تأملات في بعض آيات سورة النازعات (خطبة)
تأملات في بعض آيات سورة النازعات
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الأحزاب70 ـ 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، آية من كتاب الله عز وجل لطالَما نحفظها ونرددها، ولكن قليل من يتأملها ويتدبرها، وإنها والله واعظة زاجرة آية ناهية، يصلح الله أحوال من تدبرها، ويصلح الله الدنيا والآخرة لمن عقلها، وما ذكره الله في آخر سورة النازعات؛ حيث يقول: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 34 – 39].
يحكي الله تبارك وتعالى عن عبدين اثنين أعني جنسين من الرجال والنساء، اجتمعا في ذلك اليوم العظيم يوم يُعرض الناس كلهم على ربهم لرؤية أعمالهم؛ كما قال جل وعلا: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 4 – 8].
ويصوِّر الله ذلك الموقف بصورة رهيبة من صور يوم القيامة، ويُكنَّي عن ذلك اليوم بأنه يوم الطامة الكبرى، وذلك لأنه يطم الأسماع والعقول، ويجعل الولدان شيبًا من هولها، وتضع كل ذات حمل حملها، في ذلك اليوم ينسف الله الجبال ويدكك الله الأرض، وتُحوَّل الأرض غير الأرض والسماء، وما ذلك إلا لهول الموقف، فبعد ذلك يكون هذا الأمر يعاين الناس أعمالهم، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى، أي يتذكر سعيه وأعماله يراها واضحة جلية لا لبس فيها ولا اختلاط، ولا تزوير ولا شيء من أمور الدنيا، وإنما هو الصدق يا عباد الله؛ لذا يقول الله عن أحوال أهل النفاق: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، وقال سبحانه: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ [المجادلة: 18]، وبيَّن الله واقع الأمر، فيقول سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
فتظهر الخافيات في ذلك اليوم، فيجعل الله من جوارحك من يشهد عليك أركانك وأعضاؤك يا عبد الله، فماذا أنت قائل لربك؟ يقول تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65].
ويقول: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 20]، وهكذا الأرض تشهد يقول سبحانه: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 1 – 8]، فالأرض تشهد بما صنع على ظهرها وهكذا تشهد جوارحك كلها.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلُب الربح مما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمِل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
|
فهذا الجسم الذي عذَّبناه ونعَّمناه وربَّيناه، إنه والله لشاهد علينا غدًا، وهكذا القرآن له شهادة، والملائكة المقربون يشهدون، وهكذا تظهر الحسنات والسيئات، فيحكي الله عن هذين الفريقين، فريق مفرط في جنب الله، فأعطى نفسه هواها، وآخر حزم هذه النفس ورباها، فتأملوا عباد الله في أحوال هذين العبدين، وكل واحد قضى شوطًا من عمره يجتمعان في هذا اليوم العظيم، ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 – 39]؛ أي آثرها على الآخرة التي يقول الله فيها: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى: 4]، لكنه من ضعف عقله ولجهله وهواه، قدَّم هذه العاجلة الفانية على تلك الآجلة الباقية؛ لذا يقول الله: ﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 21].
فهذا العبد فرَّط والله المستعان يذكره الله – سبحانه وتعالى – في موطن من القرآن.
يقول تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ [الفجر: 21 – 23].
يتذكر الإنسان أنه ما كان في شيء، وأن أمامه مخاطر عظيمة؛ يروى عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه كان يقول: الناس في نوم فإذا ماتوا انتبهوا؛ أي إذا خرجوا من هذه الدنيا رأوا أهوالًا عظيمة، فكيف إذا جمعهم الله في ذلك اليوم العظيم.
إذًا يا عبد الله كانت هذه المرحلة الأولى في عبد فرَّط وتجاوز الحدود، فأين الشهوات والأكلات، أين الملذات؟ أين هذه الحياة التي قضيتها، لقد ذهبت عنه أشياء ولم يبقَ منها شيء، إن أهنأَ عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حلُّ وهذا فريق آخر، إنه فريق أهل الإيمان، فريق أهل الخوف من الله الذين عبدوه في هذه الدنيا، فهنيئًا لهم في ذلك اليوم، فلا بأس أن يأخذوا كتبهم بأيمانهم، لكن لهم البشرى في عرصات القيامة، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، وقد قيل إن ملكًا من الملوك جمع علماء بلدته ومملكته، فقال: حدثوني في أي موضع تكون نفسي، أتكون في الجنة فأهنئها أم في النار فأعزيها؟ فقالوا: هذا عالم غيبي والأمر الغيبي لا نعلمه، إلا أن واحدًا من هؤلاء تلا عليه هذه الآيات من آخر النازعات التي تبيِّن الموضع بجلاء، وكل واحد حسيب نفسه، والله رقيب على كل واحد منا، ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 34 – 46].
