مسرحية: حوار في الطبيعة
حوار في الطبيعة
(تُفتَح الستارة فيظهر حقل به صفصافة وشجيرات (شجيرة لوز، زيتونة، شجيرة تفاح، شجيرة برتقال، شجيرة رمان، شجرة تين) وشجرة سرو وبضع شجيرات من ألوان أخرى تقف على مسافات متقاربة وألوان من زهور).
المشهد الأول: (السماء آخذة في التلبُّد بالغيمات التي تغزلها كفُّ الرياح وتسوقها سوقًا عنيفًا، شجيرات في الحقل تتأوَّه من تقلُّب الطبيعة، تتمايل أغصانها الصغيرة في عنف).
نظرت إليها صفصافة سامقة وقالت (بنبرة هازئة) بالشجيرات الصغيرة القريبة مع استعراض لقوتها (دافعة صدرها للأمام): أمرك مضحك أيتها الشجيرات، إني أخشى عليكِ من الطيران؛ لكن ذلك سيكون ممتعًا لك، ها ها ها، تعالت ضحكاتها وهي تقول: وهل منكن من تستطيع أن تطاول سموقي وتضاهي قوامي الفاره أيتها الأشجار المعتوهة، فأمثالكن خير لهن أن يصرن حطبًا للتدفئة، على الأقل سيجد فيكن الإنسان شيئًا من منفعة، يا عبئًا على الطبيعة وثقلًا على الوجود.
شجرة لوز (ترد ممتعضة): كُفِّي أيتها الصفصافة عن إهانتنا، نعم نحن شجيرات صغيرة لكننا سنكبر ونثمر.
ونطقت شجرة زيتون (في غضب) كانت بمحاذاتها: دعي الغرور جانبًا أيتها الصفصافة، فهل تظنين سموقك شأنًا وأنت لا تمنحين الإنسان ثمرةً تُغذِّيه؟ إنك حقًّا مثار للسخرية.
المشهد الثاني: (الرعد يزمجر والوجود مكفهرٌّ، سماء تلبَّد غيمُها تؤذن بهطول المطر، والشجيرات تحتمي ببعضها البعض).
الصفصافة هازئة: يا للمساكين! ما رأيكن أن تحتمين بجذعي القوي سيوفر لكن بعض الحماية، أو ما رأيكن أن تتدثرن بأوراقي حتى لا تبللكُنَّ غيوم السماء، فأجسامكن الهزيلة لن تتحمل البلل وبرودة الطقس هذا الصباح، وأردفت (بنبرة ساخرة مشيحة بوجهها عنهن): مساكين حقًّا! ها ها ها.
ردت شجرة تفاح (بنبرة حادة): كُفِّي أيتها الصفصافة الحمقاء عن هرائك، فلسنا بحاجة إليك، ستمر العاصفة وسننجو بأنفسنا؛ لكن احذري عاقبة الغرور؛ فقد هلك من كان قبلك من أهل الغرور.
امتعضت الصفصافة وزمجرت وهي تقول: أنت أيتها الشجرة الحقيرة! كيف تجرئين على مخاطبتي بهذه الطريقة؟! من تظنين نفسك وأنت مجرد شجيرة بائسة؟
فردت الشجرة: ومن خوَّل لك أن تتطاولي علينا؟! ألستِ تخجلين من نفسك؟
أرادت الصفصافة أن تتكلم فقاطعها شجر السرو الذي سمع ما دار بينها وبين الشجيرات، فقال: صمتًا أيتها الصفصافة المغرورة! لقد سمعت تطاولك واحتقارك لأخواتك من الشجيرات، ألستِ تعلمين أن الله خلق كل شيء بقدر؟ وأنك قد أسأتِ التصرُّفَ مع الشجيرات، فعِوَض أن توفري لهم الحماية من العاصفة وتضمي أغصانها إلى صدرك فتدفئينها بحنانك، رأيتِ نفسك فوق الجميع، كأنك تثمرين ذهبًا وأنت عقيم كعجوز شمطاء.
غضبت الصفصافة وقالت والثورة تغلي داخلها: أنت أيها السرو، ما شأنك؟ هل حركتك الحمية أم ماذا؟ تقولها وهي تشيح بوجهها نحو السماء.
