مشروعية التوسط في مدة خطبة الجمعة بلا تقصير مخل ولا تطويل ممل


مشروعية التوسط في خطبة الجمعة بلا تقصير مخل ولا تطويل ممل

 

روى مسلم في صحيحه (869) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ))، مَئنَّةٌ؛ أي: علامة، والمراد بالحديث أن تُطوَّل صلاةُ الجمعة في اعتدال، وأن تُقصَّر خطبةُ الجمعة في غير إخلال، وليس المراد تعمُّد أن تكون خطبة الجمعة أقصر من الصلاة، وإنما المطلوب التوسُّط في خطبة الجمعة، وتقصيرها بالنسبة إلى أطول منها، كما أن المراد تطويل الصلاة بالنسبة إلى أقصر منها، فخير الأمور أوسطُها، بدليل ما رواه مسلم (866) عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: (كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا) قال النووي في شرح صحيح مسلم (6/ 153): “(خطبته قصدًا)؛ أي: بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق، وقال العيني في شرح سنن أبي داود (4/ 443): “أي: ليست طويلة ولا قصيرة”؛ ويُنظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (3/ 273)، والمفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (2/ 328).

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يُقصِّر خطبة الجمعة جدًّا، روى أبو داود (1096) وحسنه الألباني عن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا الجمعة معه، فقام متوكِّئًا على عصًا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات).

 

والغالب من حال النبي صلى الله عليه وسلم التوسُّط في خطبة الجمعة، كما هو ظاهر حديث جابر بن سَمُرة السابق: (كانت خطبته قصدًا)، ويدل على ذلك حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس)؛ رواه مسلم (873)، وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في خطبة الجمعة على قراءة سورة ق من غير أي زيادة، فلا بد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب أحيانًا بسورة ق وهي 45 آية سيزيد في خطبته غير قراءة آيات سورة ق كخطبة الحاجة في أوَّلها، وبعض الكلام في أثنائها، وربما دعا في آخرها، وذلك وقتٌ متوسطٌ كافٍ.

 

وروى أبو داود (1410) وابن حِبَّان في صحيحه (2799) وصحَّحه الألباني والأرناؤوط عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر سورة ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تيسر الناس للسجود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم اسْتَعْدَدْتُمْ للسجود))، فنزل فسجد وسجدوا.

 

فالظاهر أن التوسُّط هو الغالب من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسُّط هو من التقصير المطلوب، وربما قصَّر النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة جدًّا كما سبق، وربما أطال الخطبة للتعليم في غير خطبة الجمعة كما سيأتي بيانه قريبًا.

 

قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 184): “كان يُقصِّر خطبته أحيانًا، ويُطيلها أحيانًا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة”.

 

والتوسُّط في خطب الجمعة هو المشهور من خطب الصحابة رضي الله عنهم، ففي صحيح البخاري (1077) عن ربيعة بن عبدالله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: ((يا أيها الناس، إنا نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)) ولم يسجد عمر رضي الله عنه، وآية السجدة في سورة النحل هي الآية رقم 50، وذلك قدر خمس صفحات من المصحف، ولا شك أنه قال في خطبته غير قراءة تلك الآيات، وهذه خطبة متوسطة.

 

وروى ابن سعد في الطبقة الخامسة من كتابه الطبقات الكبرى (1/ 278) عن أبي رزين قال: (خطبنا الحسن بن علي يوم جمعة، فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها)، وسورة إبراهيم 52 آية، ولا شك أنه قال في خطبته غير قراءة تلك السورة، وهذه خطبة متوسِّطة.

 

وروى ابن أبي شيبة في مُصنَّفه (4274) بإسناد صحيح عن الضحاك بن قيس رضي الله عنه أنه خطب فقرأ سورة ص، وهذه أيضًا خطبة متوسطة، فسورة ص 88 آية.

 

فالأصل في الخطب أن تكون متوسطة، لا قصيرة مُخلَّة كمن يخطب عشر دقائق، ولا طويلة مُمِلَّة كمن يخطب أربعين دقيقة، والذي ينبغي للخطباء أن يعتنوا بخطب الجمعة؛ لأن كثيرًا من الناس لا يفرِّغون أنفسهم لسماع العلم وأحكام الدين إلا يوم الجمعة، فخطبة الجمعة فرصة مناسبة لتعليمهم وتذكيرهم، ونحن نعلم أن كثيرًا من الناس في زماننا يجلسون يوميًّا أمام الشاشات والجوَّالات ومجالس اللغو ساعات طويلة متصلة، فليس من الحكمة ولا من النصيحة للأمة أن نمنع المسلمين من الجلوس في المساجد نصف ساعة كل أسبوع لوعظهم وتعليمهم، وتذكيرهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوِّل في بعض الخطب للتعليم وللحاجة بحسب الموضوع الذي يتحدَّث عنه، وإن كان ذلك في غير خطبة جمعة، فقد صَحَّ عنه أنه خطب مرة بأصحابه في غير جمعة من الفجر إلى المغرب، روى مسلم في صحيحه (2892) عن عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: (صَلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصَلَّى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلَّى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)، ولعل هذه الخطبة الطويلة كانت في شهر رمضان، والله أعلم.

 

وروى النسائي (621) وصحَّحه الألباني عن أبي مريم رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام ونام الناس، فلم يستيقظ إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن فأذَّن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام فصَلَّى بالناس، ثم حَدَّثنا بما هو كائن حتى تقوم الساعة)، والظاهر أن هذه خطبة أخرى كانت في السفر، أما الخطبة المذكورة في الحديث السابق فكانت في المسجد النبوي بدليل ذكر المنبر، والله أعلم.

