حكم التورق المنظم


حكم التورق المنظّم

 

اختلف المعاصرون في حكم التورق المنظّم على قولين:

القول الأول: عدم جواز التورق المنظّم.

وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي،[1] وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي،[2] وقرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث،[3] وأكثر الباحثين في ندوة دلة البركة الرابعة والعشرين،[4] وجمع من المعاصرين. [5]

واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول (من جهة التخريج على الفروع؛ باعتبار شكل المعاملة ومآلها): أن التورق المنظّم أشبه بالعينة المحرّمة من جهة شكله، ومن جهة غايته؛ فأما شكله: فلا فرق بين أن يبيع المصرف السلعة بثمن آجل، ثم يشتريها بثمن معجل أقل؛ كما في العينة، وبين أن يتولى المصرف بيعها لطرف ثالث بثمن معجل أقل، وأما من جهة المآل: فكلا المعاملتين تؤول إلى حصول طرف على نقد معجل، وحصول الآخر على دين مؤجل أكثر منه، ويتضح من ذلك أن حقيقة التورق المصرفي “أن المصرف يقول للعميل: أوفر لك مائة نقدًا إذا رضيتَ أن تكون مدينًا لي بمائة وعشرين مؤجلة، وهذه هي صورة الربا”. [6]

ويناقش: أن الذي دفع النقد غير الذي استحق الدين المؤجل، ثم إن السلعة لم ترجع إلى البائع الأول، بل دارت في الأسواق؛ فلم تتحقق حقيقية العينة.

 

الدليل الثاني (من قواعد سدّ ذرائع الربا): بتطبيق قاعدة المدخلات والمخرجات، والنظر فيما خرج من اليد ورجع إليها، نجد أن السلعة دخلت؛ لتخرج، ولم تستقر في يد أيّ من الطرفين، بل الذي استقرّ نقد لطرف، مقابل دين في ذمّته أكبر منه، وهو الربا.[7]

ونوقش: أن ما دخل يد المصرف هو الثمن المؤجل الذي في ذمّة العميل، وما خرج من يده هي السلعة، أما الثمن النقد فلم يخرج من يد المصرف، بل من يد المشتري الآخر. [8]

القول الثاني: جواز التورق المنظّم.

وبه أخذت عدد من الهيئات الشرعية في المصارف والنوافذ الإسلامية،[9] واختاره جمع من المعاصرين. [10]

واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول (من جهة التخريج على الفروع؛ باعتبار القصد): أن التورق المنظّم يقصد منه الحصول على السيولة، فلا يعدو أن يكون صورة مطوّرة للتورق، الذي أجازه جمهور العلماء،[11] وإذا أجزنا التورق غير المنظّم الذي يقوم به الأفراد، فلماذا نمنع التورق المنظّم الذي تقوم به المصارف، وتسعى به إلى تجنب الربا ؟. [12]

ونوقش: أن بين التورقين فروقًا مؤثرة في الحكم:

أ‌- ففي التورق غير المنظّم لا علاقة لبائع السلعة الأول بعملية البيع الثانية، بينما في التورق المنظّم يتولى البائع الأول بيع السلعة على الطرف الثالث، بل ويعلم ابتداء أن قصد العميل من الشراء لأجل هو الحصول على النقد.[13]

ب‌- وفي التورق غير المنظّم المتورق هو الذي يتولى بيع السلعة بثمن معجل، قد يتمكن من الحصول عليه، وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والمعجل لا يدخل في ملك المصرف (البائع الأول)؛ بخلاف التورق المنظّم. [14]

الدليل الثاني (من جهة التركيب): أنه لا مانع من اجتماع عقد الوكالة مع التورق، فالتورق المنظّم ما هو إلا اجتماع عقدين جائزين، لا محظور في اجتماعهما؛ وهما التورق والوكالة.

 

ونوقش من وجهين:

الأول (من جهة أخصّ أحكام العقد): أن الوكيل إنما يتصرف بالأصلح لموكله، والمصرف هنا يتعمد أن يبيع السلعة بأقل من سعر السوق، بموجب الاتفاقيات السابقة بينه وبين الشركات العالمية. [15]

وأجيب من وجهين:

الأول: أن شرط الوكالة أن يوكل الموِكل فيما يصح له فعله، وهذا منه، والمصرف ههنا يتصرف لمصلحة العميل، فهو الذي اختار هذا البيع؛ ليحصل على السيولة، والحصول على السيولة النقدية يعتبر مصلحة.[16]

والثاني: أن المتورق لم يخسر قطعًا؛ إذ للأجل قسط من الثمن.[17]

والوجه الثاني للمناقشة (من جهة حصول المواطأة): أن التزام البائع بالوكالة في بيع السلعة لصالح العميل، بعد أن يبيعها عليه، هو الذي جعلها أشبه بالعينة الممنوعة؛[18] سواء كان هذا الالتزام مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة، أم بتصميم الإجراءات؛[19] لما في هذا الالتزام من عدم قطع العلاقة مع البائع الأول، وهذا هو سبب المنع، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم[20] أنه باع من أخته بيعًا إلى أجل، ثم أمرته أن يبيعه، فباعه، فسألت ابن المسيب؟،[21] فقال: أبصر أن يكون أنت هو ؟، قلت: أنا هو، قال: ذاك هو الربا، ذاك هو الربا، فلا تأخذ منه إلا رأس مالك.[22]

وعند عبد الرزاق عن أبي كعب[23] قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا، فأنت أعلم بالسوق، فقال الحسن: لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق.[24]

وفي المدونة قال ابن القاسم[25]: “ولقد سألت مالكًا عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجب البيع بينهما، قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد، فإني لا أبصر البيع، قال: لا خير فيه، ونهى عنه [26]. [27]

وأجيب: أن هذا من باب التوسع في سدّ الذرائع،[28] وقد عُرف به الإمام مالك، ولم يوافقه عليه كثير من العلماء، وعلم الإمام مالك عن أهل المدينة، وعلمهم في البيوع أخذوه عن سعيد بن المسيب، وأما الحسن البصري، فقد قال عنه قتادة[29]: “ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء، إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شيء، كتب فيه إلى سعيد ابن المسيب يسأله”،[30] فرجعت الفتوى إلى حكم رجل واحد.

 

القول المخـتار:

القول بمنع التورق المنظّم؛ للاعتبارات التالية:

أولها (من جهة الفرق بين التمويل الربوي والتمويل المالي الإسلامي): أنه لا يعدو أن يكون تمويلاً نقديًا بزيادة، وعمليات الوكالة، والبيع، والشراء عمليات صورية، وليست السلع فيها مقصودة؛ بدليل أن العميل لا يهتم بوصفها، ولا بقبضها، وبدليل أن المصرف يحرص على أن يتجنب تمامًا تبعات تخزينها، وتلفها، وتذبذب أسعارها، فلا تخرج هذه العملية في حقيقتها عن الأوراق، حتى قال الدكتور السالوس عن التورق المصرفي: “دراهم بدراهم، ليس بينهما شيء، إلا ورقة مكتوبة !!”. [31]

وثانيها (من جهة تنظيم الرخصة): أن التورق غير المنظّم سبق القول بإباحته كمخرج ورخصة، ولا يخلو من كراهة، وهو من جنس ما هو مباح بالجزء، ممنوع بالكل؛ كما سبق،[32] وتنظيمه بهذه الصورة المؤسسية يجعله من ذرائع الربا القريبة، وقد سبق أن التّهم تلحق أهل العينة، ومن لا يبيعون إلا نسيئة أكثر من غيرهم. [33]

وثالثها (من جهة التركيب الممنوع): أن التورق المنظّم داخلٌ في النهي عن بيعتين في بيعة؛ إذ يتحقق كونه جمع بين عقدين جائزين، على وجهٍ أدّى إلى الربا. [34]

ورابعها (تخريجه على العينة المحرمة): فلا فرق بين أن يبيع المصرف السلعة بثمن آجل، ثم يشتريها بثمن معجل أقل؛ كما في العينة، وبين أن يتولى المصرف بيعها لطرف ثالث بثمن معجل أقل.

 

وخامسها (بتطبيق قاعدة المدخلات والمخرجات): نجد أن السلعة دخلت؛ لتخرج، ولم تستقر في يد أيّ من الطرفين، بل الذي استقرّ نقد لطرف، مقابل دين في ذمّته أكبر منه، وهو الربا.

 

ولا يعترض على هذا: بأن ما دخل يد المصرف هو الثمن المؤجل الذي في ذمّة العميل، وما خرج من يده هي السلعة، وأن النقد لم يخرج من يد المصرف، بل من يد المشتري الآخر، ولا على الذي قبله: بأن السلعة لم ترجع إلى البائع الأول، بل دارت في الأسواق؛ فلم تتحقق حقيقية العينة؛ لأن تنظيم المصرف لعملية خروج السلعة بعد تنظيمه لعملية دخولها، من خلال التزامه بالوكالة في بيع السلعة لصالح العميل، بعد أن يبيعها عليه، جعل اليد أشبه باليد الواحدة.


[1] ينظر: مجلة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، العدد العشرون، ص(413-415).

[2] ضمن قرارات الدورة التاسعة عشرة، ينظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 341، ص(10).

[3] باستانبول، رقم 2/ 19، ينظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 341، ص(11).

[4] ينظر: ملحق قرارات وتوصيات ندوات البركة في الاقتصاد الإسلامي، (21-25)، ص(89).

[5] وممن رأى هذا القول: د. سامي السويلم، ينظر: التورق والتورق المصرفي، ص(408)، ود. علي السالوس، ينظر: العينة والتورق والتورق المصرفي، منشور في بحوث الدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي بمكة، ص(492)، ود. الصديق الضرير، ينظر: المصدر السابق، ص(416)، ود.رفيق المصري، ينظر: المجموع في الاقتصاد الإسلامي، ص(419)، ود. محمد شبير، ينظر: التورق الفقهي، وتطبيقاته المصرفية المعاصرة، ص(28)، ود. عبد الله السعيدي، ينظر: التورق كما تجريه المصارف، ص(533)، ود. خالد المشيقح، ينظر: التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن، منشور في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 73، ص(326).

[6] التورق والتورق المنظّم، للسويلم، ص(393).

[7] ينظر: التورق المصرفي، لحسين شحاتة، ص(28)، التورق والتورق المنظّم، للسويلم، ص(389).

[8] ينظر: التورق كما تجريه المصارف، للسعيدي، ص(521).

[9] وهو اختيار الهيئة الشرعية بالبنك العربي الوطني في منتجهم (التورق المبارك)، والهيئة الشرعية لمصـرف أبو ظبي الإسلامي في منتجهم (تمويل الخير)، والهيئة الشرعية بالبنك الأهلي التجاري في منتجهم (تيسير الأهلي)، والهيئة الشرعية بالبنك السعودي الأمريكي (سامبا) في منتجهم (بطاقة الخير الائتمانية)، والبنك السعودي الهولندي في منتجهم (اليسر)، والبنك السعودي البريطاني في منتجهم (مال)، ينظر للتعريف بهذه المنتجات: المواقع الالكترونية لهذه البنوك، عمليات التورق، وتطبيقاتها الاقتصادية في المصارف الإسلامية، لأحمد الرشيدي، ص(126-129).

[10] وممن رأى هذا القول: الشيخ عبد الله بن منيع، ينظر: حكم التورق كما تجريه المصارف الإسلامية، منشور في بحوث الدورة السابعة عشرة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، ص(351)، ود. نزيه حماد، ينظر: التورق في الفقه الإسلامي، منشور في مجلة البحوث الفقـهية المعاصرة، العدد 74، ص(54) ود. محمد القري، ينظر: التورق كما تجريه المصارف، ص(640).

[11] ينظر: التورق في الفقه الإسلامي، لنزيه حماد، ص(55)، التمويل بالتورق في المعاملات المالية المعاصرة، لعبد العزيز الغامدي، منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 76، ص(272)، التورق كما تجريه المصارف، للقري، ص(643).

[12] ينظر: التأصيل الفقهي للتورق، للمنيع، ص(350).

[13] ينظر: حكم التورق كما تجريه المصارف، للصديق الضرير، ص(416)، التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن، للمشيقح، ص(253)، التورق والتورق المنظّم، للسويلم، ص(381).

[14] ينظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، ضمن قرارات المجمع، الدورة السابعة عشرة، القرار 2، ص(28).

[15] ينظر: حكم التورق كما تجريه المصارف، للضرير، ص(417)، التورق والتورق المنظّم، للسويلم، ص(399).

[16] ينظر: التورق كما تجريه المصارف، للسعيدي، ص(520).

[17] ينظر: التورق المصرفي عن طريق بيع المعادن، للمشيقح، ص(247).

[18] ينظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، ضمن قرارات المجمع، الدورة السابعة عشرة، القرار 2، ص(27).

[19] ينظر: المعايير الشرعية، المعيار رقم 30، بند 4/ 6، ص(412).

[20] هو داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي، سمع من ابن عمر t، وثقه أبو زرعة وغيره، وعلق له البخاري في صحيحه، ينظر: التاريخ الكبير، للبخاري، (3/ 230)، تاريخ الإسلام، للذهبي، (3/ 42).

[21] هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب، أبو محمد القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين، سمع من كبار الصحابة y، واحتج بعض أهل العلم بمراسيله، توفي في سنة الفقهاء 94هـ، ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد، (2/ 289-293)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 124-139).

[22] أخرجه في مصنفه، في الرجل يبيع الدين إلى أجل، (7/ 275)، برقم 23561، وسنده صحيح.

[23] هو أبو كعب عبد ربه بن عبيد الأزدي البصري، روى عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجماعة، أخرج له الترمذي حديثًا واحدًا، وثقه يحيى القطان ووكيع وأحمد وابن معين وغيرهم، ينظر: التاريخ الكبير، للبخاري، (6/ 79)، تهذيب التهذيب، لابن حجر، (6/ 128).

[24] أخرجه في مصنفه، باب الرجل يعين الرجل، هل يشتريها منه، أو يبيعها لنفسه؟، (8/ 294)، برقم15274، وسنده صحيح، وابن التيمي هو معتمر بن سليمان، ثقة، ينظر: تهذيب الكمال، للمزي، (28/ 250).

[25] هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي، أبو عبد الله المصري، ويعرف بابن القاسم، عالم الديار المصرية ومفتيها، ولد سنة 132هـ، تفقه بالإمام مالك، وله المدونة، يرويها عن الإمام مالك، توفي سنة 191هـ، ينظر: الديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 146)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (9/ 120-125).

[27] ينظر: موقف السلف من التورق المنظّم، للسويلم، ص(421-427).

[28] ينظر: التورق كما تجريه المصارف، للسعيدي، ص(510).

[29] هو قتادة بن دعامة السدوسي، يكنى أبا الخطاب الضرير، حدّث عن عبد الله بن سرجس وأنس بن مالك رضي الله عنهما، وكان ثقة، حجةً في الحديث، جالس الحسن البصري اثنتي عشرة سنة، توفي سنة 118هـ، ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 171-173)، تذكرة الحفاظ، للذهبي، (1/ 122).

[30] سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 573).

[31] التورق، والعينة، والتورق المصرفي، ص(488).

[34] ينظر: المخالفات الشرعية في بطاقتي الخير والتيسير، للدعيجي، ص(15)، بطاقات المعاملات المالية، للباحوث، ص(68)، العقود المالية المركبة، للعمراني، ص(380).



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
When is The Winds of Winter coming out? Everything we know about the next Game of Thrones book – Wiki Of Thrones
Analyst Who Predicted Hump Token's 2500% Rally Reveals What's Next—Can HUMP Beat Book of Meme (BOME) in 2024? – Cryptopolitan