الوجيز في مناهج المحدثين للكتابة والتدوين (1)
الوجيز في مناهج الْمُحَدِّثِين للكتابة والتدوين (1)
نذكر في هذه السلسلة المختصرة نُبذة يسيرة حول مناهج المحدِّثين؛ عامة أو خاصة، وأهمية معرفة ذلك أن يكون للإنسان القدر اليسير من المعرفة حول آليَّة جمع الحديث وتدوينه، وبالله التوفيق، وعليه الاعتماد.
تعريف مناهج المحدِّثين:
أولًا: معنى المناهج في اللغة:
المناهج جمع منهج، والمنهج، والْمِنهاج، والنَّهج، بمعنًى واحد؛ وهو: الطريق الواضح، أو الطريق المستقيم، ويُقال: نهج الأمرُ، وأنهج: إذا وضح.
ومنه في القرآن الكريم: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وقد فُسِّرت لفظة المنهاج في الآية بالسبيل، والسُّنة، والطريق الواضح؛ قال ابن كثير: “أما المنهاج: فهو الطريق الواضح السهل”.
ثانيًا: معنى المناهج اصطلاحًا:
لم نجد عند القدامى تعريفًا اصطلاحيًّا لمناهج المحدِّثين، بينما عرفها المعاصرون بعدة تعريفات؛ نختار منها ما يأتي:
1– عرَّفها الدكتور رفعت فوزي عبدالمطلب بأنها: “الطرق الواضحة التي اتبعها المحدِّثون في معالجة قضايا علوم الحديث، من رواية ودِراية”، وهذا التعريف اتَّسم بالإجمال وعدم التفصيل.
2– وعرَّفها الدكتور علي نايف بقاعي، فقال: “هي الطرق التي يسلكها المحدِّثون في رواية الأحاديث، والتعليق عليها، وتصنيفها، بحسب شروط معينة”، ومن خلال التعريف نرى أنه يشمل معظم ما يتعلق بالحديث؛ روايةً وتصنيفًا وضوابطَ.
فروايةُ الأحاديث: يُقصَد بها طرق التحمُّل والأداء الشفوية والكتابية، وتصنيفها: أي: جمعها في كتب ومصنَّفات، وذكره في التعريف على الرغم من كونه متضمنًا في الرواية؛ لأنها قد لا تكون تصنيفًا، كما في مرحلة ما قبل التدوين؛ ومنه: روايات الصحابة والتابعين قبل بَدءِ التصنيف.
بحسب شروط معينة: وهي الصفات التي يشترطها كل محدِّث فيمن يخرِّج لهم في كتابه، والوجه الذي روى به كل راوٍ عن الآخر، والتعليق عليها: وهو تلك الفوائد الفقهية والإسنادية التي يذكرها المصنِّف بعد إيراد الحديث.
أهمية دراسة مناهج المحدِّثين:
لدراسة مناهج المحدثين، ومعرفة أصولهم في مصنَّفاتهم الحديثية، وفي الكتابة في علوم الحديث المختلِفة فوائدُ كثيرةٌ؛ ومنها:
1– معرفة طرق تحمُّل الحديث وأدائه، سماعًا، أو عرضًا؛ ومن ثَمَّ الحكم على سند الحديث اتصالًا وانقطاعًا وغير ذلك.
2– معرفة طرق أصحاب المصنَّفات في تخريج الأحاديث في كتبهم.
3– الوقوف على شروط الأئمة، واختلافهم في ذلك بين مُتشدِّد، ومتساهِل، ومعتدل.
4– معرفة مسالك المحدِّثين في انتقاء أحاديث كتبهم، وطرق ترتيبها، والتبويب عليها، وشرح غريبها، ودفع تعارضها واختلافها، والتعليق عليها.
5– دفع الشُّبَهِ الْمُثارة حول الأئمة المحدِّثين، ومعرفة مكانتهم العلمية، خصوصًا صاحبي الصحيحين؛ لأن الجهل بمناهجهم يُوقِع في الاشتباه في بعض أحكامهم على الأحاديث لدى البعض؛ لجَهْلِهِ بهذا العلم الدقيق.
6– تيسير الاستفادة من المصنَّفات الحديثية؛ لأن الجهل بمنهج مؤلِّف يُبعد ثمرة كتابه عن القارئ.
