيط بثمره، ندم على شركه بالله، وقال: ﴿ وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42].
وما أعظمها من فائدة للبلاء إن كان عاقبته خيرًا على الدين بأن يرجع الإنسان لربه ويمسك عن غيِّه!
• علمتنا السورة أن البلاء الصغير قد يكون نجاة من بلاء أكبر منه كما حدث في قصة خرق الخضر للسفينة، فكان ذلك سببًا في نجاة كامل السفينة من غصب الملك الظالم لها، الخرق الصغير في حياتك قد يكون نجاة لك من مصاب أكبر منه، ولكننا مع الأسف كثيرًا ما نركز مع الخرق الصغير وننسى النجاة الكبيرة.
• علمتنا أن الله قد يقدر علينا الابتلاء بالفقد ليبدلنا ما هو خير مما أخذ منا، فقد أبدل الله والدي الغلام الذي قتله الخضر من هو خير منه زكاة وأقرب رحمًا. كل فَقْد حدث لك من مال أو حبيب أو علاقة أو وظيفة أو رزق، قد يكون عطاءً وأنت لا تدري.
• علمتنا أن المرء يُبتلى على قدر دينه، وأن بلاء المؤمنين قد يكون شديدًا، فقد شهد الخضر للأبوين أنهما مؤمنين ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾ [الكهف: 80]، ورغم ذلك لم يمتنع عنهم هذا البلاء الشديد بفقد الولد، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
• علمتنا أن المصيبة في الدين أعظم فتنة، والابتلاء في الدين هو أعظم ابتلاء؛ لذلك كانت أول فتنة ذكرت في السورة فتنة فتية الكهف الذين فَرُّوا بدينهم من فتنة الدين، وصبروا على ذلك حتى إنهم اضطروا لترك ما هم فيه من متع دنيوية وشهوات ولذات لأجل النجاة بدينهم حتى لو استبدلوا القصور بالكهوف، فإنهم في ذلك الحالة أفضل ممن يتمتع في القصور ويترك دينه، ثم ذكرت لنا قصة أخرى في أن الحفاظ على الدين أولى من أي مصلحة وإن أدى ذلك إلى التضحية بالغالي والنفيس، فإن قتل الغلام كان الحكمة الأساسية منه الخشية على إيمان أبويه، والخوف أن يفتنوا بسببه فيحملهما على الكفر والطغيان.
قال السعدي رحمه الله في تفسير ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [الكهف: 80]: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ ﴾ الذي قتلته ﴿ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا؛ أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك؛ أي: فقتلته، لاطِّلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟” وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية ما هو خير منه”.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا.
• علمتنا أن الله قد يمنع عنا الرزق الذي نريده؛ لأنه لم يحن بعد وقته المناسب، فالمنع في هذه الحالة عين العطاء، ألم يمنع الله الكنز عن اليتيمين حتى يبلغا أشُدَّهما رحمةً منه بهما حتى لا يأخذه أهل القرية منهما؟
قد يتأخر كنزك الذي تتمناه من كل قلبك؛ لأنك لم تبلغ أشدك بعد، قد يتأخر زواجك؛ لأنك لو تزوجت الآن لباءت زواجك بالفشل. الولد الذي تتمنى أن يهبك الله إياه ربما لو جاءك الآن لشغلك عن الله، المال الذي ترجوه ربما لو رزقك الله به لأطغاك، أو ربما أنفقته في معصية الله، فهناك من الناس من إذا بسط الله له الرزق لبغى وطغى ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27].
وثق بأن الله لا يمنعك بخلًا ولا عدمًا، فهو الغني الذي بيده خزائن كل شيء ولكنه يعطي بقدر معلوم وفي وقت معلوم ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].
فلا تعجل وثق باختيار الله لك، ولا تختر على اختيار الله لك، فهو الذي يختار وما كان لك الخيرة ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68]، فهو يعلم وأنت لا تعلم، وعسى أن تحب شيئًا وهو شَرٌّ لك، كل تأخُّر هو رحمة من ربك ولكنك لا تصبر على ما لم تحط به خبرًا.
اللهم رضنا بقضائك حتى لا نحب تأخير ما عجلت، ولا تعجيل ما أخرت.
• علمتنا أنه إن كان سيدنا موسى وهو كليم الله ومن أولي العزم من الرسل وقد اصطنعه الله على عينه، إلا أنه لا يعلم الغيب ولا يعلم الحكمة من كل قدر قدره الله على عباده، فنحن من باب أولى لا نعلم الحكمة في كل فعل من أفعال الله، ولكن ما نعلمه حقًّا أن الله هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وله الحكمة البالغة، وهو عالم غيب السماوات والأرض، وهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها، ولا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، وهو سبحانه يريد لنا اليسر، ولا يريد لنا العسر، فنسلم لأقداره وسننه في خلقه وإن لم ندر الحكمة منها، فإن كنا لا نصبر على ما لم نحط به خبرًا، ولكننا إذا جاءنا البلاء قلنا: إن شاء الله، كما قال سيدنا موسى: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69].
ولكن بعد أن بينت السورة لنا حقيقة الدنيا وفتنتها، هل أرشدتنا إلى بعض الوسائل العملية لنتقي هذه الفتن ويهدينا ربنا للرشد؟
نعم بالتأكيد، ومن ذلك:
• التمسك بالقرآن وتدبره وتلاوته وتفهم رسائله، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الكهف: 27]، فإنه- كما قلنا- جاء لهدايتنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور، وهداياتنا إلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما: كتابَ اللهِ، وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ”؛ صحيح.
