طول زمن التعليم وأثره في تحصيل الملكة العلمية: الدرس الحديثي نموذجا


طول زمن التعليم وأثره في تحصيل الملكة العلمية: الدرس الحديثي نموذجًا

The length of teaching time and its impact on the attainment of scientific sufficiency: The Hadith lesson as an example.

د. أشرف بن عبدالقادر المرادي[1] / د. محمد عبدالله الأطرش[2].

 

إن المراد بـزمن التعليم المدة التي يقضيها الطالب في تلقِّي علم الحديث، وهو يختلف عن زمن التعلم الذي يُراد به: الوتيرة التي يتعلم بها المتعلم، والظروف المحيطة والمؤثرة فيه، فالأول نمطي، والثاني يخضع لاعتبارات نفسية، وعقلية، واجتماعية، وبيئية، ترجع إلى ذات كل طالب على حدة. فالثاني تراعى فيه الأحوال المختلفة والمؤثرة في مدة استيعابه. أما الأول؛ فهو نمطي يضع في الحسبان المشترك الجمعي للمتعلمين كلهم.

 

لقد تقرَّر في علم التدريس[3] (Didactics) أن للزمن أثرًا بالغًا في حصول التعلم، وأنه عنصر من العناصر المهمة في بناء التعلمات، وأنه يستبعد الحديث عن بلوغ الطالب منزلة الملكة[4]، وهو لم يُعْطِ للزمن حقه، ولم يرع للوقت حرمته. وتزداد أهميته أكثر عند الحديث عن العلوم التي تحتاج إلى أن يفني فيها الطالب زهرة عمره. وإن من أشد العلوم افتقارًا إلى ذلك علومَ الحديث، وذلك راجع إلى طبيعتها المتمثلة في كثرة المصنفات التي اختصت بذكر الرجال جرحًا وتعديلًا، والأسانيد التي تحتاج إلى جمع واستقصاء، والعلل الخفية التي تتطلب كشفًا وإيضاحًا، مع التفرغ التام لهذا الشأن، والتخلص الكامل من صوارف الحياة، والبعد ما وسعه الجهد عن المؤثرات الاجتماعية (Social influences) التي تلحق به الضرر في طلبه وتحصيله؛ إذ إن العلائق مؤثرة في التحصيل الدراسي أيما تأثير.

 

فالمتقدمون من العلماء، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكونهم امتلكوا قدرات خارقة، وعبقرية يعزُّ وجودها في الأجيال التي تليهم، فمن اعتقد هذا فقد ذهب به الظن بعيدًا، ولم يدرك أن مدار العبقرية في العلوم يرجع إلى طول زمن التعلم، والملازمة التامة لأرباب الصناعة، والتفرغ لهذا الشأن بكرةً وأصيلًا. نعم، لا ننكر فضل الله عز وجل واصطفاءه لهؤلاء الذين أخلصوا النية، وصدقوا في الطلب؛ فمنحهم الله تعالى من الفتوحات الربانية والإمدادات الصمدانية التي لم توجد في مجموع من جاء بعدهم، وفي الوقت ذاته لا ننكر أن الله تعالى يدَّخِر من الفهم والفتح للمتأخِّر ما لم تشرف عليه أنظار المتقدمين، والشواهد في ذلك تطول، أردنا التنبيه فقط على عنصر الزمن، ومقدار تأثيره في نبوغ الطالب، ووصوله إلى منزلة الملكة.

 

فمن استغرق زمنه بالتحصيل، ووسعت أوقاته الاشتغال، والنظر، والتدريب، والممارسة؛ فلا شك أن يضرب بسهم وافر في علم الحديث، وأن يدخل في زمرة المتحققين به، البالغين فيه شَأْوًا بعيدًا، ولما ذكر صلاح الدين الصفدي (ت764هـ) عوامل نبوغ ابن تيمية (ت728هـ) – مثلًا – أرجع ذلك كله إلى العامل السيكولوجي المتمثل في الرغبة المتَّقِدة، والهِمَّة العالية، وطول زمن التعلُّم؛ فقال: “كان من صغره حريصًا على الطلب، مجدًّا على التحصيل والدَّأْب، لا يؤثر على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظة منه في البطالة فذة، يذهل عن نفسه، ويغيب في لذة العلم عن حسِّه، لا يطلب أكلًا إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاح إلى طعام ولا شراب في أبرديه”[5].

