النور جل جلاله وتقدست أسماؤه


النُّورُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه


عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:

أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( النُّور ِ).

 

ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.

 

ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.

 

رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بهذا الاسْمِ.

 

خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ.

 

النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ

قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ

أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:

1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.

 

2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].

 

3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].

 

4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.

 

5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.

 

6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].

 

7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].

 

8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].

 

9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].

 

10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك (4).

 

11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).

 

ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيه.

 

ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:

1- تَعْرِيفُ المُسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمِ ( النُّورِ ).

 

2- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى طَلَبِ الهِدَايَةِ فَمَنْ يَمْلِكُ الِهدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ.

 

3- تَنْوِي أَنْ تُرْشِدَ المُسْلِمِينَ إِلَى الالْتِجَاءِ إِلَى النُّورِ الحَقِيقِيِّ.

 

4- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي تُنَوِّرُ القُلُوبَ.

 

أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( النُّورِ ) [7]

النُّورُ: الضِّيَاءُ، وَالجَمْعُ أَنْوَارٌ.

 

وَأَنارَ الشَّيءَ وَاسْتَنَارَ بِمَعْنَى، أَيْ: أَضَاءَ.

 

التَّنْوِيرُ: الإِنَارَةُ، وَالتَّنْوِيرُ: الإِسْفَارُ.

 

وَالنَّوْرُ: نَورُ النَّبَاتِ وَزَهْرُهُ.

 

وَالنُّورُ أَيْضًا: النَّفَرُ مِنَ الظِّبَاءِ، وَنِسْوَةٌ نُورٌ، أَيْ: نُفَّرٌ مِنَ الرِّيبَةِ [8].

 

ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآَنِ الكَرِيمِ

وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35].

 

ثَالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: « يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]: هَادِي مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ، فَهُمْ بِنُورِهِ إِلَى الحَقِّ يَهْتَدُونَ، وَبِهُدَاهُ مِنْ حَيْرَةِ الضَّلَالَةِ يَعْتَصِمُونَ ».

 

ثُمَّ نَقَلَ أَقْوَالَ المُفَسِّرِينَ فِي الآَيَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَاهَا: اللهُ مُدَبِّرُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ضِيَاءُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ[9].

 

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: « وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا القَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ ؛ لَأَنَّهُ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [النور: 34]، فَكَانَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ مَوْقِعٍ يَقَعُ تَنْزِيلُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ مَدْحِ مَا ابْتَدَأَ بِذِكْرِ مَدْحِهِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ، مَا لَمْ يَأْتِ مَا يَدَلُّ عَلَى انْقِضَاءِ الخَبَرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ.

 

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الكَلَامِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، فَهَدَيْنَاكُمْ بِهَا وَبَيَّنَّا لَكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ بِهَا ؛ لَأَنِّي هَادِي أَهْلَ السَّمَاوَات وَأَهْلِ الأَرْضِ.

 

وَتَرَكَ وَصْلَ الكَلَامِ بِاللَّامِ وَابْتَدَأَ الخَبَرَ عَنْ هِدَايَةِ خَلْقِهِ ابْتَدَاءً، وَفِيهِ المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الكَلَامِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي الخَبَرِ عَنْ مَثَلِ هِدَايَتِهِ خَلْقِهِ بِالآَيَاتِ المُبَيِّنَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35][10].

 

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: « اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، فَقَالَ بَعْضُهُم: اللهُ ذُو نُورِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، يُرِيدُ: أَنَّهُ خَالِقُ هَذَا النُّورِ الَّذِي فِي الكَوَاكِبِ كُلِّهَا، لَا أَنَّهُ ضِيَاءٌ لَهَا وَأَنْوَارٌ لَأَجْسَامِهَا! بَلْ أَنْوَارُ تَنْفَصِلُ مِنْ أَنْوَارِ الله تَعَالَى.

