محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولوازمها (خطبة)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولوازمها
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29]؛ أما بعد أيها المسلمون:
فإن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أَنْ بَعَثَ فيهم أفضل رسله، وخير أنبيائه؛ محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ليكون سبيلًا لهم لنَيلِ رضا الله تعالى وجنَّاته، والنجاة من غضبه وناره، بالدعوة لتوحيد الله تعالى، ونبذ الشرك، وكل ما يخالف شريعة الإسلام؛ كما قال عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، ومن لوازم طاعة الله تعالى طاعةُ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما أمر بذلك عز وجل فقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، وقال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: 92]، وغيرهما من الآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى المتضمنة الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن طاعته من طاعة الله عز وجل، وإن من أعظم ما يتقرب به المسلم إلى الله تعالى محبةَ النبي صلى الله عليه وسلم، التي من لوازمها طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألَّا يُعبَد الله إلا بما شرع، والتأسي به، فلا يتذوق العبد حلاوة الإيمان، إلا بتمام محبته للنبي صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَف في النار)).
ولا دليل صادق على محبة الله تعالى ومغفرة الذنوب إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم؛ كما قال عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
ولا يصل العبد إلى كمال الإيمان إلا بتمام محبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين)).
أيها المباركون:
المحبة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم من مؤهلات مرافقته عليه الصلاة والسلام يوم القيامة؛ روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى قيام الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددتَ لها؟ قال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها كبيرَ صلاة ولا صوم، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببتَ؛ يقول أنس: فما رأيت فَرِحَ المسلمون بعد الإسلام فرحهم بهذا)).
ومن لوازم اتباعه ومحبته صلى الله عليه وسلم أن تكون أوامره ونواهيه مقدَّمةً على أهوائنا وما تشتهيه نفوسنا، وعلى كل الأوامر والنواهي في جميع ما جاء به من المكارم والمحاسن والفضائل، في العُسر واليُسر، وعلى جوعنا وشَبَعِنا، وبلائنا ورخائنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وحال سَعَتِنا وضيقنا، وحال غضبنا ورضانا، وحال حزننا وفرحنا، وأحوالنا كلها، فهذا هو الإيمان الحق والمحبة الصادقة؛ كما قال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
أيها الفضلاء:
لقد جسَّد الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ما سمع التاريخ بمثله؛ سُئل عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: “كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا، وأبنائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ”، ومن صور ذلك ما رواه البخاري أن عروة بن مسعود أحد الموفَدين من قِبلِ قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليهم قال: “أي قومِ، والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مَلِكًا قط يعظِّمه أصحابه ما يعظِّم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا”، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصِفَه ما أطَقْتُ، لأني لم أكن أملأ عيني منه”؛ [رواه مسلم]، وفي فتح مكة حين جاء العباس رضي الله عنه بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كان عمر حريصًا على أخذ الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال العباس لعمر: “مهلًا يا عمرُ، فوالله لو كان من بني عَدِيٍّ ما قلت هذا، فقال عمر: مهلًا يا عباس، فوالله لإسلامك يومَ أسلمتَ كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إسلام الخطاب لو أسلم”؛ [ذكره ابن هشام في السيرة]، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوِّي الصفوف قبل معركة بدر، وبيده سهم، فلما وصل إلى سواد بن غزية رضي الله عنه، رآه بارزًا، فقال: ((استوِ يا سوادُ، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، فدَعْني أقْتَدِ منك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، السهم، وكشف له عن بطنه الشريف، فاعتنقه سواد وقبَّله وهو يقول له: ما حملك على هذا؟ فيقول: يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك، فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير))؛ [ذكره ابن هشام في السيرة]، وفي حادثة الغدر التي قامت بها عَضَل والقارَة، وعُرفت في السيرة بـ«يوم الرَّجيع»، كان من آثارها أن بيع زيد بن الدَّثِنَة، وخُبَيب بن عدي إلى قريش، فلما قُدِّم زيد ليُقتل، قال له أبو سفيان: أُنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك تُضرَب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا، كحب أصحاب محمد محمدًا؛ [ذكره ابن هشام في السيرة].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأما السبب في وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أكثر من أي شخص؛ فلأن أعظم الخير في الدنيا والآخرة لا يحصل لنا إلا على يد النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان به واتباعه، وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله، ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول؛ بالإيمان به ومحبته، وموالاته واتباعه”.