 

لا نبالغ إن قلنا: إن طول زمن التعَلُّم من أهم الشروط التي استطاع المحدثون البلوغ من خلالها إلى منزلة الملكة؛ إذ تجد الطالب يقضي سنوات في التحصيل، ويمضي السنين في الطواف على أئمة الحديث، والرحلة في سبيل تحصيل عوالي أسانيدهم، وثني الركب في حِلَق إسماعهم، فلا يزال يرتقي في سُلَّم منازل العلم بتُؤَدَة وتدرُّج حتى يتشرب العلم شيئًا فشيئًا، فيحكم أصوله، ويتقن قواعده، ويرتاض على مسائله، فلا يزال على هذا الحال قائمًا حتى يختمر علم الحديث في ذهنه، ويتحقق به على التمام والكمال، ويستولي عليه استيلاء المستوعب له، إلى أن يصل إلى درجة الحذق، بلوغًا إلى منزلة الملكة، وتلك هي الغاية من دراسة علم الحديث.

 

وقد جاء في ترجمة المحدث أبي طاهر عماد الدين السِّـلَـفِي (ت576هـ) أنه بقي في الرحلة بضع عشرة سنة، وسمع ما لا يوصف كثرةً، ونسخه بخطه، وكان متقنًا، ضابطًا، ناقدًا[6].

 

إن لطول زمن التعلم، والملازمة للشيخ أثرًا بالغًا في الكشف عن عِلَل الأحاديث، ومعرفة من يقبل تفرُّده ممن يُرد؛ بمعنى أن الطالب الملازم لشيخه، المتردد على حِلَق إسماعه وإملائه، يجعله لا محالة مختصًّا به، ومقدمًا في معرفة مروياته على غيره، فإذا تعارضت مروياته مع مرويات من لم يُعْرف عنه طول الملازمة، أو اختلف في بعض الأحاديث على ذلك، فلا شك أن يقدم وترجح مروياته؛ لأن “له خبرة واسعة بحديث شيخه، وضبط، وتحفظ، وإتقان شديد، ومعرفة دقيقة بها، الأمر الذي سيؤدي إلى أن يكون مصدرًا لقوة حديثه وترجيحه”[7]، وهذه النكتة البديعة من أهم القرائن التي يُستعان بها في معرفة العلل الخفيَّة، وهي البحث في علاقة الطالب بشيخه، فهذه الملازمة قد تجعل من وصف بالضعف من حيث العموم مقدمًا على الثقة من حيث العموم في هذا بعينه، فقد يكون الحكم العام لهذا الراوي أنه ضعيف، ولكن مرويَّاته عن هذا نظرًا لطول ملازمته له، وصحبته له دهرًا من الزمان، جعله يقدم على غيره، وهذا ما يعرف في علم العِلَل بـالتراجم المُعلَّة.

 

يقول د.البشابشة: “يعد حفظ الراوي وملازمته للشيخ القُطْبَ الذي تدور عليه رحى العلاقة الخاصة بين الراوي وبين شيوخه؛ لكونهما يكشفان عن موطن القوة والضعف في حديث الراوي من هذه الزاوية […] والمقصود بملازمة الراوي للشيخ: المدة التي يقضيها الراوي مع الشيخ في التحَمُّل عنه، أو السماع منه، أو العرض عليه”[8].

 

وإذا جمع الطالب إلى جانب طول الملازمة والصحبة، بحث شيخه في العِلَل الخفية، والمسائل الدقيقة في الرجال، فقد حاز القِدْحَ المُعَلَّى في الحديث. ومن أمثلة ذلك ما جاء في ترجمة الحاكم النيسابوري (ت405هـ) – مثلًا – من اختصاصه بصحبة إمام وقته أبي بكر أحمد بن إسحاق الصِّبْغي (ت342هـ)، فكان يراجعه في السؤال، والجرح والتعديل، والعلل”[9].

