السلام عنوان وشعار الإسلام (خطبة)


السَّلام عُنوان وشعار الإسلام

الحمد لله، الحمد لله الملك القدوس السلام، رفع السماء بلا عمد، والأرض وضعها للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغنا دار السلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين وسيد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام؛ أما بعد:

فيا معاشر المؤمنين: لا شك أن لفظة السلام مما تلتذ بسماعها الآذان، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب، فالسلام أمنية غالية ورغبة أكيدة، وضرورة بشرية، ومصلحة شرعية، تتطلع إليه البشرية في تلهُّفٍ وشوق؛ إذ لا بناء ولا إعمار، ولا رقيَّ ولا ازدهار، ولا تنمية ولا ابتكار إلا به، وبضده الدمار والتَّبار والبوار، ولا يدرك قيمة السلام الحقيقية إلا من عاش الحرب واصطلى بنارها، ورأى وسائل الدمار والخراب، وهي تنشر الرعب بين الأبرياء، وتهدم المنشآت وتُهلك الحرث والنسل؛ ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبارة للحفاظ على السلام العالمي وإقامته، ومن هذا الباب عُقدت مؤتمرات نزع السلاح، والحد من صنع الأسلحة النووية وانتشارها؛ ولكن هل استطاعت البشرية أن تحقق أية خطوات إيجابية في هذا المجال أو أخفقت؟

 

إن الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال، لكن استطاع الإسلام بما وضع من أسسٍ وقواعدَ أن يحقق أمل البشرية في السلام؛ فدين الإسلام الذي ينشد السلام ويؤمن به ويحض عليه، وينادي بتعميمه، لا يؤمن به إيمان من يتحدث عنه ويردده للتمويه وذرِّ الرماد في الأعين، بل هو عنده عنوان وشعار، وليس مصادفةً أن تكون كلمة “السلام” مشتقةً من الإسلام، وليس ثمة دليل على أولوية السلام بين القيم الإنسانية التي أرساها الإسلام من أن السلام صفة واسم من أسماء الله؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾ [الحشر: 23].

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام))؛ [مسلم].

 

ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة: ((إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم))؛ [رواه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع].

 

وفي رواية للبزار عن ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم))؛ [رواه البزار، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته].

 

ولقد ورد لفظ (السلام) وما اشتُق منه في كتاب الله عز وجل في أربع وأربعين آية، منها خمس مدنية، والباقيات مكية، في حين لم يرد لفظ الحرب إلا في ست آيات، كلها مدنية، وهنا لفتة جميلة لا بد من التنبه إليها؛ وهي أن القرآن الكريم يدعو إلى السلام في الدرجة الأولى، ويحث عليه، ويرغِّب فيه، ويرفض الحرب والتنازع والفرقة، ولقد كان العالم قبل الإسلام تحكمه العصبية القَبَلِيَّة، يشعلون الحروب لقرون طويلة من أجل سبق أو نيل ثأر، ويهدرون في ذلك الدماء، ويقيمون العداوات؛ فجاء الإسلام وعَنِيَ عنايةً فائقةً بالدعوة إلى السلام، ونبذ الحروب والنزاعات، والقتل والصراعات، ورتب على ذلك عظيم الأجر والجزاء، فلم يعرف العالم السلام إلا بعد بعثة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وفي ظل شريعة الإسلام، والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسمًا أفضل من أن يكونوا المسلمين: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78].

 

وتحقيقًا لتطبيق وتمكين السلام في عقيدة المسلم، دعا الإسلام إلى إقرار السلام في المحيط الاجتماعي، وجعله من مهمات الدين وأساسيات الشريعة الحنيفة؛ لارتباطه الوثيق بالمنفعة العامة للأمة الإسلامية ومصالح العباد؛ ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام قول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208].