وإن من مقتضيات هذا الحب له صلى الله عليه وسلم أيضًا أيها المباركون: أن يُكْثِرَ المسلم من ذكره والصلاة والسلام عليه؛ امتثالًا لأمر الله تعالى القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وهذه الصلاة والسلام عليه إنما هي شيء من الوفاء، وتعبير عن محبته صلى الله عليه وسلم، مع ما فيها من الأجر العظيم لقائلها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا))؛ [رواه مسلم]، وغير ذلك من الفضائل، وأن يتمنى العباد رؤيته، والشوق إلى لقائه، وسؤال الله تعالى اللحاق به على الإيمان، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون في هذه الأمة مَن يَودُّ رؤيته بكل ما يملكون؛ روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أشد أُمَّتي لي حبًّا، ناسٌ يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)).
عباد الله: إن البرهان الصادق لمحـبة النبي صلى الله عليه وسـلم هو تعظـيمه وإجـلاله، وطاعته على كل حال؛ كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في اليُسر والعُسر، والْمَنْشَط والْمَكْرَه))؛ [رواه البخاري]، وكذا تعظيم ما جـاء به من الشـريعة الحـنيفية السمحة من غير غلوٍّ ولا جفاء، كما فهِمها سلفُ هذه الأمة، وطبَّقوها في واقع حـياتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنه عرشة، ومداد كلماته، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحبه وأجمعين؛ أما بعد عباد الله:
فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مجرد كلمات ودعاوى من غير برهان صادق بحسن الاتباع والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في جميع شؤوننا، وليست محبته بمدائح تُلقى من مدة لأخرى، أو في إحياء ليلة من الليالي من كل عام، يُزعَم بأنها ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، تُقرأ فيها الأوراد، وتُنشد فيها المدائح النـبـويــة والأوراد البدعية، وتُقام فيها الحفلات والرقصات، فليس هذا من الحب الصادق في شيء.
محبة النبي صلى الله وسلم أيها المباركون عملٌ واستقامة واقتداء، وبذل وتضحية لهذا الدين، وتقتضي هذه المحبة طاعته وتعظـيمه، والتحـاكم إلى شريعته، واتباع هديه وسـنته، وتوقـيره، والدفاع عنه، ونصرته حـيًّا وميتًا، والثـناء عليه بما هو أهله، دون الغلو فيه، عليه الصلاة والسلام، فقد نهى عن ذلك؛ روى النسائي وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاء أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد عبدُالله ورسوله، ما أُحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)).
وليحذر الذين يزعمون محبته صلى الله عليه وسلم، وقد بدَّلوا وخالفوا هديه، وهجروا سنته، وسلكوا غير سبيل المؤمنين بأعمالهم وأقوالهم وسلوكهم، أن يكونوا من المطرودين والْمُبْعَدين عن حوضه الشريف يوم الدين؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا فَرَطُكم على الحوض، فمن ورده شرِب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا، لَيَرِدُ عليَّ أقوامأعرِفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، قال: إنهم مني، فيُقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سُحقًا سُحقًا لمن بدَّل بعدي))؛ [رواه البخاري].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبنا، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عندنا من محبة أنفسنا وأهلنا، وآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وبناتنا، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم طمأنينةَ قلوبنا، وانشراح صدورنا، وأن يجعل محبته عونًا لنا على طاعة الله عز وجل وحسن الصلة به؛ إنه سبحانه وتعالى وليُّ ذلك والقادر عليه.
عباد الله: صلُّوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاء، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، ووليَّ عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومُدَّهما بنصرك وإعانتك، وتوفيقك وتسديدك، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، واحفظهم واشفِ مريضهم، وداوِ جريحهم، وتقبل ميتهم في الشهداء، وأدِمْ على هذه البلاد أمنها وإيمانها، وقيادتها ورخاءها، ومن أراد بها سوءًا فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.