فهو عمر قصير، فأما أن نستخدمه في طاعة الله، وإما في غير ذلك، والله المستعان، ولا شك أنك خارج من هذه الدنيا.
هذا جاهل من الجاهلين طرفة بن العبد يقول في معلقة له:
ولقد علمتُ لتأتيني منيتي إن المنايا لا تَطيش سهامها
|
إنه شاعر جاهلي قبل الإسلام، يبيِّن حقيقة هذه الدنيا ويعرفها، وأنه مهما تُعمِّر فيها فلابد من الموت، وهذا زهير بن أبي سلمى يقول:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَن يَعِش ثمانين حولًا لا أبا لك يسأَم
|
هذه حقيقة الدنيا، لذا كان من الله وعد أن من خافه واتقاه وعبَده وقدَّسه – أن يُسعده سعادة لا شقاء بعدها؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي، لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)، وهذه فرصة بين يديك، إنها لحياة قصيرة أن تخاف الله عز وجل فيما تأتي وما تذر، وكل شيء تعمله محطُّ نظرٍ؛ من صلاة أو صيام، وحجٍّ واعتمار، وختم القرآن، وصلة الأرحام، ومحافظة على الجُمع والجماعات، وأنت أدرى بذلك من غيرك، والله يعلم ذلك كله، فلماذا يا عباد الله لا نذكِّر أنفسنا بمثل هذا ونحن أحقر خلقًا من السماوات والأرض والجبال والملائكة المقربين التي هي طائعة لأمر الله، فالجبال وما فيها من الارتفاع وما في عمقها أسفل البحار، وهكذا الكون كله ليخاف من ربه جل وعلا؛ يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].
وفي حق الملائكة يقول: ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ ﴾ [فصلت: 38].
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (أطَّت السماء وحق لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله)، لما بلغ بنبينا حتى بلغ سدرة المنتهى حتى سمع صرير أقلام القضاء والقدر، ذكر من ذلك: (البيت المعمور، وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه إلى قيام الساعة)، فالأملاك بطول عمرها، وما خلق الله – عز وجل – لها من العظمة والكبرياء من كبريائه تبارك وتعالى، إنها لتسبِّح الله جل وعلا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، قد سد ما بين المشرق والمغرب)، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الله أَذِنَ أن أحدِّث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى منكبه مسيرة سبعمائة عام)، يقول: (سبحانك ما أعظمك فيقول الله: لا يعلم ذلك من يحلف بي كاذبًا)، ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن غرائب خلق الله وعظيم مخلوقاته عن ديك من الدِّيَكة، والحديث ذكره الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند صحيح قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أتحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض السفلى، وعنقه مطوية تحت العرش، فيقول هذا الديك: سبحانك ما أعظمك).
يعلم تبارك وتعالى ونحن ماذا نكون، وماذا عسى أن نكون أمام هذه المخلوقات الطائعة لله، وهكذا أيضًا الرسل الذين لهم وسامات عالية ومقامات رفيعة، ليخافوا الله هذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿ قلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأنعام: 15].
نبينا يخاف أن يعصي ربه – سبحانه وتعالى – وهكذا النبيون في ذلك اليوم العظيم الذين زكَّاهم الله تعالى في ذلك اليوم داواهم جميعًا، اللهم سلِّم، سلِّم، وإن الخليقة إذا أرادت أن تبحث عمن يشفع لها عند الله تتنصل منها الأنبياء عدا نبينا صلى الله عليه وسلم قائلين كلهم: إن ربنا قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثلَه، ولن يغضب بعده مثله، هذه أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن نكون عباد الله، وهكذا الصالحون بعضهم وهو سفيان الثوري كان لا يستطيع أن ينام في بعض الليالي لما وجد في قلبه خشية الله يقول: إنه ليتذكر عذاب النار، فيطير النوم من جَفنه وكان بعضهم يردد:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا أَخالك ناجيَا
|
اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم، استغفروا الله يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أنكم في دار الأعمال والإمهال، والفرصة بيننا يا عباد الله، فالسعيد من اتَّعظ بغيره، ألا وإن أمير المؤمنين عليًّا كان يقول: (ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة ترحلت مُقبلة، فمنذ أن خلق الله الدنيا وهي في إدبار، ومنذ أن خلق الله الآخرة وهي في إقبال، ألا وإن لكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل).