المشهد الثالث: (دوِيُّ رعد يجلجل في المكان، وبرق يومض يخطف الأبصار، يختلط بصوت مهيب لا يخفى على الجميع، إنها الطبيعة الأم وزَّعت نظراتها بين الجميع) وقالت (باتِّزان وحكمة): أيتها الشجيرات، أيتها الصفصافة، أيها السرو، وأنتن يا بناتي الزهور، قد سمعت جدالكن ورأيت أن الوقت قد حان للتدخُّل كي أصلح ذات البَيْن بينكن، إن الله تعالى خلق كل عنصر في هذا الكون وحباه ميزات وخصائص بها يتفرَّد ويمتاز، ولو أنه جعل الأشياء سواء لفسد ميزان الكون، ولما استقامت الحياة، وقد كنت شديدة الإصغاء إلى ما دار بينكن من حوار وقد رأيت (تتوجه بنظراتها إلى الصفصافة) اغترار ابنتي الصفصافة كل الاغترار، ومدى احتقارها لأخواتها من الشجيرات في الوقت الذي احتاجت فيه الشجيرات إلى من يحميها من العاصفة، نسيت دورك في الوجود أيتها الصفصافة، ورغم أن ولدي السرو حاول أن يردك إلى جادة الصواب أخذتك العزة، ولو أنك سمعت كلامه لكان خيرًا لكِ، ألم تري أن البرق قد أومض قبيل قليل؟ وقد أنذرك من عاقبة الغرور، فلو أني سمحت له بإصابتك لفعل واحترقتِ، فلا تخالي سموقك مَحْمدةً لك؛ فقد يكون فيه شر لكِ إذا لم تتواضعي، فكم من الشجرات السامقات أصابهن برق السماء لغرورهن وتطاولهن، ولم يصب شجيرات مختبئات في الأرض أو غيرهن مما تواضعن لله، فإياكِ والاغترار بحجمك وسموق قامتكِ يا ابنتي.
ردت الصفصافة (ورأسها مطأطئ): نعم أيتها الأم، لقد تطاولت على أخواتي واستهزأت بهن، لكن ألا ترين أنهن ما زلن ضعافًا لا يفِدْنَ في شيء سوى الكلام والثرثرة.
قفزت شجرة برتقال من موضعها وهي تنفض عن أوراقها قطرات المطر: أيتها الصفصافة، لقد كنت أودُّ التدخل لكنني لم أجرؤ على مقاطعة أُمِّنا الطبيعة، فقد غاليت في التقليل من شأننا وعدمت دورنا في هذا الوجود، انظري إليَّ، نعم أنا شجيرة صغيرة لكنني بُعيد شهور سأزهر زهرًا جميلًا تفوح منه رائحة تضوع المكان، ومن جوفه ستخرج ثمرة هي لذة للآكلين، وفيها جمال للناظرين، فماذا عنك؟ أرأيتك تثمرين كما أثمر؟
وقالت شجيرة اللوز: أما أنا فسأثمر فاكهة جافة حلوة المذاق، يتهافت عليها الصغار والكبار، هي مهوى الأفئدة، ومطلب الأيادي، تجني من أفناني الرطيبة حبات كأنها الدرر.
وقالت شجيرة التفاح: نعم أيتها الصفصافة، نحن ضعاف ولسنا نضاهيك قوةً ولا طولًا ولا حجمًا، لكني أنا – شجيرة التفاح – ستورق برعماتي من أماليدي الغضَّة، وتخرج زهرًا جميلًا يُكلِّله قطر الندى، يثمر فاكهة طيبة كانت مهوى الإنسان منذ بداية الخليقة وما زالت أنيسته في مجالسه لا يخلو منها طبق على الإطلاق.
وغير بعيد عن الشجيرات تقدمت شجرة رُمَّان بخطى حثيثة وهي شديدة الامتعاض وقالت: لقد تجاوزت حدودك أيتها الصفصافة، لم أكن أشاء التدخل؛ لكنني رأيت أن صمتي فيه ظلم لإخوتي وسكوت عن الحق، فأنا شجرة الرُّمَّان، فاكهتي ذكرها الله في كتابه، أثمر في الخريف بعدما تمتلئ أغصاني زهرًا جميلًا يتحوَّل بإذن الله إلى فاكهة حمراء مثقلة بالحب المتراكب حلو المذاق وقد رأيت أخواتي من الأشجار الكبيرة كيف تجود أياديها بثمرات الرمان.
