إذا نصحوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم
خطبة: إذا نصحوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم
إنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 69 – 71]، أمَّا بعد:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَي هُدَي مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
يقول الله – عز وجل – في محكم التنزيل: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
أخرج البخاري في “صحيحه” (2892) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».
يرى العالم كُلُّه ويسمع الإبادة الجماعية التي يتعرض لها إخواننا في غزة، ولا يُحرِّك أحد ساكنًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. لا يريد اليهود أن يكون لأحد صوت سواهم، أو أن يكون لأحد إرادة في تقرير مصيره أو رفعة شأن دينه، ولا عجب في ذلك ولا غرابة، يقول الله – عز وجل -: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾ [التوبة: 10]، ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8].
فليس غريبًا أبدًا أن يفعل اليهود هذا نصرةً لدينهم ومعتقدهم وإقامة لدولتهم، الغريب والعجيب حقًّا في رد فعل كثير من المسلمين – إلا من رحم الله – نعم لا نجد طريقًا شرعيًّا للجهاد في غزة نصرة لإخواننا، لكن المحزن والمؤسف أن يتحوَّل فرض العين الذي هو واجب على كل مستطيع إلى لا شيء، وهذه مشكلة متكررة حتى في غير هذا الأمر. على سبيل المثال، تجد أن المسلم يعلم أن الصلاة فرض عين عليه، موقوتة بوقت معلوم، يقول الله – عز وجل -: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛ أي: إنها موقَّتة بوقت بداية، ووقت نهاية، وافتتح مالك – رحمه الله – موطَّأَه بـ “كِتَاب وُقُوتِ الصَّلَاةِ” وبيان ذلك عن الله وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – فتجد الشخص – إلا من رحم ربي – إذا انشغل في العمل مثلًا، أو إذا انشغل الطالب في دراسته ودروسه، تجده يجمع الصلوات عندما يعود إلى المنزل مساءً، يصلي جميع ما فاته، وهو آثم بهذا؛ لأنه أضاع الفريضة في وقتها دون عذر شرعي مقبول، فالأعذار الشرعية المقبولة معروفة، والعمل والدراسة على إطلاقهما هكذا ليسا منها يقينًا، وتجد بعضهم يكرر المقولة المشهورة بين عموم المسلمين “العمل عبادة” ولا أدري في أي كتاب من كتب السُّنَّة وردت هذه المقولة حتى نقدمها على فرضية الصلاة في وقتها، بل إن من أهل العلم من قال: إن فاعل هذا – أي الجمع بين الصلاة بهذه الطريقة – كتارك الصلاة عمدًا، وأن صلاته غير مقبولة؛ لأنه أخرجها عن وقتها دون عذرٍ شرعيٍّ، والله – عز وجل – يقول: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].
الشاهد هنا أن هذا العامل أو الطالب، استبدل فرض العين بشيء لم يقل به الشرع أبدًا، بل شرَّع تشريعًا جديدًا من عنده، وجعله بديلًا لشرع الله عز وجل، والأشدُّ منه من يستبدل شرع الله – عز وجل- بلا شيء، مثل المريض إذا مرض واشتدَّ مرضه – إلا من رحم ربي – لا يُصلِّي الفرض في وقته، اليوم تِلْوَ اليوم، والأسبوع تِلْوَ الأسبوع، وقد يطول الأمر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويظن أنه معذور، وتجده يقول: “عندما تتحَسَّن حالتي الصحية ويتم شفائي، أُصلِّي مع كل فرضٍ فرضًا مما فاتني”، وهذا ما أنزل الله – عز وجل – به من سلطان. أخرج البخاري في “صحيحه” (2892)، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». فإذا كان المريض لا يستطيع أن يصلي قائمًا، فليُصَلِّ قاعدًا، وإذا لم يستطع أن يصلي قاعدًا، فليُصَلِّ على جنب، وإذا لم يستطع أن يحرك جسده كله، فليحرك منه قدر استطاعته، وإلا صلَّى إيماءً برأسه، فإن لم يستطع فليصلِّ بعينه وقلبه، أما أن يترك الفرض هكذا، هذا فعلٌ ما أنزل الله به من سلطان، وهناك من أهل العلم من أنزل في فاعل هذا حكم تارك الصلاة عمدًا، نسأل الله العافية والسلامة.