 

وهذه الملازمة الطويلة – مثلًا – هي التي جعلت أحمد بن حنبل (ت241هـ) يرجح رواية عبدالملك بن جريج على رواية عبدالملك بن أبي سليمان؛ لأنه كان أثبت في عطاء بن أبي رباح وألزم له من غيره؛ فقال: “أثبت الناس في عطاء عمرو بن دينار وابن جريج، قال: ولقد خالفه حبيب بن أبي ثابت في شيء من قول عطاء أو حديث عطاء، فكان القول ما قال ابن جريج”[10]، وقال في موضع آخر: “أقضي بابن جريج على عبدالملك في حديث عطاء”[11].

 

وعند البحث في العِلَّة الموجبة لهذا الترجيح؛ نجدها راجعةً إلى طول الصحبة والملازمة، كما أخبر ابن جريج عن نفسه حيث قال: “صحبت عطاء عشرين سنة، وصحبت ابن أبي مليكة سبع سنين”[12].

 

والشواهد على ذلك كثيرة؛ أردنا التنبيه من خلالها على تعدي أثر الملازمة والصحبة الطويلة لتشمل قواعد العلم نفسه، وليست فائدتها قاصرة على تكوين الملكة لدى الطالب فقط. أما عوائد طول زمن التعلم على المحدث والطالب فكثيرة فوائدها، متعددة ثمارها، ولا تكاد تطالع كتابًا من كتاب السِّيَر والتراجم إلا وتجد للملازمة النصيب الأكبر، والحظ الأوفر في تكوين الشخصية الحديثية، وارتسام معالمها.

 

ومن الشواهد الأثيرة الدالة على أثر الملازمة وطول التحصيل في تكوين الملكة الحديثية[13]، قول أبي حاتم الرازي (ت277هـ): “أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته […] كل ذلك ماشيًا، كل هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين”[14].

 

فهذا النص علاوة على تنبيـهه على أثر زمن التعلُّم في بناء الملكة الحديثية لدى أبي حاتم الرازي، تضمن أمرًا في غاية الأهمية، وهو: التحصيل في وقت مبكر، وهذا الشرط من اللبنات التي تُشَيَّد بها الملكة لدى الطالب؛ لأن منازل الملكة من خصائصها أنها لا تنبثق دفعة واحدة، ولا تصير هيئة نفسانية لدى الطالب في مدة قصيرة، بل لا بد فيـها من طول زمن التعليم، والتبكير ما أمكنه في الطلب والتحصيل، ولما كان هذا الأمر من شروط التحقق بعلم الحديث، فإن المحدثين استشعروه أثناء حديثهم عن السن التي يصح فيها التحَمُّل، فذكروا خمسًا، وقيل: أربعًا. والصواب أن الأمر راجع إلى التمييز[15]، ومهما يكن من خلاف بينهم في ذلك، إلا أن الشاهد من سوقه التنبيه على ضرورة البداء في تحصيل الحديث النبوي وعلومه في الصغر ما أمكن؛ لأنه أشد استحكامًا ورسوخًا، ولأنه أصل لما بعده.

 

يقول ابن خلدون (ت 808 هـ): “تعليم الصغر أشدُّ رسوخًا، وهو أصل لما بعده؛ لأن السابق الأول إلى القلب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه”[16].

 

والمحدِّثون لما استشعروا أهمية التلقي في الصغر، كان الواحد منهم يصحب معه ابنه إلى حِلَق التحديث، حتى يستأنس بحِلَق أهل العلم، فيكون ذلك عونًا له على الانقياد بطواعية واختيار إلى التخصص في الحديث النبوي، والإقبال عليه بكُلِّيَّتِه، وتحَمُّل مشاقِّه ولَأْوائه.