• دعاء الله وقت الفتنة كما دعا فتية الكهف ربهم ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].
• حسن الظن بالله ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
فقد ظن الفتية بربهم أنه سينشر لهم من رحمته، ويهيئ لهم من أمرهم مرفقًا وقد كان.
• الهرب من الفتنة واعتزالها ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ [الكهف: 16]، في بعض الفتن تحتاج للاعتزال والبعد عنها، وعن مواطنها لتقي قلبك حرَّها وشدتها حتى لو كلَّفك الأمر ترك ما تحبه نفسك، وتكلف بعض المشقة والعناء، ولكن النجاة منها يستحق هذا.
قد تضطر لترك عملك؛ لأن به بعض الفتن التي لا تصبر عليها ولو بدا لك الأمر صعبًا جدًّا كدخول كهف مظلم ككهف الفتية، ولكن الله سيربط على قلبك ويبدل خوفك أمنًا، وينشر لك من رحمته، وسيعوِّضك خيرًا مما تركت، فمن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، انتبه لمواطن الفتن والشبهات، وابتعد عنها، لو كانت بعض مواقع الإنترنت فتنة لك فابتعد عنها واعتزلها، لو كان بعض الأشخاص والأماكن تضر بدينك وقلبك فابتعد عنها.
• التمسك بالصحبة الصالحة وعدم الانشغال عنهم بالدنيا؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الثبات على الحق والبعد عن الفتن، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28].
• البعد عن الصحبة السيئة الغافلة القلب اللاهية عن ذكر الله المتبعة للهوى، فإن اتباع الهوى طريق للسقوط في الفتنة والبعد عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، فالإنسان يتأثر ولا بد بالبيئة المحيطة به سواء بالخير أو بالشر؛ فلذلك لا بد أن ينتبه لمن يصاحب، فيصاحب حاملي المسك، ويبعد عن نافخي الكير.
– تذكر الدار الآخرة وما أعَدَّه الله فيها للمحسنين المتقين من أجر حسن ماكثين فيه أبدًا، وما أعَدَّه من عذاب للظالمين لأنفسهم، فهي باعث قوي للبعد عن الفتن وتجنبها كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، أما الجنة ففيها من الزينة ما يفوق ما في الدنيا من ذهب وثياب وأرائك بمراحل كثيرة ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 31]، فهل ستفتن بزينة الدنيا وتترك الزينة الحقيقية التي لا تزول ولا تحول ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 108].
– وكذلك تذكر يوم القيامة وما فيه من أهوال من تسيير الجبال والحشر والعرض على الله وأخذ كتاب الأعمال الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها والنفخ في الصور وعرض جهنم للكافرين عرضًا والوزن ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105].
• نسبة الفضل لله في كل نعمة ينعم بها علينا والاعتراف له بها؛ فإن ذلك مدعاة لعدم التكبر والتجبر بالنعمة، وذلك من قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [الكهف: 39]، فها هو الرجل المؤمن ينصح صاحب الجنتين ألا يغتر بما يرى في جنته، وينسب الفضل لله فيها، فيذكر نفيه أن ذلك بمشيئة الله وقوته وليس بحول منه، كما قال سيدنا شعيب: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [هود: 88].
• ونسبة كل علم يتعلمه الإنسان لله، فعلم الخضر من الله ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، وقد أقرَّ سيدنا موسى بذلك قائلًا: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، فلنحرص على ذلك الأمر إذا تعلمنا شيئًا جديدًا، أو فتح الله علينا بعلم جديد، كما قال سيدنا يوسف لصاحبيه في السجن: ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37].
• عدم الاغترار بما معك من قوة وتمكين وأسباب ونسبتها لله، كما قال ذو القرنين: ﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾ [الكهف: 95]، ونسبة كل توفيق أو نجاح أو تميُّز يحدث لك لله، قال ذو القرنين بعد أن بنى السد: ﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ﴾ [الكهف: 98] لم يقل: هذا بمجهودي أو علمي أو ذكائي، كما قال سيدنا سليمان لما رأى عرش بلقيس مستقرًّا عنده: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ﴾ [النمل: 40].
وغيرها وغيرها الكثير من الفوائد التي نتلمَّسها في هذه السورة العظيمة، ولا عجب بعد أن عرفنا ذلك أن نفهم أنها تحفظنا من أعظم فتنة ستقع على الأرض وهي فتنة الدَّجَّال.
وكأن سورة الكهف تضع لنا إطارًا عامًّا للتعامل مع الفتن والوقاية منها؛ لذلك نقرؤها أسبوعيًّا لتكون لنا نورًا في ظلمات الفتن التي تعصف بقلوبنا كل يوم بل كل ساعة، وكأنها طوق النجاة في بحر الفتن والشهوات المتلاطمة، وكأنها حصن حصين يقينا سهام أعدائنا من شياطين الإنس والجن، وكأنها كهف نرتاح فيه من حَرِّ الشبهات والإغراءات التي تحرقنا بنارها ولهيبها.
فاللهمَّ قِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اسبق بنا الفتن، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ونعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال.
والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على هذه السورة العظيمة، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا.