حال العبد مع سعة رحمة الله


خطبة: حال العبد مع سعة رحمة الله

 

الحمد لله غافرِ الذنب وقابلِ التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيء، يغفر الذنوب ويستر العيوب، ويكشفُ الكروب، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، أرسله ربُّه رحمةً للعالمين وهدايةً للمؤمنين، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الطيبين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

 

فاتقوا الله عباد الله، واشكروه وتوبوا إليه واستغفروه ﴿ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].

 

معاشر المؤمنين، ربنا هو الرحمن الرحيم، وهو الغفور الودود، وهو الرؤوف الكريم، غافر الذنب، وقابل التوب، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيء “يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا”؛ (مسلم).

 

واستمعوا لخطابه جل وعلا لعباده المسرفين على أنفسهم، قال سبحانه: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

 

فهو جلَّ وعلا سمَّاهم عبادي، وذكر أنهم قد أسرفوا على أنفسهم من الذنوب، ثم نهاهم عن القنوطِ من رحمته، وبشَّرهم أنه يغفر الذنوب جميعًا، وأنه هو الغفور الرحيم، فكيف ينصرف عبدٌ عن ربِّه بعد هذا الخطاب من الودود الرحيم؟ وكيف يقنط عبدٌ من مغفرته ورحمته؟

 

كيف لا يسارع العبد في توبته وإنابته لربِّه وهو يستمع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ”؛ (مسلم).

 

ثم تأمل يا عبدالله سعة رحمة الله بمن ارتكب أعظم الجرم وأكبر الكبائر، كيف فتح له أبواب الأمل والتوبة والرحمة ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 – 70].

 

فكيف يُبدِّل الله سيئاتهم حسنات يا عباد الله؟

قال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العملَ الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وأبدلهم بالفجور إحصانًا، وبالكفر إسلامًا.

 

والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوحِ حسناتٍ، وما ذاك إلا أنه كلما تذكَّر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنبُ طاعةً بهذا الاعتبار، وينقلب حسنة في صحيفته.

 

عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولًا إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نحُّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم – لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا – فيقال: فإن لك بكل سيئةٍ حسنةً، فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها ها هنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه”؛ (مسلم).

 

ولعل ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من ستر الله تعالى على هذا الرجل بتنحية كبائر ذنوبه وكيف أن الرجل استذكرها ليستزيد منها بتحوُّلها لحسنات.

 

واستمعوا عباد الله لهذا الحديث القدسي الذي يرويه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربه: “قال: قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ، إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ، لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئًا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً”.

 

وصدق من قال:

فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنتُه
بعفوك ربي كان عفوُك أعظما

 

وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى، وأعاننا على البرِّ والتقوى، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

معاشر المؤمنين، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 26- 28].

 

فتأمل، يا رعاك الله، كيف هي إرادة الله تعالى، وكيف هي إرادةُ المتبعين للشهوات الفاسدين المفسدين، فلأي الإرادتين ترجو؟ ولأي الغايتين تعمل وتأمل، سبيل رب العالمين أم سُبُل الضالين المضلين؟

وعَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فِيما يَحْكِي عن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ”؛ (صحيح ابن حبان).

 

وهذا الحديث، عباد الله، يُرغِّب المؤمنَ لأن يكون توَّابًا، كلما أذنب تاب لربه وأناب، وبالتأكيد هو لا يجرؤ على تكرار الذنوب والإصرار عليها، بل لتكرار التوبة بعد كل ذنب، فكما أن الله تعالى هو التوَّاب يتوب على عبده متى ما تاب إليه وأناب، فعلى العبد كذلك أن يكون توَّابًا يسارع للتوبة والإنابة متى ما أذنب، فإن الله يحب التَّوَّابين ويحب المتطهِّرين، والتوبة النصوح هي سبيل الفلاح والنجاح، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135، 136].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
شكر الله على نعمة الأمن (خطبة)
Trump backs away from far-right activist Loomer's comments but welcomes her support – Geo News