 

وجعل الإسلام من أهم مبادئ السلام الاجتماعي نشر الأمن والاطمئنان، والقضاء على الخوف والقلق في نفسية الفرد والجماعة، بأن يسعى المسلم في إشاعة السلام بين الناس بكفِّ الشر والسب والقذف، والعدوان عليهم، وإيقاع الضرر بالناس، فنهى الإسلام عن كل ما من شأنه إيذاء المسلمين ونشر الفساد وفقدان الأمن في المجتمع، فحرم التعدِّي على الآخرين وإيذاءهم، سواء باللسان أو اليد، وحرم القتل، وأكْلَ أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الأعراض، وحرم العدوان مطلقًا، والتعاون عليه، وأمرنا بأن نتعاون على الخير والبر؛ فقال: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

 

وشدَّد العقوبة على المعتدي، واعتبره تعديًا على البشرية قاطبةً؛ فقال الله تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].

 

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث الجامعة التي تساعد المسلمين على إرساء قواعد السلام الاجتماعي، والمحافظة عليه، وعدم الظلم والاعتداء؛ فقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، عن جابر بن عبدالله: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم))؛ [حديث حسن صحيح، أخرجه الترمذي باختلاف يسير، والنسائي، وأحمد، واللفظ لهما].

 

وأخرج الإمام أبو داود حديثًا آخر هامًّا، يرشدنا للتحالف والتآخي لترسيخ السلام؛ فعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تَرَوا أنكم قد كافأتموه)).

 

وفي الحديث عرض النبي صلى الله عليه وسلم عدة مستويات متدرجة في نشر السلام في المجتمع، فبعد أن كانت دعوته في الأحاديث إلى الأمر بتقديم الحماية والعطاء والمكافأة، فالسلام في كف الأذى أولًا، ثم السلام في تقديم المعروف والخير ثانيًا، وكلاهما سلام، ويُلاحَظ هنا استخدام صلى الله عليه وسلم صيغة العموم في الاسم الموصل “من”؛ ليشمل هذا الحديث جميع أفراد المجتمع باختلاف عقيدتهم، وفيه من مبادئ السلام الاجتماعي تقديم الحماية لمن يطلبها، وتقديم العطاء، وإجابة الدعوة، والمكافأة على المعروف بأي شيء ولو بالدعاء، ومن باب أولى يكون سلمًا مع المؤمنين؛ فعند البخاري قال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)).

 

وعند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضكم على بَيْعِ بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقِره، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)).

 

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))؛ [صحيح البخاري].

 

وقد أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته الحاضر والغائب أن الجنة لا يدخلها سوى المؤمنين، وأنه لا إيمان ما لم يكن بين المؤمنين إفشاء السلام؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَ لَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))؛ [مسلم].

 

وأمرنا الإسلام أن نكون سلمًا حتى على الجاهلين المتعدين؛ يقول عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]، ويقول جل وعلا: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

 

ومعناه: سلامًا لا عداوة بيننا وبينكم ولا شر، بل اللين وخفض الجناح والرحمة والعفو والمغفرة؛ قال ابن كثير: “أي: إذا سفه عليهم الجهَّال بالسيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا”.

 

وقال مجاهد: ﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]؛ يعني: قالوا: سدادًا”، وقال الحسن البصري: “حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا”.

 

ومن منطلق مبدأ السلام الذي يحتوي على أمن الناس وسعادتهم، فإن الإسلام عمم الأمر بإفشاء السلام بين الإنسانية قاطبة لينشروه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86].

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))؛ [رواه أحمد، والترمذي، والحاكم].

 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعوة إلى السلام فيقول: ((السلام من الإسلام… أفشوا السلام تَسلَموا)).

 

وروى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ أي صفات الإسلام خير، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، والخطاب للناس كافة، ثم فضَّل من سبق غيره في إقامة السلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بالله وبرسوله الذي بدأهم بالسلام))؛ [رواه أبو داود].

 

وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61].

 

وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني، إذا دخلت على أهلك، فسلِّم يكُنْ بركة عليك وعلى أهلك))؛ [رواه الترمذي].

 

وروى البخاري في صحيحه معلقًا عن عمار بن ياسر، ووصله عبدالرزاق عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار))؛ [الكلم الطيب].