 

وقد نُقِل عن أبي مسعود الضبي الرازي (ت258هـ) في تحديده سِنَّ تحَمُّله وكتابته للحديث، قوله: “كتبت الحديث وأنا ابن اثنتي عشرة سنة […] وذُكِرْت بالحفظ، ولي ثمان عشرة سنة، وسميت بالرويزي”[17]. فعَقَّب الذهبي (ت748هـ) على ذلك بقوله: “بَكَّرَ بطلب العلم؛ لأن أباه من أهل الحديث أيضًا”[18].

 

وبعض الطلبة كان يشرع في تحصيل علم الحديث في سِنِّ المراهقة، وهي سِنٌّ يجتمع فيها من قوة الشباب، والقدرة على التحَمُّل ما لا يتوفر له في مستقبل أيامه؛ لذلك كانوا يبكرون بالسماع قبل انحلال عقد طراءة الصبا، وربق الشباب.

 

يقول الذهبي في ترجمة الحسين بن سليمان الكفري (ت719هـ): “قدم من قريته مراهقًا؛ فاشتغل وسمع من ابن طلحة النصيبي وغيره”[19].

 

والشواهد على ذلك كثيرة[20]، أردنا التنبيه من خلال ما سقناه منها على أهمية التبكير والطلب في سِنِّ الفتوة، وأثره في تحصيل المَلَكة الحديثية. أما من تقطَّعت به سُبُل الطلب، وصرفته العوارض، وألمَّت به المُلِمَّات، وانساق وراء ماجريات المجتمع؛ فلا يَتَعَنَّ في طلب الحديث وعلومه، ولا يوهم نفسه الرسوخ فيه؛ لأن علم الحديث لا يقبل المزاحمة، ويأبى إلا التفرغ التام له، والبداءة فيه مبكرًا.

 

ولما ذُكِرَ عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، ونصرتُه للسُّنَّة، ودفاعه عن حياضها، نُقل ما يدل على اختصاصه بمكحول بن أبي مسلم، وفي سياق ذلك قال موسى بن يسار: “وكان [أي: الأوزاعي] صحب مكحولًا أربع عشرة سنة، يقول: ما رأيت أحدًا أبصر، ولا أنفى للغل عن الإسلام أو السُّنَّة من الأوزاعي”[21].

 

ويقول الحاكم في شيخه أبي الحسين محمد بن محمد الحجاجي (368هـ): “العبد الصالح الثبت الصدوق، كان من الصالحين المجتهدين في العبادة، صحبته نيفًا وعشرين سنةً ليلًا ونهارًا”[22].

 

وبعض الأئمة صحب شيخه إلى أن توفي، كما نقل ذلك الوادي آشي في برنامجه، أنه لازم شرف الدين عبدالله بن عبدالغني المقدسي إلى أن مات[23].

 

والشواهد على طول الملازمة كثيرة، أختمها بعبق نقله الصفدي عن المُحدِّث إبراهيم بن عيسى المرادي (ت668هـ) قال: “كان بارعًا في معرفة الحديث ونسخه، وعلومه، وتحقيق ألفاظه، لا سيَّما الصحيحين، ذا عناية باللغة والنحو والفقه ومعارف الصوفية، حسن المذاكرة فيها، وكان عندي من كبار المسلكين في طرائق الحقائق، حسن التعليم، صحبته نحو عشر سنين، لم أرَ منه شيئًا يُكْرَه، وكان من السماحة بمحل عالٍ على قدر وَجْدِه. وأما الشفقة على المسلمين ونصيحتهم؛ فقلَّ نَظِيرُه فيهما”[24].

 

فهذا النص علاوة على بيانه للمدة التي قضاها الصفدي في صحبة شيخه، نصَّ على أمور في غاية الأهمية، وهي مما يكمل بها طالب الحديث، ويصل بها إلى المنزلة الرفيعة في هذا العلم، وهي ما يعرف في علم التدريس المعاصر بكفايات المدرس[25]، مشيرًا إلى الكفاية التربوية[26]، والكفاية الخلقية[27]، والكفاية المعرفية[28].