شجيرة الزيتون: ولا تنسي أيتها الصفصافة أني أيضًا ذكرت في كتاب الله، وأن فضلي كبير على الإنسان، يجني مني كل عام حبَّات الزيتون ويعصرها زيتًا، طيبة فيها غذاء ودواء للأجساد.
شجيرة تين جاءت تتهادى في خطوها وقطر الماء يملأ ورقاتها السميكة وقالت وهي (تمسح عنها بعض القطر): وأنا شجرة التين، جعلني الله قرينة الزيتون وأنزل باسمي سورة يقرأ بها الناس إلى يوم القيامة، فضلي لا يخفى على أحد، يجني الإنسان فاكهتي المفيدة ذات الطعم الحلو كل صيف، ومنها تأكل الطير والزنابير وغيرها، فأنا ملاذ لهذه الكائنات ومطعم طيب.
وقالت الطبيعة ناظرة إلى الزهور: وأنتن يا بنياتي الزهور، أليس لَكُنَّ رأي فيما قيل؟
فقالت زهرة البنفسج وهي تطل من بين صخرتين مادَّةً قامتَها القصيرة: نعم أيتها الطبيعة الأم، نحن – معاشر الزهور – لا نثمر ولا نمنح الإنسان غذاء، فنحن لسنا كإخوتنا من الأشجار، فقد فضلهن الله علينا.
فقالت الطبيعة مستغربة: أحقًّا هذا ما تعتقدن يا معشر الزهرات، لعمري إنكن مخطئات في زعمكن، فأنتن زينة الأرض وزخرفها ولا تساوي دونكن الحقول والروابي شيئًا، ألستن ترين أن الإنسان يتهافت على رؤيتكن في الربيع ويصنع منكن باقات للحب والجمال، والله قد جعل فيكن الدواء يشفي بإذنه أسقامًا لا تبرأ إلا بكن، فأنتن منبع الزينة والبهجة ومصنع الدواء للأوجاع، فلا تبخسن أدواركن يا معشر الزهور.
نظرت الطبيعة إلى أبنائها جميعًا وقالت: نعم يا أبنائي، لقد خلق الله تعالى كل كائن ومنحه الدور في الحياة، فلا يوجد شيء في الكون خُلِق عبثًا، فقد قضت سُنَّة الله أن تختلف المذاقات والأطعمة والألوان والأشكال؛ لأن الاختلاف يمنح الوجود جماله، هَبْ أن الله خلقَ صِنْفًا واحدًا من الشجر ولونًا من الزهور، هل كنت لترى الإنسان يرتاح للمشهد بل أكانت لتستقيم حياته والله جَبَلَه على حب الاختلاف والتنوُّع؟
فقالت الصفصافة (متأثرة): لقد سمعت كلامك أيتها الأم وأصغيت إلى أخواتي كل يُدْلي بدَلْوِه، ووجدت أن كلًّا منهن تؤدي دورًا، فبين مانحة لثمر حلو طيب المذاق، وبين معصرة للحب زيتًا، ومطعمة للكائنات على اختلافها، ومنمقة لبساطك أيتها الأم ليفترشه الإنسان في الربيع، فماذا عني إذن؟ أرأيتني أطعم طيرًا أو إنسانًا من ثمر، أو أغدق رحيقًا من زهر، أم أنني كالزهور أُجَمِّل الأرض وأنتج الدواء؟ فما أحسبني إلا عمودًا ممتدًّا في السماء، أطاول بقامتي الكل، فيا ليتني لم أخاطب أخواتي؛ فقد ظهر الآن عيبي، وبدا للعيان قلة شأني وضعف حيلتي!
المشهد الرابع: (وشرعت الصفصافة في البكاء والنحيب وأخذت الطبيعة تربِّت على منكبيها، وتُهدِّئ من روعها) وهي تقول: كفكفي دموعك يا ابنتي، وانظري إلى الأعشاش فوق أغصانك، فأنت مهوى الطيور من كل صنف، تحضنين أعشاشها وبيوضها فتكونين أُمًّا حنونًا تَقِينَها من الأنواء والعواصف، وانظري إلى الظل الذي يمتد منك طويلًا يقي الإنسان من الحر اللافح، ورقاتُكِ الكثيرة تراقصها الرياح فتغدو مروحة ترطب الجو وتمتص أشعة الشمس السانية، وانظري إلى شجرات الكرم كيف تتسَلَّقك وتعانقك بأيديها، ولولا أنها تحبك ما صنعت ذلك، تتدلَّى من أغصانها العناقيد الشهيَّة فتخبئها أوراقك في صدرها لتحفظها طرية، أما الدواء عزيزتي ففي لِحَاكِ وفي أوراقك مواد منها يصنع الإنسان في مختبراته أدوية، فإياك أن تبخسي دورك في الحياة يا ابنتي.
