التوحيد والإخلاص والتحذير من الشرك والرياء (خطبة)


التوحيد والإخلاص والتحذير من الشرك والرياء

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [أي: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [مَنِ اتقى اللهَ وصدقَ في أقوالِه فإنَّ الله يُصلِح له أعمالَه، ويغفر له ذنوبَه] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، مَنْ يُطعِ اللهَ باتباعِ القرآن، ويُطعِ الرسولَ باتباعِ السُّنَّة، فقد فاز فوزًا عظيمًا، بالنجاةِ من النار، ودخولِ الجنة مع الأبرار، ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، من يعصِ اللهَ بمخالفة كتابِه، ويعصِ رسولَه بمخالفة سنتِه، فقد ضَلَّ ضلالًا واضحًا لا شك فيه، أما بعد:

فإنَّ خير الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

أيها المسلمون، أولُ أمرٍ في المصحف الشريف هو قول الله سبحانه في سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]، فأمرنا الله بعبادته وحده؛ لأنه الذي خلقنا وخلق الذي من قبلِنا، فلا يستحق العبادةُ إلا الخالق.

 

وأعظمُ ما أمرنا الله به التوحيد، وأعظمُ ما نهانا عنه الشرك، قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36]، فالتوحيد أعظم الواجبات، وأهم المهمَّات، والشرك أعظم الإثم، وأظلمُ الظلم، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

 

وقد حذَّر الله كل نبي من الشرك كما قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66]، فالشرك يُحبِطُ الأعمال، ويوجب الخلود في النيران، قال الله: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].

 

وقد كان كل نبيٍّ يدعو قومه إلى التوحيد، ويُحذِّرهم من الشرك، كما حكى الله ذلك عنهم في كتابه، فكان كل نبي يقول لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل: 36].

 

أيها المسلمون، عبادةُ الله بإخلاصٍ هي الصراط المستقيم، وهي الإسلام الذي رضيه الله لعباده أجمعين، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 – 62]، فكم أضلَّ الشيطانُ مِن أُمم! صرفهم عن توحيد الله، وسوَّل لهم الشركَ بالله، حتى إن أكثر مَن يُؤمن بالله يقع في الشرك كما قال الله: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 105، 106]، سواء كان شركًا أكبر أو أصغر.

 

أيها المسلمون، يقول الله لنا في كتابه: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77]، فالفلاح في عبادة الله بإخلاص.

 

يا عبادَ الله، اعلموا أن التوحيد والإخلاص في العبادة هو منهج نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما أمره الله أن يعلن ذلك: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 11 – 15]، ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، فمن عبدَ اللهَ بإخلاصٍ نجا، واتَّبع المصطفى، ومن عصى وأشرك بالله فقد اتَّبع الهوى، وسيهوى في لظى.

 

أيها المسلمون الصالحون، مَن عبدَ اللهَ وخلط عملَه الصالحَ بالرياء فإن الله لا يقبله منه، وهذا شِركٌ أصغر يُحبط ذلك العمل، ففي الحديث القدسي: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمِل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَه)).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناسِ يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يُقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار! ورجلٌ تعلَّم العلم، وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم، وعلَّمْتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلم ليُقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار! ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كلِّه، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليُقال: هو جَوَاد، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه، ثم أُلقي في النار!)).

 

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزي الناسُ بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!)).

 

وسأل صحابيٌّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلًا غزا يلتمس الأجر والذِّكر، ما لَه؟ يعني يريدُ بالجهاد الأجرَ من الله، ويريدُ مع ذلك الثناءَ الحسن من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيءَ له))، فأعاد السؤال ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيءَ له)) ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العملِ إلا ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه)).

 

أيها المسلمون، الإخلاص طريق الخلاص، قال العلماء: معنى الإخلاص: تصفيةُ العمل للخالق عن ملاحظة المخلوقين، وتخليصُه من الشركِ والرياءِ والسُّمْعة، وعدمُ إرادةِ شيءٍ من الدنيا به، وإرادةُ التقربِ به إلى الله وحده، وكمالُ الإخلاص بترك المعاصي الظاهرةِ والباطنة، وحقيقةُ الإخلاص أن تكون حركاتُ العبد وسكونُه في سرِّه وعلانيته لله وحده لا شريك له، لا يمازجُه شيءٌ من هوى أو نفسٍ أو دنيا.

