المعجم العربي: النشأة والتطور
المعجم العربي: النشأة والتطور
تحتاج اللغة من أجل حمايتها إلى كتب تضم مفرداتها، وتشرح معانيها، وتبرز خصائصها الصوتية والصرفية، أو تعمل على تبويبها وتصنيفها وَفْق انتماءاتها المعجمية، كل هذا خدمة للسان، وصونًا له مما قد يشوبه من شوائب تفسده، ومعلوم أن العرب تكلموا لغتهم بالسليقة وَفْق أنساق النحو قبل أن يتم التقعيد للعربية زمن أبي الأسود الدؤلي، لكن تفَشِّي اللحن بسبب الاختلاط العِرْقي الذي ماز الحضارة العربية وهي تلتقط ثقافات الدخيل من روم وفرس ويونان وهنود وغيرهم من الأقوام الذين وفدوا مُحمَّلين بثقافاتهم وألسنتهم التي ستجد طريقها في الأنساق اللغوية العربية، بل إنها ستقتحم كل منحى من مناحي الحياة حتى غدت جزءًا من اللسان العربي، فالتقطت المفكرة العربية مفردات لا حصر لها؛ كالزبرجد والفيروز، وأسماء الزهور؛ كالنيلوفر والنرجس، وأسماء الآلات؛ كالصولجان، والألعاب؛ كالشطرنج، وغير ذلك كثير مما لا يمكننا حصره في دائرة المعجم شاملًا كل باب من أبواب الحياة، مثلما أن اللسان العربي سيغدو هو الآخر جزءًا من لسان الأقوام بل حتى الأنحاء ستظل متقاربة إلى حد كبير كما صنعت الفارسية والعربية اللتان نهلت كل منهما من الأخرى بشكل بدا أكثر وضوحًا من غيرها من اللغات، ولا أدل على ذلك من أن الأصوات الهجائية بين العربية والفارسية شديدة التقارب.
إن فشوَّ اللحن في الثقافة العربية كان الداعي الأكبر لوضع المعجم العربي حفاظًا على اللسان من الفساد والخطل وهو لحن شمل الكل خاصة الناس وعامتهم، في إعراب الكلم الذي أخذ لأول مرة في تاريخ اللسان العربي يسلك مسلك الجزم؛ أي: دون إيضاح للأثر الإعرابي الذي يتطلب سلامة في النطق ووعيًا بما ينبغي أن يكون عليه النسق العربي الصحيح، كما شمل اللحن تصريف الكلم، فتجد المتكلم يفتح عين الفعل عوض كسرها؛ كقول القائل لما سئل: لمَ اشتريتَ هذه الأتان؟ فقال: كي تلَدَ لي – بفتح اللام – ومعلوم في التاريخ النحوي أن أبا الأسود الدؤلي هرع إلى تقعيد العربية لما أخطأت ابنته في الجملة الشهيرة التي خالها فيها مستفهمة؛ وإنما كانت تعبر عن استعظام فعل فاعل ظاهر المزية حين قالت: ما أجملُ السماءِ، فقال: نجومُها، فقالت: يا أبتِ، أنا ما استفهمت، وإنما أخبرت، فقال: بل قولي: ما أجملَ السماءَ! فدشن اللحن النحوي بداية وضع القاعدة في التاريخ اللغوي، ونفس الطريق سيسلكه علماء اللغة في اتجاه جمع مفردات العربية، وهو جمع كان مضنيًا؛ لأنه تطَلَّب الترحُّل إلى البادية حيث الأقحاح ممن لم ينزلوا مدرًا- أي مدينة- حيث الاختلاط يفسد اللسان، فكان عالم اللغة يقيم بين ظهراني القبيلة ممن اشتهروا بالفصاحة والنقاء اللغوي؛ كتميم وهوازن وبعض بوادي الكوفة، فيجمعون المفردات ويدوِّنونها، وكان منهم من يصنفها وَفْق الحقول التي تنتمي إليها من حيث الدلالة؛ كالأصمعي في كتاب المطر وكتاب النخل وغيره، ممن كتبوا في السيف واللبن، وما قالت العرب فيهما من مفردات، فكانت هذه الممارسة التصنيفية مشروعًا لتأسيس مفهوم الحقول المعجمية التي احتفت بها الدراسات الغربية.
لقد كانت عملية الجمع شاقَّة جدًّا؛ لذا كان على عالم اللغة أن يتجاوز هذا الاشتغال المكلف نحو ابتداع طرق علمية تُمكِّن المعجمي من حصر أعداد لا متناهية من المفردات، فكان دور الخليل كبيرًا في هذا الباب حين ألَّف معجمه العين الذي فتح الطريق لغيره من المعجميين، إما عبر سلوك طريقه في الترتيب الصوتي المعقد بعد أن اعتمد رياضيًّا طريقة الثنائيات والمثلثات والمربعات وطرح المهمل والحفاظ على المثبت من المفردات في معجمه، فتوالت الأعمال المعجمية التي اعتمدت منهجية علمية وإن تفاوتت في طريقة الترتيب بين ما هو صوتي بدءًا من الحلق إلى الشفة ثم إلى حروف العلة التي تركها الخليل لانقلابها، والجمهرة لابن دريد التي حاكى فيها نهج الخليل مع بعض التفاوت البنيوي، ومعجم المحكم لابن سِيْده، وتهذيب اللغة للأزهري، والصحاح للجوهري، وسيكون لسان العرب لابن منظور المعجم الأكثر تنظيمًا وسهولة، وإن اعتمد نظام الفصل والباب من بوابة الحرف الأخير؛ ليُمَكِّن الشعراء من القافية التي تعد الطريق في عرف الكتابة الشعرية نحو البيت.
لقد عرفت سيرورة المعجم العربي تطورًا بنى فيه نفسه بشكل متدرِّج منذ العصر الأموي حين كانت المنافسة في مجلس الخليفة عبدالملك بن مروان عن الإتيان بمفردات تبتدئ كل واحدة منها بحرف هجاء في جسم الإنسان فبين قائل بمفردة، وقائل باثنتين، وقائل بثلاث، ينال جائزة الخليفة وأُعْطيته، كان الإرهاص الأول للمعجمية العربية غير أن فشوَّ اللحن كان الدافع الأكبر لحفظ اللسان العربي مثلما سيصنع التقعيد الذي سار بالمحاذاة مع المعجم الذي سيشهد تطورًا منهجيًّا مستدعيًا التراكمات المنجزة ومجودًا عملية الترتيب التي كانت شديدة التعقيد زمن الخليل بن أحمد في معجمه العين الذي عبَّر عن عبقرية الخليل التي جاوزت الآفاق، فظل معجمه – في نظري – غير ذي جدوى بالنسبة للعامة من القُرَّاء؛ لأن الرجل كان يفوق بعبقريته حدود عصره التي توجهت إلى من يدانيه في الفهم والفطنة، وأيًّا ما كان الأمر فقد مَهَّد الخليل ليسير المعجم العربي بخُطى وئيدة نحو إرساء منهجية علمية قابلة للتداول مكَّنت القارئ العربي من تبين المفردة العربية وإدراك معانيها في السنن العربي.