شعوب جائعة وأراض عذراء


شعوب جائعة وأراضٍ عذراءُ

إن زيادة سكان العالم وحدها لا تعني شيئًا، فقد تستمر زيادة سكان العالم زيادة لا حدَّ لها، دون أن تسبب الزيادة أيَّ مشكلة لو كانت موارد العالم تكفي إمدادَ كلِّ فردٍ بحاجته؛ ليحيا حياة متمدينة، وتضمن له فيها مستوى محترمًا، ولكن الواقع – للأسف الشديد – غيرُ ذلك، إن معظم سكان العالم محرومون من أبسط مطالب المعيشة اللائقة، فبالرغم من التقدم الواسع في العلوم الحديثة والمهارة المهنية، فإن مجموع الإنتاج الغذائي – بل جميع الحاجات الأخرى – لا يتناسب مع الزيادة في عدد السكان.

 

ولقد دَعَت هذه المسائل الْمُلِحَّة الخاصة بسكان العالم إلى زيادة الاهتمام إبان السنوات القليلة الماضية، وبالرغم من أنه لا يوجد أي خلاف في خطورة مسألة السكان بوجه عام، فإن هناك خلافًا شديدًا في التعرف على لُبِّ المسألة من ناحية، وعلى وسائل حلِّها من ناحية أخرى.

 

إذ تُقرِّر النظرية الأولى أن الغذاء والموارد الطبيعية في كثير من أنحاء العالم لا يساير زيادة السكان فحسب، بل إن فيهما نقصًا مستمرًّا، كما تقرر أنه بالرغم مما حقَّق العلم من تقدُّم، فالطبيعة ضنينة، وموارد الأرض محدودة، والنتيجة الحتمية لذلك موت الكثير من الجوع، ما لم يكن هناك ضوابط صارمة تحُدُّ من زيادة السكان.

 

ويدعو أصحاب هذه النظرية إلى تعميم تحديد النسل، والاحتفاظ بالموارد الطبيعية على مستوى عالمي، وبهذا نضمن على الأقل استبعاد هذه الحروب المتكررة، كما نضمن بقاء الجنس البشري ونوعه بوجه عام.

 

أما النظرية الثانية، فيرى أصحابها أن المسألة الخاصة بالسكان ليست مسألة زيادة في السكان ونضوب الموارد، بل هي مسألة نقص الإنتاج، وسوء التوزيع، وهم يَرَون أنه لم يُعمَل حصرٌ دقيق لجميع الموارد التي في جميع البلاد المتخلِّفة، وعلى هذا فأول ما يجب عمله تدوين كل الموارد الحالية التي يمكن استثمارها، ورسم الخطة التي تُستغَلُّ بها هذه الموارد المعطَّلة.

 

ومن حُجَجِهم أنه يمكن أن نبلغ ضعف أو ضعفي أو ثلاثة أضعاف المجموع الكلي للمنتجات الغذائية، بل إنه من الممكن أن نبلغ أكثر من ذلك حتى مائة ضعف، إذا ما اقترن العلم الحديث والمهارة الفنية الحديثة من جهة بالزراعة، وإنتاج الأغذية من الناحية الأخرى.

 

إذًا هناك حقيقتان، هما أكثر الحقائق إخلالًا بنظام سكان العالم في الوقت الحاضر؛ فمع زيادتهم الهائلة، هناك عدم التكافؤ في توزيعهم، وعدم التكافؤ في زيادتهم، فإذا ما أُضيف إلى ما سبق أمرُ توزيع الموارد الطبيعية بين البلاد المتخلِّفة، والوسائل الميسورة التي تقيم أَوَدَ السكان فيها – وضحت أسباب الاضطراب السياسي والاجتماعي، بل القلق الذي يسود العلاقة بين الشعوب، وعلى ذلك فالعلاقة بين هذه المجموعة من الحقائق الاجتماعية والاقتصادية، وحالات التوتر السياسية والاقتصادية، سواء أكانت حاضرة أم متوقعة، وهي التي كانت في الماضي كما قد تكون في المستقبل أيضًا داعيةً إلى الحروب والاعتداء – جديرة بالدرس والتمحيص.

 

ومن ثَمَّ، سننظر إلى مسألة السكان العالمية، وإلى التوتر الدولي من زاوية جديدة – من زاوية ما انتشر في العالم من فقر وحرمان، ومجاعة وحرب، مع وجود ما لا حدَّ له من الأراضي الخالية التي لا تُستغل إلا استغلالًا ضعيفًا، وتتطلب الإصلاح والاستغلال، وإذا ما سلَّمنا أن الجوع هو أحد الأسباب الأساسية لِما بين البلاد المتخلفة من عداء وتوتر، فإنه يجدر بنا أن نعالج المسألة، وأن ننظر إليها من ثلاث زوايا:

الأولى: من المستوى المعيشي المنخفض الذي لا يفتأ ينخفض على مرِّ الأيام بالقياس إلى الحاجات الضرورية للحياة الإنسانية الكريمة، لا سيما في بعض مناطق العالم العظيمة الاتساع؛ كالهند، والصين، والجنوب الشرقي من آسيا وروسيا.