 

ثم هو يدعو إلى إقرار السلام حتى في المحيط العائلي؛ لأنه مقدمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعي؛ قال: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].

 

وإذا حدث نزاعٌ أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين؛ فقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10].

 

وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين، أمر بإصلاح أمرهم، ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما؛ فقال: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

 

أيها الأحبة الكرام: وسلام الإسلام ليس مقصورًا على المسلمين، بل يشمل غير المسلمين كذلك؛ فدعانا الإسلام إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك؛ قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الأنفال: 61]؛ أي: إن مالوا إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، فمِلْ إلى ذلك، واقبله منهم؛ رغبةً في السلم والمسالمة.

 

بل وأبعد من ذلك، فقد أمرنا الله إن استجار بنا مشرك كافر أن نجيره ونأمنه؛ فقال: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التوبة: 6].

 

واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم السلام مع غير المسلم عبادة نتعبد بها لله تعالى، فرُويَ عنه: ((مَن آذى ذِمِّيًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة))؛ [رواه الخطيب بإسناد حسن].

 

وعنه أيضًا: ((من آذى ذميًّا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله))؛ [رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن].

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًّا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة))؛ [رواه أبو داود، والبيهقي].

 

ودماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((من قتل معاهدًا لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها لَيوجد من مسيرة أربعين عامًا))؛ [رواه البخاري].

 

وقد لخص القرآن الأمر في آية واحدة قائلًا: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

 

وقد سار النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم على هذا النهج، فلم يكن نبينا يدعو إلى الحرب، ولا إلى المخاصمة، والتنازع، ولا إلى التشاجر، بل يدعو إلى السلام، ويهدي الناس إليه ويدلهم عليه؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

 

وإن من استقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجد دعوته إلى السلم والسلام والاحتكام إليهما ظاهرة جليلة في حياته، قبل البعثة وبعدها، فقد كان مع أولى سِنِيِّ عمره يسعى في إحلال السلام بمجتمعه؛ بالمشاركة في فضائل الأخلاق، والإصلاح بين الناس، ونصرة المظلوم؛ فشارك صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، وقال: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جُدْعَان حلفًا ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَمِ، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت))؛ [رواه البيهقي في السنن الكبرى].

 

وفي المدينة المنورة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إليها فأول شيء فعله أنه عقد ميثاق التحالف الإسلامي؛ أي: عقد المؤاخاة بين المؤمنين (المهاجرين والأنصار) أولًا، ثم بين المسلمين وبين اليهود في المدينة، وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يبنيَ مجتمعًا في المدينة يسوده الأمن والسلام.

 

ومن أعظم الأدلة على توخِّي النبي للتعايش السلمي، والسعي إليه بكل وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان – تلك الوثيقة المعروفة التي وقَّعها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مع قريش في الحديبية، فإن فيها موادَّ تدل على مدى اهتمام الإسلام بقضية السلام، والتعايش السلمي، ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه، فإن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكة، دعا صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب فقال: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبةً مكفوفةً وأنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه)).

 

انظر كيف رضيَ النبي صلى الله عليه وسلم بحذف لقبه توخيًا للسلام، وطلبًا للصلح، وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رضِيَ في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفار، في حين التزم بألَّا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين، وهرب إلى قريش، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.

 

والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس؛ تدليلًا على حسن نيته والتزامه بما كتب، وحرصه على السلام، فبينا رسول الله يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم))؛ [سيرة ابن هشام].

 

وقد فعل عند فتح مكة ما يكون أسوة حسنة لمن بعده حال الفتح؛ فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته يوم فتح مكة سعد بن عبادة، وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان، نادى: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، فأقبل رسول الله حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك، زعم سعد ومن معه حينما مر بنا فقال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبرُّ الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس، قال عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: ما نأمن سعدًا أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشًا، قال: وأرسل رسول الله إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد))؛ [مغازي الواقدي].