وكذلك الحال بالنسبة للوضوء، من لم يستطع الوضوء لكل أعضائه، يتوضأ لما استطاع، ويتمم عما لم يستطع، ومن لا يستطيع الوضوء، يتيمم، أما أن يترك الوضوء والتيمم هكذا، فهذا ليس من شرع الله عز وجل.
وكذا الحال بالنسبة لما يحدث لإخواننا في غزة، تجد أن كثيرًا من المسلمين – إلا من رحم الله – تحوَّل من فرض العين الذي هو واجب على كل قادر مستطيع، إن تيَسَّر له سبيل شرعي منضبط لذلك، إلى لا شيء، أو إلى أفعال ما أنزل الله بها من سلطان، أو اقتصر على جانب واحد واقتنع أن فيه الكفاية، وأنه بهذا قد أدَّى ما عليه، وهذا من تلبيس الشيطان. نعم، نحن نعلم جيدًا أنه لا سبيل شرعي منضبط لأداء فرض العين أمامنا في الوضع الحالي، لكن أن يكون البديل بهذه الصورة، فهذا أمر يحتاج إلى وقفة تأمُّل.
من تأمل القرآن عمومًا، وسورة التوبة خصوصًا، باحثًا عن أصناف الناس من الجهاد، يجد أن الله – عز وجل – حدَّد أصنافًا معينة، لو أنا رجعنا إليها لعلم كل واحد منا إلى أي صنف ينتمي، وهذا ما نحاول أن نفعله في هذه الدقائق اليسيرة إن شاء الله.
ولن يشمل حديثنا الصنف الذي يعين ويساعد ويدعم اليهود ويمدُّهم بالسلاح والأموال، فهؤلاء وحتى لو كانت أسماؤهم في ظاهرها إسلامية، فهم ليسوا من المسلمين، ولا نحتاج إلى أن يشملهم حديثنا بحالٍ.
الصنف الأول: الزنادقة والمنافقون والمرجفون:
أما الصنف الأول، فهناك مِن الذين يتَسَمَّون بالإسلام اسْمًا، لا أكثر من ذلك، يساعدون اليهود في حربهم على إخواننا، ويعينونهم بوسائل شتَّى، ومِن أسوئهم من يعين بالكلمة على المسلمين، ويشيع الأكاذيب والأباطيل والإرجاف بين المسلمين، بل ويلقي باللائمة على المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهل أصبح الدفاع عن الحق والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الدين جريمة؟ سوف يلقى أصحاب هذه الأقوال ربهم يوم القيامة، فيسألهم ويحاسبهم عليها، والسؤال صعب، والموقف عسير، والعمر قصير.
أخرج الترمذي في “جامعه” (2616)، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، الحديث… إلى أن قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قُلْتُ – أي معاذ -: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ. قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
يقول الله – عز وجل – عن هؤلاء وأمثالهم: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60 – 62].
الصنف الثاني: المُخلَّفون الفرحون:
أما الصنف الثاني، يقول الله – عز وجل – عنهم: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ [التوبة: 81 – 83].
هم الذين فرحوا أنهم لم يخرجوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يجاهدوا في سبيل الله – عز وجل- وتأمَّل هنا الآية الكريمة جيدًا؛ لأن الفرح بالسلامة والنجاة ليس عيبًا، فهذا أمر فطري، بل إن المسلم يحمد الله – عز وجل – ويسأله السلامة والعافية، صحَّ عن أُمِّنا عائشة – رضي الله عنها – أنه قالت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي أو بعض أزواجه: “إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ” كما عند البخاري في “صحيحه” (6507)، لكن العيب المذموم أن يُقدِّم المرء الدنيا على الدين، ويكون فرحًا بهذا التقديم، والأشدُّ منه أن يظن فعله هذا دينًا، فمن حُرم سبيل الجهاد الشرعي المنضبط، لا أقل من أن يسعى أن ينطبق عليه هذان الحديثان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ أخرج البخاري في “صحيحه” (4423)، قال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».
وأخرج مسلم في “صحيحه” (1908)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ».