 

الثانية: من حيث دأب الإنسان على مرِّ الدهور بسبب جهله على سوء استغلال الأرض، والموارد الطبيعية الأخرى المحدودة، أو عدم استغلالها، وكانت نتيجة ذلك نقصًا مستمرًّا في مساحة الأرض المزروعة، ونقصًا فيما يخص الفرد من غلَّتِها في كثير من بقاع العالم.

 

الثالثة: أنه من الحمق – بل من الإجرام – أمام هذا الانخفاض في مستوى المعيشة بسبب زيادة السكان في جانب، ونقص الموارد الطبيعية في الجانب الآخر – أن تُتركَ الأرض سواء كانت متسعة أو صغيرة مُعطَّلة غير مُستغَلَّة.

 

ولا حاجة إلى دليل إحصائي، ولا إلى بيان علمي، ليكشف ما في العالم كله من سوء التغذية، ومستوى معيشة آخذٍ في الانخفاض بين معظم سكان العالم، ولا يمكن أن يُقال: إن سكان العالم جملة قد بلغوا مستوى أفضل في الغذاء، أو المسكن، أو الملبس في السنوات الخمسين الأخيرة، لقد حذر كينز العالم بعد الحرب العالمية الأولى أن شيطان مالتس قد خرج من القُمقم في هذا العالم الذي تتناقص غلَّتُه، وفي رأيه أن زيادة السكان في أوروبا يرجع إليها النقص في نصيب كل فرد من الغذاء، كما يرجع إليها عدم الاستقرار قبل الحرب وبعدها، وحتى قبل الحرب العالمية الثانية كان من رأي كولن كلارك أن شيطان مالتس لا يزال طليقًا، وأن أكثر من نصف سكان العالم لن يصيبوا من الدخل ما يبلغهم مستوى الكفاف في المعيشة، وعلى كل حال لقد نقص ما يخص الفرد من الضروريات في معظم سكان العالم.

 

إن الاختلاف بين الدول في نصيب الفرد من الاستهلاك في المأكل والملبس والمسكن، والتعليم والصحة، ومستلزمات الراحة والثقافة شبيهٌ في اتساعه بما بين الطبقات في الدولة الواحدة من تباين.

 

فهل نحن أكثر عددًا مما يجب أن يكون؟ من الجائز أنه ليس كذلك، إن عشرة بلايين أو عشرين بليونًا ليس بالكثير لو تيسَّر الغذاء الكافي، وسائر الحاجات الضرورية، ووسائل الرفاهة لهم، ولكنَّا على علم بأن نصف سكان العالم أو أقل من النصف بقليل – نصفهم من سكان آسيا – سيأوون إلى فراشهم جائعين.

 

إن من النظريات التي ذهب إليها أحد مذاهب الرأي من وقت غير بعيد: أن الفقر إنما يوجد في أحضان الثَّراء، وهذا المذهب ما زال باقيًا إلى الآن.

 

وأصحاب هذا المذهب لا يَرَون أنه توجد مشكلة سكانية، أو أن المجاعة على الأبواب إذا كان هناك تحديد النسل، ومن رأيهم أن ما في كل بقاع العالم من شقاء وتعس بسبب الجوع ليس راجعًا إلى ذلك، وإنما هو راجع إلى حدٍّ ما، أو راجع كلية إلى وسائل الإنتاج الخاطئة، وأكثر من ذلك إلى التوزيع الخاطئ.

 

وهناك مذهب آخر حديث أقرب إلى الصحة؛ وهو أن المسألة ليست مسألة فقر بين أحضان الثراء، وإنما هي الفقر بين أحضان الطبيعة التي يشتد فقرها كلَّ يوم عن اليوم الذي قبله، وقد أشار إلى هذا كولن كلارك بقوله: كثيرًا ما تظهر العبارات الشائعة بين الناس عن الفقر في أحضان الثراء، إنها أبعد الأقوال عن جادة الصواب.

 

يقول شاندرا سكهار في كتابه (شعوب جائعة وأراضٍ عذراء): إن هذا الفقر المتغلغل بين الطبقات لا يمكن أن يُعالَج بإصلاح وضع سياسي، أو نظام اقتصادي، وعلاج هذا الأمر لا يكون إلا بفهم صحيح لِما بين أمِّنا الأرض والطبيعة من اتحاد تام، إن عدم إدراك هذه الحقيقة – حقيقة تكامل الطبيعة – كان سبب حرب الجهالة العمياء التي شنَّها الإنسان على الطبيعة ردحًا طويلًا من الزمان، وقد ترتب على هذه الحرب تَلَفُ التربة ونفاذ الموارد الطبيعية.

 

ولو كان في استطاعتنا دوام الانتفاع بما تُخرجه الأرض من المعادن، لكان هذا مبعثًا للرضا، ولكن الواقع أن فيها خسارة دائمة – إما خسارة تامة كما في الوقود، أو خسارة طفيفة كما في الرصاص المستعمل في البطاريات – واعتمادًا على النسبة الحالية لاستخراج المعادن واستهلاكها، نجد أن مواردها تُستنفَد بكميات ضخمة، علمًا بأن هذه الموارد لا بد أن تنفد آخر الأمر.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
(PDF) كتاب الحق في الدفاع وضماناته أمام المحكمة الجنائية الدولية – ResearchGate
فائدة في كفارة اليمين