 

وَيُقَالُ: إِنَّ حَوْلَ العَرْشِ أَنْوَارٌ لَوِ انْفَصَلَتْ مِنْهَا شَرَارَةُ عَلَى الأَرْضِ لَاحْتَرَقَتْ الأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا!

 

وَقَالَ بَعْضُهُم: بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، أَيْ: أَنَّهُ بِمَا بَيَّنَ وَأَوْضَحَ بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِ وَحْدَانِيَّتِهِ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ.

 

فَتَقْدِيرُ الكَلَامِ عَلَى هَذَا: مَعْرِفَةُ الله: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، أَوْ أَدِلَّتُهُ: نُورُهَا، أَوْ بَرَاهِينُهُ، لَا يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا!! » [11].

 

وَقَالَ تِلْمِيذُهُ الزَّجَّاجِيُّ: « ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]؛ أَيْ: يَهْتَدِي بِنُورِهِ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ، أَيْ: بِآَيَاتِهِ وَأَعْلَامِهِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَالبَرَاهِينِ الوَاضِحَةِ النَّيِّرَةِ، يَهْتَدِي أَهْلُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالإقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ مِنَ الأَنْدَادِ وَالأَمْثَالِ ﻷ [12].

 

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: « ( النُّورُ ) هُوَ الَّذِي بِنُورِهِ يُبْصِرُ ذُو العَمَايةِ، وَبِهِدَايَتِهِ يُرْشَدُ ذُو الغُوَايَةِ، وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يَتَأَوَّلُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]؛ أَيْ: مِنْهُ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ.

 

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نُورٌ مِنَ الأَنْوَارِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ ذَلِكَ فِيهِ سُبْحَانَهُ!! فَإِنَّ النُّورَ تُضَادُّه الظُلْمَةُ، وَتُعَاقِبُهُ فَتُزِيلُهُ، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ نِدٌّ! [13]، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ذَا النُّورِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النُّورُ صِفَةَ ذَاتٍ لَهُ! كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنِ اسْمِ السَّلَامِ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ: ذُو السَّلَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةَ فعلٍ عَلَى مَعْنَى إِضَافَةِ الفِعْلِ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ خَالِقُ النُّورِ وَمُوجِدُهُ » [14].

 

وَقَالَ الحُلَيْمِي: « وَهُوَ الهَادِيِ لَا يَعْلَمُ العِبَادُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُم، وَلَا يُدْرِكُونَ إِلَّا مَا سَهَّلَ [15] لَهُمْ إِدْرَاكَهُ، فَالَحوَاسُّ وَالعَقْلُ فِطْرَتُهُ وَخَلْقُهُ وَعَطِيَّتُهُ » [16].

 

وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: « ( النُّورُ ) هُوَ الهَادِي، وَقِيلَ المُنَوِّرُ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، وَقِيلِ: هُوَ الحَقُّ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِالدَّلِيلِ وَتَصِحُّ رَؤْيَتُهُ بِالأَبْصَارِ.

 

وَهَذِهِ صِفَةٌ يَسْتَحِقُّهَا البَارِي تَعَالَى بِذَاتِهِ [17].

 

وَقَالَ فِي الَمقْصِدِ: « ( النُّورُ ) هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي بِهِ كُلُّ ظُهُورٍ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي نَفْسِهِ المُظْهِرَ لِغَيْرِهِ يُسَمَّى نُورًا » [18].

 

وَقَالَ ابْنُ العَربِيِّ مُلَخِّصًا الأَقْوَالَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الاسْمِ: « وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِم بِالنُّورِ فِي وَصْفِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ ( نُورُ ) عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:

الأَوَّلِ: مَعْنَاهُ: هَادِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

 

الثَّانِي: مَعْنَاهُ: مُنَوِّرُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّ فِي مُصحَفِهِ ( مُنَوِّرُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ).

 

الثَّالِثِ: أَنَّهُ مُزَيِّنُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى مُنَوِّرٍ، قَالَهُ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ.

 

الرَّابِعِ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ.

