المؤمن وقاف حتى يتبين


(المؤمن وقَّاف حتى يتبيَّنَ)

 

إن ديننا العظيم هو الدين الذي أنعم الله تعالى به على هذه الأمة، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، فسَادَتِ الأُمَمِ، ومَلَكَتِ الأرض مشرقًا ومغربًا، وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ((تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه))[1]، فالأُمَّةُ يومَ أن تتمسك بكتاب الله تعالى، وتعمل بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سَلَكَتْ طريقَ العزة والكرامة، طريقَ الخير والسعادة، طريق الفلاح والنجاة من الفتن والمحن والشدائد، لكن إن تخلَّتِ الأمة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد سلكت طريق الفتن والمحن والمصائب، ورحم الله القائل يومَ أن قال:

 

أيها الأحبة: إن الناظر في أحوالنا اليوم، في أحوال الرجال والنساء والشباب، في أحوال الجامعات والكليات والمدارس، في أحوال البيوت والشوارع والأسواق، في أحوال البيع والشراء، يجد الكثير من المخالفات التي تخالف كتاب الله تعالى وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.

 

وأنا اليوم أقف مع أمر خطير، هذا الأمر بسببه دُمِّرت البيوت، وطُلِّقت النساء، ويُتِّم الأطفال، وسُفكت الدماء، وضاعت المجتمعات، هذا الأمر يخالف كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ هذا الأمر هو (عدم التثبُّت من الأخبار).

 

ولذلك القرآن الكريم حذَّرنا من هذا الأمر الخطير؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

 

نعم، ستندم يا من لم تتثبَّت من الأخبار، وإن لم تندم في الدنيا، فإنه سوف يصيبك الندم يوم القيامة، يوم يأتي فلان، فيقول: يا رب، تكلم فيَّ فلان، فيقول لك الله تعالى: هل تبيَّنتَ؟ هل تثبتَّ؟ هل جئت وسألته؟ فيا ليت شعري ماذا سيكون جوابك أمام الله؟ هل ستقول له: قال لي فلان كذا وكذا، سمعت فلانًا يقول كذا وكذا، أو قرأت الخبر من الفيس بوك وسارعت في نشره.

 

والله لو نظرنا في واقع المسلمين اليوم لرأينا كَمْ من بيوت خُرِّبت! وكم من أرزاق قُطعت! وكم من إنسان طلَّق زوجته! وكم من أطفال شُرِّدوا! وكم من أخ قتل أخاه! وكم من إنسان سُجِن! وكم من إنسان أصبح عاقًّا لوالديه! وكم من فتنة وقعت بين الجيران! كلها بسبب عدم التثبت من الأخبار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

والله بعض الناس اليوم عندما يأتيه شخص ويقول له: هل علمت بفلان؟ لقد فعل كذا وكذا، وإذا به يفرح لمصيبة أخيه، ويصغي لمن نقل له الخبر بكل سَمْعِهِ، ويقول: نعم، أكْمِلْ أكْمِلْ، يا سبحان الله! أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة))[2].

 

والله المسلمُ الذي يخاف الله، ويسير على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضح مسلمًا، ولا يفرح بمصيبة أخيه، ولا يتسرع في إلقاء التُّهم وإلصاقها بالناس، حتى وإن رأى بعينه عورة لأخيه، أو رأى أخاه على معصية، أو رآه يرتكب الفاحشة، فمن أخلاق الإسلام، ومن أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يستره بثوبه.

 

المسلم الحقيقي هو الذي إذا سمع فلانًا يتكلم عن فلان أنه فعل كذا، ولو كان تقيًّا، ولو كان ورعًا، ولو كان صاحب عبادة، فإنه لا يستعجل؛ لأن العجلة من الشيطان؛ قال سيدنا الحسن البصري رحمه الله: “المؤمن وقَّاف حتى يتبين”[3]، لا يلفظ لسانه شيئًا، ولا يتعجل بالحكم على الناس، ولا يتهم عباد الله الصالحين، فالمؤمن وقَّاف حتى يتبيَّنَ.

 

‏اسمع إلى نبي الله سيدنا سليمان عليه السلام، كيف كان يتثبَّت ويتبيَّن، وإن كان الخبر من أوثق الناس؟ في قصته مع جندي من جنود مملكته؛ ألَا وهو (الهدهد)، فالهدهد لم يقُل: قالوا ويقولون، بل قال: جِئتُك ﴿ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]، واليقين أعلى درجات العلم، ومع ذلك انظروا كيف رد سيدنا سليمان عليه السلام؛ فقال: ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو لعل الذي نقل لك الكلام ليس بثقة، لعل في الأمر التباسًا؛ انظروا إلى نبي الله سليمان عليه السلام، لم يتسرع بالحكم على الآخرين، انظروا كيف يريد أن يتثبت من الأخبار؟

 

فيا أخي: إذا جاءك أخوك، وأخبرك بأن فلانًا قال عنك كذا وكذا، فلا تستعجل، إذا جاءك ولدك يبكي ويشتكي من جارك، فلا تستعجل، بل تثبت من الخبر، إذا زوجتك اشتكت لك من أمك، أو من أخيك، أو من أختك، فلا تستعجل، بل تثبت من الخبر، إذا أمك اشتكت لك من زوجتك، فلا تستعجل، اسمع من الطرفين، وكن مصلحًا، وإن سعيت إلى إعادة المياه إلى مجاريها، فافعل؛ فهذه هي أخلاق الإسلام.