فتأمَّل صدق العذر، وصدق النية، وأن الإنسان يمتحن، نسأل الله العافية والسلامة والثبات والسداد، أما أن نظن أن الأمر لا يعنينا بهذه الطريقة، بل إن البعض يفرح بتخَلُّفه عن فرض العين، فهذا مذموم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، واعلم أن الله – عز وجل – يعلم السِّرَّ وأخفى، مُطَّلِع على القلوب والنوايا.
الصنف الثالث: من المسلمين الذين استبدلوا الواجب بجزء منه:
أما الصنف الثالث، وهم إخواننا من المسلمين الذين تتكرَّر عندهم مقولة “لا شيء بأيدينا سوى الدعاء”. يعلم الله – عز وجل – أننا بدون الله – عز وجل – لا شيء، وأنه لا ملجأ لنا من الله إلا إليه، وما نذكره هنا ليس تقليلًا أبدًا من شأن الدعاء وأهميته وفضله، ولكن هنا عندنا في هذه المقولة إشكالان:
الإشكال الأول: أن حصر الأمر كله في الدعاء ليس صحيحًا، فلم يفعل هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يعرف هذا أصحابه، وإنما أمتنا طول تاريخها أمةُ علمٍ وعملٍ وكفاحٍ وجهادٍ وبناءٍ مستمر، آخذين بكل الأسباب التي استطعنا إليها سبيلًا، ومعها ندعو ونتضرع إلى الله – عز وجل – ونتوسَّل ونتذلَّل إليه. هذا ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد أن شاور أصحابه، وبعد أن أعَدُّوا ما استطاعوا، وخرجوا مستعينين بالله – عز وجل – وحده ثابتين في لقاء العدو، كما في بَدْر وغيرها، وبعد أن رأوا العدو بأعينهم، هنا دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ربَّه عز وجل.
أخرج مسلم في “صحيحه” (1763)، عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَة وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ». فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ»؛ الحديث.
الإشكال الثاني: أنه مع الأسف، غالب من يكرر هذه المقولة إلا من رحم الله – عز وجل – لم يَقُم أساسًا بالواجب الذي ألزم به نفسه، فلا تجد منهم، إلا من رحم الله – عز وجل – من يتحرَّى شروط الدعاء وأسباب إجابته، أو يتحرَّى موانع إجابة الدعاء فيبتعد عنها، فليس الدعاء ترانيم تُتْلى بصوت رنَّان فيه سجع؛ فيتأثر الإنسان فيبكي، وإن كان البكاء بين يدي الله – عز وجل – محمودًا، إلا أن الخضوع لا بد أن يكون بالقلب بالانقياد والاستسلام لله – عز وجل – بتمام التوحيد والطاعة لله، وبالجوارح ألا يأتي بها الإنسان ما حرَّم الله – عز وجل -، وأن تكون كلها لله وبالله وفي الله، وأن يتحرَّى الإنسان مواطن وأزمنة إجابة الدعاء المعروفة ومظانَّها، وأن يبتعد عما يصد عن استجابة الدعاء، بل تجد منهم، إلا من رحم الله – عز وجل – يتراكم الربا فوق الربا في أمواله أضعافًا مضاعفةً في البنوك وشهادات الاستثمار، وقوله هو: “لا نملك سوى الدعاء”.
أخرج مسلم في “صحيحه” (1015)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ!».
أما أن يكون البديل بهذه الصورة التي نراها عند الكثير – إلا من رحم الله -، فهذه صورة لإراحة الضمير لا أكثر، صورة ما أنزل الله – عز وجل – بها من سلطان.