 

الخَامِسِ: أَنَّهُ ذُو النُّورِ.

 

السَّادِسُ: أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالأَنْوَارِ، قَالَهُ الشَّيخُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ.

 

قَالَ: وَقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَا يُقَالُ: إِنَّهُ نُورٌ إِلَّا بِالإِضَافَةِ، قَالَ: والصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالأَنْوَارِ؛ لَأَنَّهُ الحَقِيقَةُ وَالعُدُولُ عَنِ الحَقِيقَةِ إِلَى نُورِ هَادِي، أَوْ مُنورٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَجَازٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَصِحُّ! وَلَأَنَّ الأَثَرَ يُعَضِّدُهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ صِفَةَ ذَاتٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ فِعْلٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ، إِذْ رُوحُ النُّورِ: البَيَانُ وَالظُّهُورُ» [19].

 

وَقَالَ السَّعْدِيُّ: «(النُّورُ): نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، الَّذِي نَوَّرَ قُلُوبَ العَارِفِينَ بِمَعْرِفَتِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ، وَنَوَّرَ أَفْئِدَتَهُمْ بِهِدَايَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَنَارَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ بِالأَنْوَارِ الَّتِي وَضَعَهَا، وَحِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بِصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » [20].

 

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ:



 

رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ

1- أَنَّ ( النُّورَ ) صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا، وَمِنْهُ اشْتُقَّ اسْمُ ( النُّورِ ) الَّذِي هُوَ أَحَدُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى [24].

 

وَقَدْ أَضَافَ اللهُ تَعَالَى النُّورَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى مَوْصُوفِهِا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69]، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، فَإِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الله عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ المُفَسِّرِينَ [25].

 

وَقَدْ قَرَرَّ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ وَصْفَ اللهُ تَعَالَى بِالنُّورِ، ثُمَّ شَرَعَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]: هَادِي أَهْلَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ نُورًا.

 

يَقُولُ رحمه الله: « ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]؛ أَيْ: هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، لَا يَضُرُّنَا، وَلَا يُخَالِفُ مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ الآَيَةِ الَّتِي ذُكِرَ النُّورُ فِيهَا مُضَافًا، لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي تَفْسِيرِ نُورٍ مُطْلَقٍ، كَمَا ادَّعَيْتَ أَنْتَ مَنْ وُرُودِ الحَدِيثِ بِهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟!

 

ثُمَّ قَولُ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ نُورًا: فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِم أَنْ يَذْكُرُوا بَعْضَ ( صِفَاتِ المُفَسَّرِ ) مِنَ الأَسْمَاءِ، أَوْ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ثُبُوتُ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ للْمُسَمَّى، بَلْ قَدْ يَكُونَانِ مُتَلَازِمَيْنِ، وَلَا دُخُولَ لِبَقِيَّةِ الأَنْوَاعِ فِيهِ.

 

وَهَذَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي القَوَاعِدِ المُتَقَدِّمَةِ، وَمَنْ تَدَبَّرَهِ عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ مُتَّفِقَةٌ غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوُلُ بَعْضِهِم فِي ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]: إِنَّهُ الإِسْلَامُ، وَقَولٌ آَخَرُ: إِنَّهُ القُرْآَنُ، وَقَولٌ آَخَرُ: إِنَّهُ السنَّةُ وَالجَمَاعَةُ، وَقَولٌ آَخَرُ: إِنَّهُ طَرِيقُ العُبُودِيَّةِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ مُتَلَازِمَةٌ، لَا مُتَبَايِنَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ القُرْآَنِ وَالرَّسُولِ بِأَسْمَائِهِ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الله الحُسْنَى.

 

فَقَولُ مَنْ قَالَ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]: هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نَورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ، أَمَّا إِنَّهُمْ نَفَوْا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا إِنَّهُمْ أَرَادُوا ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: « إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْس عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَات مِنْ نُورِ وَجْهِهِ » [26].