المشهد الخامس: (نظرت الصفصافة إلى أُمِّها الطبيعة وقبَّلت يدها ونظرت إلى أخواتها الشجيرات والزهور) وقالت: أعتذر إليكن يا أخواتي، فقد تطاولت عليكن كثيرًا، لم أكن أدري أنكن تؤدين كل هذه الأدوار في الحياة، صحيح أني نظرت إليكن لصغر حجمكن، ونظرت نفسي سامقةً؛ فغلبني الغرور، لقد فكرت في المظهر ونسيت أن المخلوق بالجوهر يا لغباوتي! ويا لحمقي!
الطبيعة الأم (بنبرة متزنة وصوت لين): يا ابنتي العزيزة، إن العبرة في الحياة لا تُقاس بالأحجام ولا الأشكال، فكم جسم صغير قد تنظر إليه العيون العمي والعقول المقفلة باستصغار، فتبخس قيمته وهو ذو دور كبير لا يفقهه غير العقلاء، لولاه لاختَلَّ ميزان الحياة وفسد العيش.
شجيرة التين: نعم أيتها الأم، فقد خلق الله المجرَّة وهي أكبر، وخلق الذرَّة وهي الأصغر، ولولا الذرَّات ما كانت المجرَّات.
الأم الطبيعة (ضاحكة) وقالت: إن بيننا عالمة في الفلك، صدقت يا ابنتي لقد ضرب الله المثل بالذرة في القرآن لما قال: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
المشهد السادس: (ضحكت الصفصافة وكل الشجيرات والأزهار وماء المطر يتطاير من أوراقها وأغصانها) وقالت: لم أكن أدري يا أماه بوجود خبير في العلوم معنا.
شجيرة الزيتون (برزانة ووقار): نعم أيتها الأم، فقد جعل الله في أصغر خلقه حكمًا، فانظروا يا أخواتي مثلًا لحبات الزيتون كيف تتراكم من بعد زهور، منها ما يتساقط ومنها ما يتخلق حبًّا بين مخضرّ ومحمرّ ومسودّ، فيؤخذ إلى المعصرة ليصير زيتًا أو يُتَّخذ حَبِّي طعامًا لذَّةً للآكلين.
شجيرة الرُّمَّان: صدقت يا أختاه، فحَبَّات فاكهتي أصغر من حباتك، وفيها غذاء ودواء ولذَّة للطاعمين.
شجيرة البرتقال (بوقار): لا شكَّ أن العبرة ياأخواتي ليست بالكبر والصغر وإنما كل لما خُلِق له، فقد أوجد الله تعالى الكائنات بأحجام متباينة، ليخدم القوي الضعيف ويتوازن الوجود، ألستن ترين أن الطيور الصغيرة تتخذ من أغصاننا أعشاشًا تأوي إليها وفي جذوعنا مخابئ للهوامِّ تسكنها، فهذا خلق الله ولا حق لمخلوق في أن يبخس حق غيره في الحياة ويُقلِّل من شأنه.
الطبيعة الأم (وهي تُحرِّك رأسَها تعبيرًا عن إعجابها بقول شجيرة البرتقال): أحسنت يا ابنتي، لقد نطقت بعظيم من القول، فالله تعالى خلق كل شيء بميزان مضبوط، وأي اختلال فيه يكون فيه الضرر بينًا، فلو أن الإنسان أخل بنظم الطبيعة فأهلك النبات والشجر لقضى على التوازن الذي أوجد الله عليه البيئة، ولضاق عيش الإنسان بما كسبت يداه، وقد جعل الله لكل حي وجماد دوره المنوط به مهما كان الشيء وكيفما كانت خلقته وطبيعته، فما وجوده في الحياة إلا بقدر موزون.
المشهد السابع: (سماء بدأت تنقشع سحبها وتتلاشى في الأفق، أشعة شمس دافئة بدأت تغازل الأنحاء، تصافح الأفنان والورقات، قطرات ماء تتلألأ في مشهد بانورامي جميل، تبسَّمَت الطبيعة الأم ورفعت بصرها إلى السماء) وقالت: مرحبًا أيتها الشمس الجميلة لقد اشتاقت إليك بناتي الأشجار والزهور.