 

وروى البخاري (6604) ومسلم (2891) عن حذيفة رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله)، ولعل هذه الخطبة التي ذكرها حذيفة نفس الخطبة التي ذكرها عمرو بن أخطب في الحضر أو التي ذكرها أبو مريم في السفر، والله أعلم.

 

وروى أحمد (18224) وصحَّحه الأرناؤوط من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طوَّل خطبته، ولعلَّها إحدى الخطب المذكورة في الأحاديث السابقة.

 

وروى أحمد (11143) والترمذي (2191) وحسَّنه من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بعد العصر إلى مُغَيْرِبان الشمس)، وإسناده كلهم ثقات ما عدا علي بن زيد بن جُدعان القرشي، ففيه ضعف، وإن كان من أوعية العلم كما قال الذهبي، ويشهد لحديثه هذا ما سبق من الأحاديث.

 

وثبت أن بعض الصحابة كان يطوِّل خطبة الجمعة جدًّا، روى ابن جرير في تفسيره (6/ 172) بإسناد حسنٍ عن عاصم بن كُليب عن أبيه قال: (خطب عمر يوم الجمعة، فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها)، وسورة آل عمران طويلة جدًّا، آياتها 200 آية، وظاهر هذا الأثر أن عمر كان يُكثر من قراءة سورة آل عمران في خطبته، وهذه خطبة طويلة جدًّا، وكان ذلك بحضرة الصحابة، وهم أعلم بالسُّنَّة من غيرهم.

 

وروى ابن جرير (12/ 644) وابن أبي حاتم (11301) بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ سورة هود على الناس على المنبر حتى بلغ: ﴿ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ﴾ [هود: 120] قال: (في هذه السورة)، وسورة هود طويلة، آياتها 123 آية.

 

وروى أبو بكر النيسابوري في كتابه الزيادات على كتاب المزني (118) عن صفوان بن محرِز أن أبا موسى الأشعري قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فسجد فيها سجدتين. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4355) وذكر أنه سجد السجدة الآخرة من سورة الحج، فإن كان أبو موسى قرأ سورة الحج كاملة في خطبة الجمعة فهي خطبة طويلة، فسورة الحج 78 آية.

 

فلا يُنكر على من طوَّل خطبة الجمعة نادرًا للحاجة والمصلحة، والتوسُّط في الخطب هو الأنسب والأفضل، وهو الأقرب للسنة وللحكمة من مشروعية الخطب التي يكون فيها أحيانًا تعليم وتبيين مواضيع تحتاج إلى شيء من التفصيل بلا تقصير مُخِلّ، ولا تطويل مُمِلّ، فمن خطب خطبة الجمعة في نحو 20 دقيقة إلى 25 دقيقة فقد توسّط وأحسن، وإن زاد قليلًا بحسب الموضوع أو أنقص في بعض الأحيان فلا حرج، ولا ينبغي للخطيب تعمدُ وقتٍ محدد لا يَزيد عليه ولا يُنقص منه في جميع خطبه طَوال السنة، فقد نُهينا عن التكلف، ومن البدع المحدثة في هذا الزمان إلزام خطباء الجمعة بوقتٍ قصيرٍ ضيقٍ لا يزيدون عليه وإن كان الموضوع يحتاج إلى بيان وتفصيل، فتكون الخطبة حينئذٍ مخلة بالموضوع، غير مستوعبة لما يحتاج الناس إلى سماعه وتوضيحه، فالسُّنَّة في خطب الجمعة التوسُّط بلا تحديدِ وقتٍ لا يُزاد عليه ولا يُنقص منه، كما أن صلاة الجمعة لا تُحدَّد بوقت معين، والتوسُّط في الخطبة يُعتبر من التقصير المستحبّ، وقد نصَّ الفقهاء على مشروعية توسُّط الخطبة، وأن ذلك من تقصيرها المطلوب، وأنه لا بأس بإطالتها أحيانًا للحاجة.

 

قال النووي في المجموع (4/ 528، 529): “يُستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلًا، ولا يبالغ بحيث يمحقها”؛ انتهى باختصار.

 

وقال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب (1/ 260): “يُندب أن تكون الخطبة متوسطة بين الطويلة والقصيرة”. وقال الرملي في حاشيته على أسنى المطالب (1/ 260): “(قوله متوسطة إلخ) قال الأذرعي: وحسنٌ أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال وأزمان الأسباب، وقد يقتضي الحال الإسهاب؛ كالحثِّ على الجهاد إذا طرق العدوُّ البلاد، وغير ذلك من النهي عن الخمور والفواحش والزنا والظلم إذا تتابع الناس فيها، وحسنٌ قول الماوردي: ويقصد إيراد المعنى الصحيح، واختيار اللفظ الفصيح، ولا يطيل إطالة تُمِل، ولا يُقصِّر تقصيرًا يُخِل”.

 

وقال ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 138): “تقصير الخطبة يكون في الأكثر، فإن احتاج الخطيب إلى أن يطيل لذكر حادثة جرت أو نائبة أو إبانة عن صورة لا بد من إبانتها لم يُكره ذلك إن شاء الله تعالى”.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الدعوة بين الخبرات والحماسات
المفهوم الخاص لكلمة “الجماعة” المنسوبة تعريفا بالإضافة “لأهل السنة