الصنف الرابع: من المسلمين الغافلين:
أما الصِّنْف الرابع من إخواننا المسلمين، الذين أصبحوا يتعاملون مع الأمر على أنه مجرد أرقام وإحصائيات، وكأن الأمر ليس أن كل رقم من إخواننا – أسأل الله أن يتقبَّلَهم في الشهداء – هو نفس وروح وأمل وحياة وأسرة ومستقبل، هي نفس مسلمة قدرها عظيم عند الله – عز وجل – وأن مِن المسلمين من يقول: “لا أستطيع أن أتابع الأخبار؛ لأن الأمر شديد، ولا أتحَمَّل هذا، وتتعب أعصابي من هذا” وأقول: نعم، الأمر شديد، أن يتم احتساب كل 70 كجم في مجزرة صلاة الفجر على أنه شهيد؛ لأن الأشلاء لا يمكن التعرف على أصحابها أمر شديد، أن نعجز عن أن نتعرف على هُوِيَّة 88 من إخواننا المسلمين لندفنهم أمر شديد، ولا يطلب أحد ممن لا يستطيع تحمل هذا أن يتابعه حتى تتدمَّر نفسيته، بل إننا – ولله الحمد – أبعد الناس عن هذا، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في “فقه السيرة” (259) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: «قُم يا عمرُ فأجِبْهُ فقُل: اللهُ أعلَى وأجَلُّ. لا سَواءَ. قَتلانا في الجنَّةِ وقتلاكُم في النَّارِ»؛ صحَّحه الألباني – رحمه الله – ولكن أن يكون البديل التجاهل التام وكأنه لا شيء، فهذا ليس بالصواب.
إذًا ما الواجب؟
أكْثَرَ أهلُ العلم طول الفترة الماضية على المسلمين من ضرورة العودة إلى الله – عز وجل – والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقلاع عن حب الدنيا، والعودة إلى الله – عز وجل – بصدق وإخلاص، وأن هذا هو أول الطريق وأوسطه وآخره، وبه تستقيم كل أمورنا، ويعود إلى هذه الأمة عِزُّها ومَجْدُها – إن شاء الله -، وأن هذا الأمر يصلح به كل شيء، فيصلح العمل، ويكون النصر من عند الله – عز وجل – ومع الأسف تجد من المسلمين من لا يقتنع أن هذا هو بداية الحل الصحيح والطريق القويم للوصول إلى عزة المسلمين، ولا أقول عزة الإسلام، فإن الإسلام عزيز باقٍ منصور، ولكن على كل مِنَّا أن يبحث عن عِزَّة نفسه وأهله وأُمَّته، ولن يجدها إلا عند الله عز وجل.
﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] ﵟ ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
أخرج أبو داود في “سننه” (3462)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
ولو أردنا أن نقارن حالنا مع حال القاعدين في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لاتَّضَح لنا الفرق الواسع، والبون الشاسع، ومع أن حالنا ليس مطابقًا للحال المذكورة في الآية الكريمة التالية، ولكننا نحاول تقريب الوضع قدر الاستطاعة، مع التأكيد أن الوضع لا يتطابق.
ولنعلم أن لكل واحد منا حاله الخاصة، وكلنا سنُسأل عن واجبنا في هذه الأزمة والمحنة وغيرها، ويجب علينا أن نُعِدَّ للسؤال جوابًا، وعند تأمُّل كتاب ربنا – عز وجل – نجد فيه قول الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 91].
ونحن – ولله الحمد – لسنا ضعافًا، ولسنا مرضى، ونجد – ولله الحمد – ما ننفق في سبيل الله – عز وجل -، فلا يظن أحد أن الآية منطبقة علينا بتمامها، الهدف هنا هو أن نعقد مقارنة بين حال صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين لهم الأعذار المذكورة في الآية، وبين حالنا؛ إذ إننا لا نجد سبيلًا شرعيًّا منضبطًا لأداء الواجب علينا، والغريب أننا نجد الفرق بين حالهم وحالنا كبيرًا وشاسِعًا.
أصحاب هذه الآية هم معذورون حقًّا، ولكن الله – عز وجل – حدَّد شرطًا واضحًا لرفع الحرج عنهم، إذ قال ربنا – عز وجل -إنه ليس عليهم مع عذرهم الذي قبله الله – عز وجل – منهم، حرج إذا نصحوا لله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ولنتأمَّل هذا الشرط؛ لأن رفع الحرج مقترن به، ولم يقترن رفع الحرج بالدعاء فقط مثلًا، فضلًا عن الغفلة عن الأمر كُليَّةً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مع الأسف يظنُّ كثير من المسلمين أن النصيحة هي أن ترى أخاك المسلم يفعل معصية معينة أو فعلًا معينًا مثلًا، فتنصحه نصيحةً ينتفع بها، وهذا من القصور التام في فهم النصيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالنصيحةُ أعَمُّ وأشملُ من ذلك. أقول ما تسمعون، وإني أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – قال الله – عز وجل – عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
كم كنت أتمنَّى أن يتَّسِع الوقت والمجال للحديث عن النصيحة، فالحديث عنها طويل جليل، ولكن نحاول جاهدين في الدقائق المتبقية ذكر طرف منها، وعنها.