 

ولما ذكر السخاوي (ت 902 هـ) نبوغ ابن حجر (ت 852 هـ) أرجع ذلك إلى طول زمن التعلُّم وإلى تلقيه الحديث النبوي وعلومه على إمام حاذق، وهو العراقي، مع حبِّه وإقباله على ذلك بكُلِّيَّتِه، فقال: “حبب الله عز وجل إليه فن الحديث النبوي، فأقبل عليه بكُلِّيَّتِه، وأول ما طلب بنفسه في سنة ثلاث وتسعين، لكنه لم يكثر من الطلب إلا في سنة ست وتسعين. فإنه -كما كتب بخَطِّه رضي الله عنه- رفع الحجاب، وفتح الباب، وأقبل العزم المصمم على التحصيل، ووفق للهداية إلى سواء السبيل. فأخذ عن مشايخ ذلك العصر وقد بقي منهم بقايا. وواصل الغدو والرواح إلى المشايخ بالبواكر والعشايا. واجتمع بحافظ العصر زين الدين أبي الفضل عبدالرحيم بن الحسين العراقي، فلازمه عشرة أعوام. وتخرج به، وانتفع بملازمته. وقرأ عليه الألفيَّة له و شرحها له بحثًا”[29].

 

وقال ابن عبدالهادي: “اعتنى أبو محمد من صغره إلى كبره بالطلب، وروى العالي والنازل، وكان إمامًا في هذا الشأن، بصيرًا به، معروفًا بالإتقان، حافظًا لأسماء الرجال”[30].

 

إن من أكبر العوادي التي أصابت طالب الحديث في هذا الزمان: العَجَلة في التلقِّي، والسرعة في التحصيل، والمبادرة إلى التصدُّر قبل استيعاب العلم واختماره في قلبه، فتجده يلوك لسانه بالحديث في قضايا حديثية لم يتأهَّل لها، وهو لم يمارس التخريج، ولا قَلَّب النظر في كُتُب العِلَل، ولا هو ممن اكتسب ملكة التصوُّر[31] قبل ملكة التصرُّف[32]، والسبب في ذلك راجع إلى افتقاره إلى طول زمن التعليم، وعدم ثني الركب على أئمته المتحقِّقين به.

 

ورحم الله الذهبي عندما وصف أحد من كان قليل الاشتغال بالحديث بأنه لعَّاب لم يتحقق بعلم الحديث، فقال في علي الكركي: “أحد من طلب الحديث قليلًا، وقرأ وأثبت، سمعت بقراءته جزءًا واحدًا وأنشدنا أبياتًا، وكان لعَّابًا يؤنسنا”[33].

 

ولما استشعر المحدثون من بعض الطلبة استعجالهم التصدُّر، والعجلة في الطلب والتحصيل، كانوا يرفضون التحديث، علمًا منهم أن الاستعجال لا ينبت روح العلم في صدر الطالب، ولا يبلغه إلى منزلة يصير فيها ذا مَلَكَة يجاري بها أئمته الراسخين فيها؛ لذلك أبى يحيى بن معين أن يحدث طالبًا لما استشعر عجلته إلى التصدُّر، وأبى أن يُحدِّثه؛ قال جعفر بن أبي عثمان: “كنا عند يحيى بن معين فجاءه رجل مستعجل، فقال: يا أبا زكريا، حدثني بشيء أذكرك به. فالتفت إليه يحيى، فقال: اذكرني أنك سألتني أن أحَدِّثَكَ فلم أفعل”[34].

 

صحيح أن المُحدِّثين اختلفوا في السِّنِّ التي يستحبُّ فيها للطالب الجلوس للتحديث، ولكن المتفق عليه بينهم أن ذلك منوط بالأهلية، وبالتمَكُّن من زمام العلم وناصيته، ولما كان كمال هذه الشروط لا يستوفيه في الغالب الأعم إلا من قضى عمرًا مديدًا في الطلب والتحصيل، جاء حَثُّهم على الجلوس في سنِّ الأربعين؛ لأنها حد الاستواء، ومنتهى الكمال[35].