الشمس ضاحكة: وأنا أيضًا أيتها الأم كنت في أشدِّ الشوق إليها، فما كان مني إلا أن أنتظر أن تعصر الغيمات ما في جوفها من قطر لأداعب الوجود بأسلاكي الذهبية، فقد وضعت خدي على السماء حتى كاد النوم يأخذني على وقع سمفونية المطر وحواركن، لولا أن نبهتني الغيمات إلى إنهائها للمهمة، فودَّعتني على أمل اللقاء في يوم آخر حين يؤذن لها بالقدوم.
الصفصافة (باسمة): مرحبًا بأختنا الشمس، لقد اشتقنا إليك.
وقالت الشجيرات والزهور في آن واحد وهي تتواثب فرحًا: مرحبًا بالقرص الذهبي، مرحبًا بالإشراق والنور، لقد تاقت نفوسنا إليك عزيزتي.
المشهد الثامن: (الشمس وهي تمد يديها تصافح الكل فتتساقط القطرات الباقية على الورقات والأغصان كأنها دمعات تتساقط من الأهداب) وقالت بصوت يعلن عن فرح (في آن واحد): سنقضي يومًا جميلًا معًا أيتها الأشجار والزهور، فهيا نمرح جميعًا فوق الربى والتلال، (تكررها مرتين).
نظرت الطبيعة الأم إلى جميع أبنائها بنظرات حُنُوٍّ تملؤها السعادة وقد أدركت أن الجميع يعي الآن دوره في الحياة، ويدري أن استصغار الآخرين ليس من الحكمة في شيء؛ لأنه جهل بقيمة الخلق ومعنى الوجود وقالت (في سكون): الآن يا بناتي، سأرحل بعيدًا وأنا مطمئنَّة إلى حالكن، فكونوا أخوات متعاونات، وليساند القوي الضعيف وإياكن والتباهي؛ فما أهلك الأقوام قبلكن غير اغترارهم في هذه الحياة الفانية، تضيف الأم وهي تنظر إلى الصفصافة: وكوني أيتها الصفصافة الجميلة خير عون لبناتي الشجيرات، وأفضل ملاذ لأبنائي الطيور، ابذلي ما استطعت لحمايتهن من الأنواء، فهذا فصل الشتاء على الأبواب وقد لاحت ملامحه وآذنت معالمه، فامنحي حنوَّك ودِفْأَك لأخواتك متى احتجْنَ إليك يا ابنتي.
الصفصافة (محنية رأسها في إشارة تعلن رضاها): كوني مطمئنةً أيتها الأم العطوف، فإني سأُعَبِّد لأغصان الكرم طريقها لتتسلقني إلى حيث تريد، وهذه الأعشاش منزلها بين أغصاني أدفئها وأحميها بأوراقي، وهؤلاء أخواتي من الشجيرات لن أسمح للأنواء أن تنال منهن، فقَرِّي عينًا واهنئي بالًا يا أماه.
الشجيرات بصوت واحد: ونحن كذلك يا أماه، سيشدُّ بعضُنا أزْرَ بعض ونعتني بأنفسنا أيما اعتناء حتى نثمر ونمد الظلال ونمنح الإنسان والكائنات الأخرى معنى للحياة.
المشهد التاسع: (الطبيعة الأم وهي تنصرف مُودِّعةً بناتها وهي تستمع إلى بناتها جميعًا يقولن بصوت واحد): لا تتأخري يا أماه عن زيارتنا، سنظل في شوق إليك.
المشهد العاشر: (تنحني الصفصافة وهي تمد ذراعيها إلى أخواتها من الشجيرات، تصافحها وتعانقها والزهور تتراقص من حولها) وهي تقول: سنبدأ حياة جديدة يا أخواتي وسنظل متعاونين ما بقينا على قيد الحياة.
المشهد الحادي عشر: (الطيور تحلق فوق الشجيرات وأصوات التغريد يصدح بها المكان، تتراقص لها الأغصان وتتمايل لها الأوراق، الشمس في سمائها تغازل كل شيء) وهي تقول: ما أجمل الحياة في هدأة النفوس! وما أطيب العيش حين تسكن الجوارح وتصفو القلوب!
(تسدل الستارة على نغمات تحاكي أصوات طيور ووقع قطرات الماء المستمر بعضها في السقوط من الأغصان والأوراق).