7– تنمية التفكير العلمي والمنهجي لدى طالب العلم، وإكسابه مهارات البحث العلمي، من خلال التأسِّي بالأئمة المحدِّثين في مناهجهم وإبداعاتهم، وأخذ الفائدة منهم.
المقصود بمناهج المحدثين بشكل عام:
يقصد بمناهج المحدثين: الطرق التي سلكها الأئمة المحدِّثون في رواية الأحاديث، والتعليق عليها، وتصنيفها، بحسب شروط معينة، أو بمعنى آخر: أصولهم في نقدهم الرواةَ ومروياتهم، واصطلاحاتهم في فنِّهم، وشروطهم في تصنيف كتبهم، ومواردهم فيها، وكل ما يتعلق بهذه المسائل.
وقيل: يُقصَد بالمناهج العامة للمحدِّثين: الأساليب والطرق التي سلكها جميع المحدِّثين، أو اتفقوا عليها في طلب الحديث، أو روايته، أو كتابته وضبطه، أو تحمله وأدائه، وسوف نتعرض لأبرز تلك المناهج المتعددة في النقاط الآتية مرتبة حسب المراد:
أولًا: منهجهم في طلب الحديث:
1- إخلاص النية في طلب الحديث الشريف: كان المحدِّثون يحُثُّون طلبة الحديث على إخلاص النية لله جل وعلا في طلب الحديث؛ حتى يحذَرُوا من الدخول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلَّم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليُصيب به عَرَضًا من الدنيا، لم يجد عَرفَ الجنة -أي: ريحها – يوم القيامة))؛ [رواه أبو داود، وابن ماجه].
2- التدرُّج في طلب الحديث والصبر عليه: دأب المحدِّثون على البدء بصغار العلم قبل كباره، والتدرج في الطلب؛ وكان الإمام الزهري يقول: “من طَلَبَ العلم جملةً فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان”، وقال أيضًا: “إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة له غَلَبَك، ولكن خُذْه مع الأيام والليالي أخذًا رفيقًا تظفَر به”، وقال معمر بن راشد: “من طلب الحديث جملةً، ذهب منه جملة، إنما كنا نطلب حديثًا وحديثين”، ويقول الإمام النووي: “وينبغي أن يقدِّم – أي طالب الحديث – العناية بالصحيحين، ثم سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، ضبطًا لمشكلها، وفهمًا لخفيِّ معانيها…”، ويجدر بكلِّ من طلب الحديث أن يرجع إلى كتاب الخطيب البغدادي “الرحلة في طلب الحديث”، وإلى كتاب الشيخ عبدالفتاح أبو غدة “صفحات من صبر العلماء”.
3 – العمل بالعلم: كانوا يعملون بكل ما يَرُوون من الأحاديث؛ قال الإمام ابن الصلاح: “وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح، وغيرهما من الأعمال الصالحة، فذلك زكاة الحديث”، وقال وكيع: “إذا أردت أن تحفظ الحديث، فاعمل به”.
4 – الحفظ والاستظهار: كانوا يعتمدون على الحفظ في تلقِّي الحديث؛ قال الإمام الأوزاعي: “ما زال هذا العلم عزيزًا تلقَّاه الرجال، حتى وقع في الصحف فحمله ودخل فيه مَن هو غيرُ أهلٍ له”، وقال هشيم بن بشير: “من لم يحفظ الحديث، فليس هو من أصحاب الحديث”، ولا يعني هذا إهمال الكتابة؛ قال الخليل: “ما سمعت شيئًا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفِظتُه، وما حفظته إلا نفعني”، وكما يُقال: من حفِظ حُجَّةٌ على من لم يحفظ، ومن حفِظ المتون حاز الفنون.
5- المناصحة وبذل الفائدة: حثَّ المحدِّثون طلبة الحديث على المناصحة، وإفادة بعضهم بعضًا؛ قال عبدالله بن المبارك: “إن أول منفعة الحديث أن يُفيد بعضكم بعضًا”.
6- تعظيم المحدِّث وتبجيله: كانوا يُجِلُّون المحدِّث؛ لِما في صدره من العلم؛ قال الإمام النووي: “وينبغي أن يعظِّم شيخه ومن يسمع منه، فذلك من إجلال العلم، وبه يُفتَح على الإنسان، وينبغي أن يعتقد جلالة شيخه ورجحانه، ويتحرَّى رضاه، فذلك أعظم الطرق إلى الانتفاع به”.