يا عباد الله، ما أحوجنا إلى أن نعظِّم الله في قلوبنا؛ لنعظم شعائره وأوامره، وأن يكون في قلوبنا خوفٌ من الله تعالى، إن من كان في قلبه خوف من الله، لهو والله أفضل من أن يكون في قلبه أمن فقط، فإن كثيرًا من الناس ربما كانوا من المسلمين، قد أعطوا لأنفسهم الشعاع الأخضر فلا مراقبة ولا محاسبة، وقد قال رجل للحسن البصري رحمه الله: إني أجالس أقوامًا يخوفونني بالله فهل أجالسهم؟ فقال له أبو سعيد: والله لأن تجالس أقوامًا يخوفونك حتى تدرك الأمان، خير لك من أن تجالس أقوامًا يؤمنونك حتى تكون في خوف.
فالمؤمن يا عباد الله لابد أن يجمع بين الخوف والرجاء، فلا ينبغي له أن يكون يائسًا من رحمة الله، بل لابد أن يرجوه، ولابد أن يخافه خوفًا يَمنعه عن المعصية، ورجاء يدرأ به اليأس والقنوط؛ فإن الله يقول: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، إلا في حالتين اثنتين لابد أن تغلب جانب الخوف، وكذلك الرجاء، فمن أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي والموبقات، فلابد أن يخاف الله كثيرًا.
فإن الله يقول: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
ففي هذه الحيثية يجب على مَن أسرف على نفسه بالمعصية أن يكثر الخوف من الله – سبحانه وتعالى – وهكذا أيضًا إن شعر بدُنوِّ أجله وبخروجه من هذه الدنيا، لابد أن يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف؛ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا يَموتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)، ويَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في الحديث القدسي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»، لكن هذا في آخر المطاف، أما وأنت على هذه الحال، فلا تغلب جانب الخوف، لا سيما إن كنت قد أسرفت على نفسك بالمعصية، ولا ينبغي للمخلوق أن يتكبر على الله، فإنك مخلوق ضعيف تحتاج إلى الله – سبحانه وتعالى – يقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [فاطر: 16]، فلا ينبغي لصاحب الثراء ولا لصاحب المنصب والجاه أن يغترَّ بذلك كله، فإنما هو أمر زائل.
لا يأمَن الدهرَ ذو بغي ولا ملكَا جنوده ضاق عنه السهلُ والجبل
|
وهكذا قال بعضهم:
لا سابغات ولا جأْواء باسلة تقي المنون لدى استيفاء آجال
|
فلا ينبغي لشخصٍ أن يغتر بهذه الدنيا، فإنه عما قريب يفارقها؛ يقول تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، ويقول سبحانه: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26]، ويقول: ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60].
فمن كان في ذمَّته أو في بطنه مظالم لعباد الله، فليتحلل منها اليوم قبل الغد، فإنه في وقت إمهال، فمن السهل أن يعيدها، لكن إذا جمعه الله مع خصومه ماذا يقول له في ذلك اليوم؟ وهذه حجة قد أُقيمت على كواهلنا، وأعظم أمانة، وأبرزها أمانة هذا الدين الذي كلفنا الله به، بل نحن برَزنا له يوم تبرَّأت السماوات والأرض والجبال إشفاقًا ليس عصيانًا، فبرز لهذه الأمانة هذا الإنسان، فما فعلنا بهذه الأمانة أمانة القرآن والسنة التي يقول الله فيها: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون) لربنا غدًا في هذه الأمانة التي يجب علينا أن نهتم بها أكثر من أمانة الأموال والأولاد.
الدين رأسُ الأمر فاستمسِك به فضياعُه من أعظم الخسران
|
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أصلح الرعاة والرعية، وأصلح ولاة أمر المسلمين، وقضاة المسلمين وعلماء المسلمين، ودعاة المسلمين صلاحًا لا فساد بعده، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.