 

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، وهم الذين اتَّقوا الشرك والرياء، وأخلصوا لله في عباداتهم، وتركوا المعاصي الظاهرة والباطنة.

 

ويقول الله سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7] قال بعض العلماء: “أي: أخلصُه وأصوبُه، إن العمل إذا كان خالِصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السُّنَّة”.

 

فلا يقبل الله العمل إلا بشرطين: أن يكون خالصًا لله، وأن يكون موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان خالصًا غير موافق للسُّنَّة فهو بدعة، وإن كان موافقًا للسُّنَّة ولم يكن خالصًا فهو رياء.

 

أيها المسلمون، الإخلاص شديدٌ على النفس؛ لأن النفس تريدُ كلَّ شيء لها، والإخلاص أن تريد بالعمل وجه الله بلا أي مصلحة لنفسك، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، فلا تريد من عملك الصالح جزاء في الدنيا، ولا حتى كلمة شكر من الناس، إنما تريد الجزاء من الله، وتريد الشكر من الله، وأكثر الناس يحبون الثناء الحسن من الناس على أعمالهم الصالحة، وهذا من الرياء والشهوة الخفية، قال بعض الصحابة: (إن أخوف ما أخاف عليكم الرياءُ والشهوةُ الخفية).

 

قال العلماء: كلُّ عملٍ أُريدَ به غيرُ الله لم يكن عملًا صالحًا، وكل عمل لا يوافق السنة فهو بدعة وضلالة، بل لا يكون العمل صالحًا إلا إذا جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقًا لسنة رسوله، والشركُ غالبٌ على النفوس، وكثيرًا ما يخالطُ النفوس من الشهوات الخفية ما يُفسد عليها تحقيقَ الإخلاص، والقلبُ إن لم يكن مقبلًا على الله، معرضًا عَمَّا سواه،كان فيه شركٌ ورياء، قال الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 30 – 32].

 

أيها المسلمون، لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، على سنة رسوله وشرعه، وما عدا ذلك فهو مردودٌ على عاملِه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ عَمَلٍ ليس عليه أمْرُنا فهو رَدّ))، فكل عمل بلا إخلاصٍ ولا اقتداءٍ لا يزيد عاملَه من الله إلا بُعْدًا، والواجبُ عبادةُ الله بأمرِه وشرعِه، لا بالآراء والأهواء والبدع، قال الله تعالى: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [الشورى: 15]، وقال سبحانه: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112].

 

أيها المسلمون، علينا أن نُصلِح نيَّاتِنا، ونصلح إراداتِنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ يتزوجُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه))، ومن كانت نيَّته الدنيا الفانية ولا يريد الآخرة الباقية فنيَّتُه فاسدة، ونهايته خاسرة، قال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16].

 

قال العلماء: مَنْ أحَبَّ شيئًا وأطاعه وكان غايةَ قصدِه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبدُه، وهو ممن اتخذ إلهه هواه، ومن أحَبَّ شيئًا مما يكرهه الله من المعاصي أو كره شيئًا مما يحبه الله من الطاعات، لم يكمُل توحيدُه وصدقُه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب فساد نيَّته، فاعبدِ الله – أيها المسلم – لمرادِه منك كما أمرك، لا لمرادِك منه كما تهوى، فمن عبد الله لمصلحة نفسه فهو ممن قال الله عنهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، وقال سبحانه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت: 10]، فالمرائي إذا لم يجد لنفسه مصلحة من العبادة تركها، وإن ترك الناسُ عبادةَ الله تركها، وإن آذاه الناس على طاعة الله تركها، وأما المخلص فهو يعبد الله على كل حال، في السَّراء والضَّراء، في السِّر والعلن، وإن ترك الناسُ عبادةَ الله فالمخلص مقيمٌ على طاعة الله وعبادته، ولا ينجو يوم القيامة إلا من لقي الله بقلب سليمٍ ليس فيه سواه، قلبٌ خالصٌ من الشرك والرياء وحب المعاصي، قلبٌ نيته صالحة، يُقدِّم ما يريدُ ربُّه على ما تهوى نفسُه، قال الله تعالى ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، المخلص لا يستوحشُ من قلة الصالحين ولو كان وحده، فطوبى للغرباء.