 

قال الخطيب البغدادي: “لا ينبغي أن يتصدَّى صاحب الحديث للرواية إلا بعد دخوله في السِّنِّ، وأما في الحداثة؛ فذلك غير مستحسن”[36].

 

وفي كلامه: محذوف ينبغي تقديره، وهو: لا ينبغي أن يتصدى صاحب الحديث للرواية إلا بعد دخوله في السِّنِّ التي بلغ فيها شرط الأهلية، ولم يحدد سِنًّا معينة لذلك؛ لأن العلة في الجلوس أمران: كمال الأهلية، وحاجة الناس إلى ما عنده؛ لذلك قال: “فإن احتيج إليه في رواية الحديث قبل أن تعلو سِنُّه؛ فيجب عليه أن يُحدِّث ولا يمتنع؛ لأن نشر العلم عند الحاجة إليه لازم، والممتنع من ذلك عاصٍ آثم”[37].

 

ولما ذكر ابن الصلاح (ت 643 هـ) استدراكه على القاضي عياض (ت 544 هـ) بجلوس من لم يبلغ السن المتعارف عليها بين المحدِّثين، أناط ذلك بالأهلية، فقال: “أما الذين ذكرهم عياض ممن حدث قبل ذلك؛ فالظاهر أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمت، ظهر معها الاحتياج إليهم فحدثوا قبل ذلك”[38].

 

وقبل طيِّ صفحة طول زمن التعلم، أراني ملزمًا بإثبات متابع يجمع المعاني التي ذكرتها قبل، وهو من الشواهد الأثيرة والنصوص الثمينة التي ضمَّت الشروط النفسية والاجتماعية والتربوية التي يبلغ بها الطالب منتهى الكمال في طلبه، ويصل بها إلى مرتبة الملَكَة في علمه.

 

يقول المربي الماوردي: “وأما الشروط التي يتوفَّر بها علم الطالب وينتهي معها كمال الراغب مع ما يلاحظ به من التوفيق ويمد به من المعونة؛ فتسعة شروط:

أحدها: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.

والثاني: الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم.

والثالث: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوَّره وفَهْم ما علمه.

والرابع: الشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يُسْرِع إليه الملَل.

والخامس: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب.

والسادس: الفراغ الذي يكون معه التوفُّر، ويحصل به الاستكثار.

والسابع: عدم القواطع المذهلة من هموم، وأمراض.

والثامن: طول العمر واتساع المدة؛ لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال.

والتاسع: الظفر بعالم سمح بعلمه، متأنٍّ في تعليمه.

 

فإذا استكمل هذه الشروط التسعة؛ فهو أسعد طالب، وأنجح متعلم”[39].

 

فهذا النص مؤسس لأصول التربية عند المسلمين، متضمن للشروط التي بها قوام العملية التعليمية، والمداخل التي لا يحصل التعلم إلا باعتبارها، كما نستطيع القول: إنه من أوائل النصوص المؤسسة للصنافات[40]في علم التدريس. أما الشروط؛ فهي متوزعة إلى شروط نفسية: العقل، الفطنة، الذكاء، الشهوة، وشروط اجتماعية: الاكتفاء، الفراغ، عدم القواطع، وشروط تربوية: طول العمر، الظفر بعالم سمح، والذي يهمني منها في هذا المقام هو الشرط الثامن، المتضمن لطول زمن التعلم، الذي يحصل به الاستكثار والتمام في الطلب.

 

يقول فخر الدين الرازي (ت 606 هـ): “أمر التعَلُّم لا يتأتَّى في جلسة واحدة، ولا يتم في الخفية، بل التعَلُّم إنما يتم إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلم أزمنة متطاولة، ومددًا متباعدةً”[41].

 

وبهذه الشواهد النفيسة، والنصوص الثمينة، نكون قد استوفينا الحديث عن طول زمن التعليم مع بيان أثره في تكوين المَلَكَة الحديثية.


[1] دكتوراه في الحديث وعلومه.