 

ليسمع كل من يستعجـل في الحكم على الآخــرين دون التثبت من الأخبار والإشاعات إلى نبي هذه الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان يتثبت من الأخبار؟ يومَ أن أتاه رجلٌ اسمه ماعز، فقال: “يا رسول الله، زنيتُ، فطهِّرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يريد أن يفضح الناس، فعندما وجد منه الإصرار على الاعتراف؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبك جنون؟))، أرأيتم كيف يريد أن يتثبت من الخبر؟!

 

صاحب الخطأ يأتي بنفسه، فيقول: فعلت كذا وكذا، فيتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى قومه، فيقول: ((أبه جنون؟ أفي عقله شيء؟ هل تشكُّون من أمره شيئًا؟)) أيُّ تثبُّتٍ هذا؟!

 

وهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، دخل عليه رجلٌ فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئتَ نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا[4].

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]؛ قال قتادة رحمه الله: “لا تقل: سمعت، ولم تسمع، ولا تقل: رأيت، ولم تَرَ، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله”، وقال عمرو بن قيس: “يُقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويُقال للعين يوم القيامة: هل رأيتِ؟ ويُقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك”، فماذا سيكون جوابك يا من تطعن بفلان، وتتهم فلانًا، وليس لك دليل إلا أنك سمعت الناس يقولون؟!

 

ليكن قولَ نبي الله سيلمان عليه السلام: ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27] شعارُنا بين الناس، كلما جاءنا رجل قال لنا: فلان قال كذا، وفلان فعل كذا، والله لو أجبنا كل ناقل للكلام بهذه الكلمة: سَنَنْظُر، سنبحث، سنتأكد، لانتهت أكثر الخصومات بين الناس.

 

فحافظوا على بيوتكم، وعلى زوجاتكم، وعلى جيرانكم، وعلى إخوانكم، وعلى علاقاتكم الاجتماعية، وعلى مدينتكم؛ فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم يقول: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّثَ بكل ما سمع))[5].

 

أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح بيوتنا وأقوالنا وأفعالنا، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

مسألتنا الفقهية تتعلق بسؤال: ما حكم الشرع في شراء البضائع الـمسروقة؟

الجواب: فلا يجوز شراءُ الشيء المسروق ممن سرقه لمن يعلم ذلك، فإنْ أقْدَمَ على ذلك، فهو أحد السارقين، والشراء من السارق فيه إعانة على الإثم والعدوان، وتشجيع للسارق بالاستمرار على فعله، وفيه ترك لإنكار المنكر، كما أن من شروط صحة البيع ملك البائع لِما يبيعه، فإن كان سارقًا فهو غير مالك، وهذا مُوجِب لبطلان العقد.

 

قال الإمام أحمد رحمه الله: “إذا اشترى الرجل من رجل شيئًا، وهو يعلم أنه سرقه، فقد شاركه”[6]؛ أي: شاركه في إثم السرقة وشرها.

 

وبناءً على ذلك:

أولًا: لا يجوز شراء البضائع المسروقة حتى ولو سرقت من كافر؛ لِما في ذلك من ظلم للناس، وإقرار للمنكر، وتعاون على الإثم والعدوان.

 

ثانيًا: من اشترى بضاعةً، وهو يعلم أنها مسروقة، أو غلب على ظنه أنها مسروقة، كان آثمًا، ويجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ومن تمام توبته إعادة البضائع إلى أصحابها، وله أن يرجع إلى البائع لأخْذِ الثمن الذي دفعه.

 

ثالثًا: من اشترى بضاعةً من غير السارق، وعلم أن البضاعة مسروقة، أو غلب على ظنه أنها مسروقة، فلا تحل له؛ لأن البائع ليس مالكًا لها شرعًا، ولا مأذونًا له شرعًا في بيعها، بل من الواجب عليه أن يردها إلى صاحبها.


[1] الموطأ للإمام مالك، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر: (5/1323)، برقم (3338)، وهذا الحديث صحيــح؛ فقد رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله))، ورواه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا؛ كتاب الله، وسنة نبيه)).

[2] سنن ابن ماجه، كتاب الحدود، بَابُ السِّتْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَدَفْعِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ: (2/ 850)، برقم (2546).

[3] نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم: (3/ 584).

[4] إحياء علوم الدين للغزالي: (3/156).

[5] صحيح مسلم، مقدمة الإمام مسلم رحمه الله، بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ: (1/ 10).

[6] مسائل أحمد لأبي القاسم البغوي: (ص: 68).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب الإختلافات بين القرائين والربانيين في ضوء أوراق الجنيزا pdf
الأحاديث البخارية في صناعة الأعمال الخيرية (PDF)