ما جاء في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدارسة كتاب الشمائل المحمدية للترمذي رحمه الله
44- باب ما جاء في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم
• أي: في كيفية قراءته للقرآن، وتلاوته؛ ترتيلًا، ومدًّا، ووقفًا، وإسرارًا، وإعلانًا، وتحسين الصوت، وغيرها من الأمور المتعلقة بصفة قراءة القرآن الكريم، ولا شكَّ أن أكمل الهَدْيِ هو هَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• لأن قراءة القرآن تختلف عن قراءة أي شيء آخر؛ فلا بد أن تكون واضحة بيِّنة؛ لأنه كلام الله، وأنت تتعبَّد لله بذلك، وتأخذ حسنات على كل حرف.
1- عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك: ((أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي تَنْعَتُ قراءةً مفسَّرةً حرفًا حرفًا)).
• تنعت قراءةً مفسَّرةً: أي: مُبيَّنةً واضحةً مفصولة الحروف، السامع يستطيع أن يميِّز الحروف والكلمات.
• حرفًا حرفًا: أي مرتلة ومجوَّدة؛ يُبيِّن كل حرف ويُعطيه حقَّه.
• وفي حديث حذيفة: ((يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ)).
• قالوا: هذه القراءة هي التي تُعين على فَهم وتدبُّرِ القرآن الكريم، وهذا هو المقصِد الأعظم لنزول القرآن، وتلاوته، والقرآن إنما أُنزِل للتدبُّر والعمل بما فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، والتدبُّر لا يحصل بسرعة القراءة، بل بالتأنِّي وحُسنِ الترتيل.
• فهذه هي صفة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن، وقد أمره الله تعالى بذلك؛ فقال: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]؛ قال العلماء: والترتيل هو إعطاء كلِّ حرفٍ حقَّه ومستحقه.
• قال ابن كثير رحمه الله: “أي: بتُؤَدَةٍ وتمهُّل، مُبيِّنًا الحروف والوقوف”، وقال السعدي رحمه الله: “فإن ترتيل القرآن به يحصُل التدبُّر والتفكُّر، وتحريك القلوب به، والتعبُّد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له”.
• وهل الأفضل الترتيل مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها؟ قال ابن القيم رحمه الله، بعد أن ذَكَرَ أقوال العلماء في المسألة: “والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبُّر أجَلُّ وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًّا، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة”.
2- في صحيح البخاري عن قتادة قال: ((قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: مدًّا))، وفي رواية: ((يَمُدُّ مدًّا)).
• يُعطي الحرف حقَّه، ويمُدُّ في مواضع المد، ونحو ذلك، فيمد ما يحتاج إلى مدٍّ.
• والمعنى: أنه كان يعطي الحروف حقَّها من الإشباع، وليس المقصود المبالغة في المدود بغير مُوجِب.
3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقطِّع قراءته، يقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، ثم يقف، ثم يقول: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، ثم يقف، وكان يقرأ: مَلِك يوم الدين))؛ [رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي].
• يقف على رؤوس الآيات، وفي رواية: ((يقطِّعها آيةً آيةً))، حتى الآيات التي يتعلق معناها بما بعدها، ويتصل معناها كان يقف عندها.
4- في الصحيحين عن عبدالله بن أبي قيس قال: ((سألت عائشة رضي الله عنها عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، أكان يُسِرُّ بالقراءة، أم يجهَر؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسرَّ، وربما جهر، فقلت: الحمد لله الذي جَعَل في الأمر سَعَةً))؛ [رواه الترمذي، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني].
• تعني في صلاة النافلة، فكان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم التوسُّطَ بين الجهر والإسرار، بحسب ما يناسب المقام والحال؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110]؛ يعني: طريقًا وسطًا بين الجهر والمخافتة؛ لأن الاقتصاد مطلوب، وفي جميع الأمور محبوب.
5- عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ((كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وأنا على عَرِيشي))؛ [رواه النسائي، وابن ماجه، وغيرهما].
6- في الصحيحين عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبدالله بن مُغَفَّل رضي الله عنه يقول: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يومَ الفتح، وهو يقرأ: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 1، 2]، قال: فقرأ، ورجَّع، قال: وقال معاوية بن قرة: لولا أن يجتمع الناس عليَّ، لأخذت لكم في ذلك الصوت، أو قال: اللحن)).
• بيان لهَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يلازم العبادة ويقرأ القرآن، حتى في طريق السفر، حتى وهو على دابته.
• فقرأ، ورجَّع: مدَّ مدًّا طويلًا حتى يسمع البعيد صوته، والترجيع: ترديد حرف المد في الحلق، ولكن المراد هنا هو تحسين الصوت.
7- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ربما يسمعها مَن في الحُجرة وهو في البيت))؛ [رواه أبو داود، وغيره]؛ امتثالا لأمر الله تعالى له: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110].
• ومما يتعلق بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان له حزبٌ من القرآن يقرؤه ويتعاهده، ولا يتركه أبدًا، والمقصود بالوِرْدِ: قدرٌ معيَّن كلَّ يوم يحافظ عليه ولا يتركه؛ ففي حديث أوس بن حذيفة الثقفي رضي الله عنه، في وفد ثقيف: ((فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيُحدِّثنا قائمًا على رجليه حتى يراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدِّثنا ما لقِيَ من قومه من قريش، ويقول: ولا سَوَاءَ، كنا مُسْتَضْعَفِينَ مُستَذَلِّين، فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سِجالُ الحرب بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويُدالون علينا، فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله، لقد أبطأتَ علينا الليلة؟ قال: إنه طرأ عليَّ حِزْبي من القرآن، فكرِهتُ أن أخرج حتى أُتِمَّه، قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل)).
• وكذلك مما يُؤثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم: تحسين الصوت بالقرآن؛ كما في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه، ((أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ [التين: 1]، فما سمِع أحدًا أحسنَ صوتًا منه)).
وعن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه قال: ((قرأ رسول الله يومَ فتح مكة بسورة الفتح، فما سمعت قراءة أحسنَ منها؛ يُرجِّع))، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((زيِّنُوا القرآن بأصواتكم))، وقال: ((ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن))، وقال: ((ما أذِن الله لشيء كما أذِن لنبيٍّ حَسَنِ الصوت يتغنَّى بالقرآن ويجهر به))؛ أي تحسين الصوت؛ لأن تحسين الصوت بالقراءة مُعين على حضور القلب وخشوعه، وباعث على حسن الاستماع والإصغاء إلى القرآن، قالوا: فإن الكلام الحسن يزيد حسنًا وزينة بالصوت الحسن.
• وكذلك مما يُؤثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يحب أن يسمعه من غيره؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ عليَّ القرآن، فقلت: يا رسول الله، أقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ قال: إني أُحِبُّ أن أسمعَه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: حسبُك الآن، فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرِفان))، واستمَعَ لقراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وقال له: ((لو رأيتُني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؛ لقد أُوتيتَ مِزمارًا من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبَّرتُه لك تَحْبِيرًا))، وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه خرج ذات ليلة في المدينة، فمرَّ على باب عجوز من الأنصار تقرأ القرآن، فإذا هي تقرأ سورة الغاشية، فقرأت قول الله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وما زال يبكي على بابها))، وهذه من السنن المهجورة: أن تتقصَّد وتتحرَّى سماع القرآن من غيرك؛ إما مباشرة عن طريق قارئ، أو الاستماع إليه مسجَّلًا.
• ومن الأمور المتعلقة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقرؤه على كل أحواله؛ قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، حتى وهو مُحْدِث حدثًا أصغرَ؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لم يمنعه من القراءة إلا الجنابة))، فالجُنُب لا يجوز له قراءة القرآن، أما المحدث حدثًا أصغر، فيجوز له القراءة دون مسِّ المصحف؛ قال ابن القيم رحمه الله: “وكان يقرأ القرآن قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، ومتوضئًا، ومحدِثًا، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة”.
من آداب تلاوة القرآن الكريم:
1- التطهر من الحَدَثِ.
2- استخدام السواك قبل القراءة.
3- يُستحسن استقبال القِبلة قبل القراءة؛ لأنها أشرف الجهات.
4- التعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم.
5- البداية بالبسملة.
6- الترتيل الحسن.
7- سؤال الله عند آيات الرحمة.
8- التعوُّذ بالله عند آيات العذاب.
9- تنزيه الله عند آيات التنزيه.
10- ملازمة الخشوع والسَّكِينة عند التلاوة.
11- تدبُّر الآيات وفَهم معانيها.
12- ملازمة قواعد التجويد أثناء التلاوة.
13- الائتمار بأمره، والانتهاء بنهيِهِ.
14- دعاء الله أن يفقِّهه في الدين، ويعلِّمه التأويل.
15- الحرص على مطالعة التفاسير المعتبرة عند أهل السنة والجماعة قبل التلاوة والحفظ.
16- العمل بالعلم.
17- سؤال الله التوفيق والإعانة على الحفظ.
18- الحرص على اجتناب المعاصي كبيرها وصغيرها.
19- استحضار عظمة الله جل وعز، والتأدُّب معه سبحانه وتعالى.
20- استحضار أن هذا القرآن من الله لعباده.