أستاذ التـربية الإسلامية بالسلك الثانوي التأهيلي، الأكاديمية الجهوية للتـربية والتكويـن لجهة فاس – مكناس.

أستاذ زائر بالمدرسة العليا للأساتذة، جامعة سيدي محمد بن عبدالله، فاس، المملكة المغربية.

البـريد الإلكتـروني: achraf.mouradi@usmba.ac.ma

[2] دكتوراه في علوم الحديث ومناهج التدريس.

أستاذ التـربية الإسلامية بالسلك الثانوي الإعدادي، الأكاديمية الجهوية للتـربية والتكويـن لجهة فاس – مكناس.

أستاذ زائر بالمدرسة العليا للأساتذة، جامعة سيدي محمد بن عبدالله، فاس، المملكة المغربية.

البـريد الإلكتـروني: Latrach.mohammed.94@gmail.com

[3] علم التدريس: هو علم تطبيقي معياري يـهتم بالعلاقة بيـن المدرس والمتعلم ومحتويات التدريس وأهدافه وطرقه وتقنياته، وأشكال تنظيم مواقف التعلم التـي توضع أمام المتعلم لتسهيل ظهور تمثُّلاته قصد توظيفها في العملية التعليمية. ينظر: حليم، سعيد بن محمد، علاقة المتعلم بالأستاذ في ظل المستجدات التـربوية، ط1، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2012م، ص27.

[4] الملكة: صفة راسخة في النفس، وتحقيقها أنها تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية، وتسمى حالة، وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة. الجرجاني، علي بن محمد (توفي 816هـ/ 1413م)، التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، القاهرة، دار الفضيلة، ص192-193.

[5] الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق: علي أبو زيد، ونبيل أبو عمشة، ومحمد موعد، ومحمود سالم محمد، ط1، بيروت: دار الفكر المعاصر، دمشق: دار الفكر، 1998م، 1/ 236.

[6] ابن عبدالهادي، شمس الدين محمد بن يوسف، طبقات علماء الحديث، تحقيق: أكرم البوشي، وإبراهيم الزيبق، ط2، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1996م، 4/ 73.

[7] البشابشة، أحمد بدري، التراجم المعلَّة: دراسة تأصيلية لبنية تراجم الرواة بالنظر لأحوال الراوي ومروياته وموقف النقاد منها، ط1، المدينة المنورة، مركز إحسان لدراسات السنة النبوية، 2017م، ص121.

[8] البشابشة، التراجم المعلة، ص118.

[9] الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد، تَذْكِرة الحُفَّاظ، تحقيق: عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، حيدر آباد: دائرة المعارف العثمانية، 1375هـ، 3/ 164.

[10] ابن حنبل، أبو عبدالله أحمد، العلل ومعرفة الرجال، تحقيق: وصي الله عباس، ط2، الرياض: دار القبس، 2006م، 3/ 219، رقم: 4952.

[11] المصدر نفسه، 3/ 254، رقم: 5123.

[12] ابن أبي حاتم، عبدالرحمن بن محمد، الجرح والتعديل، حيدر آباد الدكن: طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، صورتها: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1952م، 5/ 356-358.

[13] الملكة الحديثية: هي اكتساب مسائل علم الحديث، والقدرة على التصرف فيـها تخريجًا، وتصحيحًا، وتضعيفًا، وتدريسًا، وتأليفًا. يـنظر: حليم، سعيد بن محمد، أسس ومسالك اكتساب الملكة الحديثية، فاس: منشورات البشيـر بنعطية، ط 1، سنة: 2020م، ص 48.

[14] ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، 1/ / 359-360.

[15] ينظر: عياض، أبو الفضل ابن موسى اليحصبي، الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع، تحقيق: محمد البيضاني، ط1، المدينة المنورة: الناشر المتميز، 2017م، ص141-142-143.

[16] ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد، المقدمة، اعتنى به: مصطفى شيخ مصطفى، بيـروت: مؤسسة الرسالة، 2012م، ص 602.