 

فيا أيها المؤمنون: هل لنا في عودة صادقة إلى هذا الدين؟ هل لنا أن نتمثل هذه المواقف أو هذه المبادئ الموجودة في هذا الدين؟ هل لنا أن نكون دعاة إليه؟ فديننا هو الدين السماوي الخاتم الخالد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي يحقق السلام والسعادة للفرد والمجتمع؛ لأنه الدين الشامل الذي يتلاءم مع الفطرة البشرية، وتمكَّن هذا الدين من قلوب الناس بآدابه القيمة، وتعاليمه النيرة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، الذي جاء رحمة للأنام، وعلى آله وصحبه الكرام؛ أما بعد:

فيا أيها المؤمنون، ولقد بلغ سلام الإسلام مع غير المسلمين بأن أمَّنهم عند العجز والشيخوخة، وضمِن لهم في ظل دولته كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، وهذا ما مضت به سنة الراشدين ومن بعدهم؛ فقد رأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًّا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: “ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا، ثم نخذله عند الهرم”.

 

وفي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: “وجعلت لهم، أيما شيخ ضعُف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله”.

 

وكان هذا في عهد أبي بكر الصديق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصديق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يعد إجماعًا.

 

وكان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة؛ خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذًى، فيقولون له: “ما نعلم إلا وفاءً”.

 

أحبتي: إن في الإسلام تدريبًا عمليًّا للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها، فقد أراد ألَّا تكون مبادئه وقيمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل جعلها من صلب العقيدة الإسلامية، فمن مبادئه الأساسية السلام، ولم يكن مجرد شعار أن الإسلام دين السلام، ولكنه عقيدة وسلوك وعبادة، نتعبد بها لله.

 

فليكن أحدنا سلامًا على من حوله؛ وذلك ببذل النَّدى وكف الأذى، وأداء الحقوق والواجبات التي أوجبها الإسلام على المسلمين تجاه بعضهم، فإلى جانب سلامة اليد واللسان من دمائهم وأعراضهم وأموالهم، فإن أعظم هذه الحقوق والواجبات سلامة الصدر لإخوانك المسلمين، فلا تحمل حقدًا، ولا حسدًا، ولا بغضاء، ولا شحناء، ولا عداوة، ولا غلًّا؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: ((قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد))؛ [صحيح الترغيب والترهيب].

 

وقال سفيان بن دينار، قلت لأبي بشر: “أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم”.

 

أحبتي في الله، والسلام في المنتهى لا يُعطَى جزافًا، وإنما يُعطَى لمن تبنَّى الإسلام منهجًا له في الحياة، وجسَّد مفاهيمه وقيمه في عقله وقلبه وضميره وإرادته وسيرته، وتأكيدًا لتحقيق مبدأ السلام في الأرض بين الناس، فقد كافأ الله الساعين فيه والمطبقين له عمليًّا بالجنة؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس: 25]، وقال: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [الأنعام: 127].

 

فالجنة دار السلام، وسميت بدار السلام؛ لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر، فمن دخلها، سلِم من البلايا والرزايا؛ فليس فيها نغص ولا حسد، ولا فيها مرض، ولا فيها قلق، ولا فيها خوف، ولا فيها منازعة، ولا فيها حروب، ولا فيها شيء من هذا كله، بل إنهم لا يسمعون شيئًا إلا السلام؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 25، 26].

 

سلام وتحية من الله، ومن الملائكة المقربين، وجعل تحية بعضهم بعضًا سلامًا؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 46]، وقال تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ [إبراهيم: 23]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ﴾ [النحل: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24]، وقال تعالى: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ [يونس: 10].

 

فعودوا إلى دينكم، وتراحموا فيما بينكم، وكونوا سلامًا على من حولكم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.

 

اللهم اجعل قلوبنا عامرة بالإيمان، سليمة من الأدران، واحفظنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من الأمراض والأوبئة والأسقام، والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وردنا إلى دينك ردًّا جميلًا، وغيِّر حالنا وأحوال أمتنا إلى أحسن حال، وأقم الصلاة.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
الاستطالة على الأعراض (خطبة)
اعلم أيها المغرور أن النذور لا تغير المقدور (خطبة)