أخرج البخاري في “صحيحه” (57)، قال -: (بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 91]): حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
ذكر ابن حجر – رحمه الله – في “فتح الباري بشرح البخاري – ط السلفية” (1 / 139) عند هذا الحديث: قوله: «الدين النصيحة» يحتمل أن يحمل على المبالغة؛ أي: معظم الدين النصيحة، كما قيل في حديث: «الحَجُّ عرفة»، ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين. قلت: وحمل الحديث على ظاهره هو الأقرب والصواب.
وقال المازري: النصيحة مشتقة من نَصَحْت العسل إذا صفيته، يقال: نَصَحَ الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له. أو مشتقة من النُّصْح وهي الخياطة بالمِنْصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلمُّ شعث أخيه بالنصح كما تلمُّ المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أحد أرباع الدين، وممن عَدَّه فيها الإمام محمد بن أسلم الطوسي.
وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها:
فالنصيحة لله وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابِّه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه. وروى الثوري، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن أبي ثمامة صاحب علي قال: قال الحواريُّون لعيسى عليه السلام: يا روح الله، من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حقَّ الله على حقِّ الناس.
والنصيحة لكتاب الله تعَلُّمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهُّم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه.
والنصيحة لرسوله – صلى الله عليه وسلم – تعظيمه، ونصره حيًّا وميتًا، وإحياء سُنَّته بتعَلُّمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، ومحبَّته ومحبة أتباعه.
والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خُلَّتِهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن. ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببثِّ علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم.
والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
وفي الحديث فوائد أخرى: منها أن الدين يطلق على العمل لكونه سمَّى النصيحة دينًا، وعلى هذا المعنى بنى المصنف أكثر كتاب الإيمان، ومنها جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب من قوله: “قلنا لمن؟”؛ انتهى من كلامه رحمه الله.
فمن أراد أن يقارن الحال بالحال، وأن يسلك طريقًا قد ينفعنا عند الاعتذار إلى الله – عز وجل – الكبير المتعال، فليتأمَّل هذه الآية الشريفة، وهذا الحديث المبارك، والله المستعان.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سمَّيْت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب هَمِّنا وغَمِّنا.
اللهم انصر إخواننا في غزة وفي كل ديار المسلمين، واربط على قلوبهم، وأنزل عليهم من رحماتك، اللهم داوِ جَرْحاهم، واشفِ مرضاهم، وتقَبَّل شهداءهم. اللهم إنهم إخواننا، قد ظُلِموا بغير حقٍّ، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، اللهم انتصر لهم، واربط على قلوبهم، وردَّهم إلى ديارهم، ومساجدهم سالمين آمنين. اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا رب السماوات والأرض، يا من بيده مقاليد الأمور، نسألك أن تنصر إخواننا على عدوِّك وعدوِّهم وعدوِّنا نصرًا عزيزًا مؤزَّرًا. اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، واجعل الدائرة تدور على أعدائهم وأعوانهم. اللهم ارفع الحصار عن إخواننا، واجعل ديارهم وأوطانهم آمنة مطمئنة، اللهم انصر إخواننا، وارحم شهداءهم، واشفِ جَرْحاهم، وفكَّ أسراهم، واحفظهم من كل مكروه وسوء.
اللهم إنا نسألك باسمك القهَّار أنْ تقهر من قهر إخواننا، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين. اللهم بارك جهاد المجاهدين في كل أرض المسلمين، وأيِّدهم بجنودك ونصرك يا قوي يا كريم. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطِلْ عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحُسْن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسِّع له في قبره مُدَّ بصره، وآنس وحدته ووحشته.
اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفِّق المسلمين لكل خيرٍ وبِرٍّ.
وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.