[17] الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد، سيـر أعلام النبلاء، أشرف على التحقيق: شعيب الأرنؤوط، ط3، بيـروت، مؤسسة الرسالة، 1985م، 12/ 485.

[18] نفس المصدر، 12/ 485.

[19] الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد، المعجم المختص بالمحدِّثين، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، ط1، الطائف: مكتبة الهيلة، 1988م، ص198.

[20] ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، 12/ 481-12/ 485-13/ 313-13/ 359-13/ 360، وينظر: الذهبي، المعجم المختص بالمحدثين، ص18-183-185.

[21] ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، 1/ 206.

[22] الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، الوافي بالوافيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، بيروت: دار إحياء التراث، 2000م، 1/ 116.

[23] الوادي آشي، محمد بن جابر، البرنامج، تحقيق: محمد محفوظ، ط1، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1980م، ص12.

[24] الصفدي، الوافي بالوفيات، 6/ 52.

[25] نقصد بكفايات المدرس مجموع المؤهلات العلمية، والمنهجية، والتربوية، والخلقية، الواجب توفرها في المدرس لممارسة مهنة التدريس.

[26] الكفاية التربوية: الإحاطة بقواعد علم التدريس، والاطِّلاع الوظيفي على علم النفس التربوي والمعرفي، ومواكبة نتائج الأبحاث الميدانية التي يقوم بها المتخصصون في علوم التربية.

[27] الكفاية الخلقية: هي مجموع الصفات المتعلقة بجانب السَّمْت، والخُلُق، والهيئة التي ينبغي توفرها في المدرس لممارسة مهنة التدريس.

[28] الكفاية المعرفية: امتلاك القدرة المعرفية المرتبطة بعلوم الحديث من خلال ضبط مباحثه وقواعده، والإلمام بأمهات مصادره، والإحاطة الكافية بمضامينه التي تؤهله للتدريس والتأليف.

[29] السخاوي، شمس الدين محمد بن عبدالرحمن، الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، ط1، بيروت: دار ابن حزم، 1999م، 1/ 126.

[30] ابن عبدالهادي، طبقات علماء الحديث، 4/ 187.

[31] مَلَكَة التصوُّر: نقصد بها اكتساب الجانب النظري في علم الحديث، من التعرُّف على مسائله الكلية، ومباحثه الإجمالية، وما له صلة بجانب الاكتساب.

[32] ملكة التصرف: القدرة على تطبيق ما اكتسبه، وتنزيل ما تَلَقَّاه من مسائل ومباحث نظرية، والتأهل لتوظيفها في تخريج الأحاديث، والحكم عليها بالصحة أو الضعف، مع بيان أحوال رواتها جرحًا وتعديلًا، والكشف عن العِلَل الخفية.

[33] الذهبي، المعجم المختص بالمحدثين، ص178.

[34] المزي، يوسف، تهذيب الكمال، تحقيق: بشار عواد معروف، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1980م، 31/ 560.

[35] ينظر: الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق: محمود الطحان، الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، 1983م، ص212.

[36] نفس المصدر، ص212.

[37] نفس المصدر، ص213.

[38] ابن الصلاح، أبو عمرو الشهرزوري، علوم الحديث، تحقيق: نور الدين عتـر، ط22، دمشق، دار الفكر، بيـروت، دار الفكر المعاصر، 2017م، ص238.

[39] الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، أدب الدنيا والدين، تحقيق: محمد المنيع، ط1، الرياض: دار الإفهام، 2018م، ص67-68.

[40] الصنافة: نظام لتـرتيب الأهداف البيداغوجية وتنظيمها وفقًا للمجالات التي تنتمي إليـها. ينظر: غريب، عبدالكريم، المنـهل التـربوي، منشورات عالم التـربية، ط1، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2006م، 2/ 904.

[41] الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، مفاتيح الغيب، ط3، بيـروت: دار إحياء التراث العربي، 1420ه، 20/ 272.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
{وهو الخلاق العليم}
العلم والتعلم