 

اللهم ارزقنا التوحيد والإخلاص، ونجِّنا من الشرك والرياء والسُّمْعة، اللهم اجعلنا من الصالحين القلة في زمن الغربة، ونعوذ بك أن نغتر بالكثرة الغافلين، ونستغفر الله ونتوب إليه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبَع هداه، وبعد:

أيها المسلمون، ما هو علاج الرياء؟ وما هي طرق تحصيل الإخلاص؟

أول طريقٍ لتحصيل الإخلاص والنجاة من الرياء: تحقيقُ الإيمان اعتقادًا وقولًا وعملًا، فلا يمكن تحصيلُ الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان، فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص.

 

ومن الطرق: استحضارُ عظمةِ اللهِ ومعرفةُ استحقاقِه للعبادة وحده.

 

ومن طرق الإخلاص: استحضارُ اطلاعِ الله على نيةِ العبدِ ونظره إلى قلبه.

 

ومن طرق الإخلاص: الخوفُ من حُبوطِ العمل الصالح بسبب الرياء والسُّمْعة.

 

ومن طرق الإخلاص: تركُ مراقبةِ الناس، وكراهةُ مدحهم، وعدمُ الخوفِ من ذمِّهم، وعدمُ الطمع في أموالهم، فمدحُ الناس لا يزيد في رزق الإنسان ولا في عمره، وذمُّهم لا يُنقص من رزقِه ولا عمره، فالأرزاقُ والأعمارُ مقسومةٌ لا تزيدها مراءاة الخلق.

 

ومن طرق تحصيلِ الإخلاص: معرفةُ حقيقةِ الدنيا الفانية والآخرةِ الباقية، وأن الآخرة خيرٌ وأبقى.

 

ومن أعظمِ طرقِ الإخلاص: مجاهدةُ النفس على الإخلاص لله، واستحضارُ النيةِ الطيبةِ عند الأعمال الصالحة، ومراقبةُ القلبِ أثناء العبادة، ومدافعةُ الرياء عند عروضه، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

وكذلك: المداومةُ على تلاوة القرآن وتدبره في كل حين؛ فهو شفاءٌ لما في الصدور، وهدًى ورحمةٌ للمؤمنين.

 

وكذلك: قراءةُ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه ومن اتبعهم بإحسان من العلماء والعباد المخلصين الصادقين.

 

ومن طرق الإخلاص: الإكثارُ من ذكر الموت، والاستعداد له، والتفكر في قرب لقاء الله.

 

وكذلك: التعوُّد على إخفاء بعض الأعمال الصالحة التي يمكن إخفاؤها؛ كالصلاة النافلة وبعض الصدقات، والحرص على عدم إظهار ما وفق الله العبد إليه من علمٍ وعملٍ صالح إلا لمصلحة دينية راجحة، ويجب الحذر من ترك العمل الصالح خوفًا من الرياء، فهذا من مكائد الشيطان، بل على المؤمنِ أن يُظهر بعضَ أعمالِه الصالحة كالصلاة جماعة، وما يرجو أن يقتدي الناسُ به، وقد مدح الله الذين يدعونه أن يجعلهم للمتقين إمامًا، وأثنى على من ينفقون سِرًّا وعِلانيةً.

 

ومن أنفعِ طُرُقِ الإخلاص: إكثار المسلم من دعاء الله أن يجعل أعماله خالصة، والتعوذ بالله من الرياء والسُّمعة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من الشرك والنفاق، والسُّمْعة والرياء))، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه أن يقولوا: ((اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)).

 

اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم إنا نعوذ بك من الشرك والنفاق والرياء والسُّمْعة، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، اللهم اهدنا إلى طريق الخلاص بالإخلاص، اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك بإخلاصٍ ومتابعة، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح قلوبنا بالتوحيد والإخلاص والمتابعة، اللهم أصلح نيَّاتنا، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وتوحيدك وطاعتك وطاعة رسولك، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
“بواكير حركة الترجمة في الإسلام” (2)
مكتبه السلطان – 3 كتب تختصر لك 5 سنوات في الجامعة