 

وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِكْرِ نُورِ وَجْهِهِ، وَفِي رِوَايَةِ (النُّورِ ) مَا فِيهِ كِفَايَةٌ [27]، فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى غَيْرِ الهِدَايَةِ.

 

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الأَرْضَ تُشْرِقُ بِنُورِ رَبِّهَا، فَإِذَا كَانَتْ تُشْرِقُ مِنْ نُورِهِ كَيْفَ لَا يَكُونُ هُوَ نُورًا؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النُّورُ المُضَافُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ خَلْقٍ وَمُلْكٍ وَاصْطِفَاءٍ – كَقَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، وَنَحْوَ ذَلِكَ – لِوُجُوهٍ:

أَحَدِهَا: أَنَّ النُّورَ لَمْ يُضَفْ قَطُّ إِلَى الله إِذَا كَانَ صِفَةً لِأَعْيَانٍ قَائِمَةٍ، فَلَا يُقَالُ فِي المَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا: إِنَّهَا نُورُ الله، وَلَا فِي الشَّمْسِ وَالقَمَرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الله بنْ مَسْعُودٍ: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ؛ نُورُ السَّمَاوَات مِنْ نُورِ وَجْهِهِ»، وَفِي الدُّعَاءِ المَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: « أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ» [28].

 

الثَّانِي: أَنَّ الأَنْوَارَ المَخْلُوقَةَ كَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ تُشْرِقُ لَهَا الأَرْضُ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنْ نُورٍ إِلَّا وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: مُنَوِّرُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ نُورٌ، وَكُلُّ مُنَوِّرٍ نَوْرٌ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.

 

ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلَ نُورِهِ الَّذِي فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ الَّذِي فِي المِصْبَاحِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ نُورٌ، وَهُوَ مُنَوِّرٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ نُورُهُ فِي القُلُوبِ هُوَ نُورٌ، وَهُوَ مُنَوِّرٌ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ نُورٌ فَهُوَ مُنَوِّرٌ.

 

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَات بِالكَوَاكِبِ: فَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَات فَهُوَ مُحِقٌّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ مَعْنَى إِلَّا هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ، لَأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَالكَوَاكِبِ لَا يَحْصُلُ نُورُهَا فِي جَمِيعِ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ.

 

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]: فَضَرَبَ المَثَلَ لِنُورِهِ المَوْجُودِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ النُّورَ الَموْجُودَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ـ نُورَ الإِيمَانِ وَالعِلْمِ ـ مُرَادٌ مِنَ الآيَةِ، لَمْ يَضْرِبْهَا عَلَى النُّورِ الحَسِيِّ الَّذِي يَكُونُ للْكَوَاكِبِ، وَهَذَا هُوَ الجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَأَبِي العَالِيةَ وَالحَسَنِ، بَعْدَ المُطَالَبَةِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَالظَّنُّ ضَعْفُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي النُّورِ، أَمَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلُهُ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، لَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَّا التَّنْوِيرُ بِالشَّمْسِ، وَالقَمَرِ وَالنُّجُومِ! فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.

 

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: « أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ » وَمَلْعُومٌ أَنَّ العُمْيَانَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ حِجَابٌ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالمَوْتَى لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَهْلُ الجَنَّةِ لَا نَصِيبَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلاَ قَمَرٌ، كَيْفَ وَقَدْ رَوَى أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَعْلَمُونَ اللَّيْلَ والنَّهَارِ بِأَنْوَارٍ تَظْهَرُ مِنَ العَرْشِ، مِثْلِ ظُهُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَتِلْكَ الأَنْوَارُ خَارِجَةٌ عَنِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ [29].

 

2- تَقَدَّمَ قَوْلُ الخَطَّابِيُّ: « وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نُورٌ مِنَ الأَنْوَارِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ ذَلِكَ فِيهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النُّورَ تُضَادُّهُ الظُّلْمَةُ، وَتُعَاقِبُه فَتُنِزيلُهُ، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ نِدٌّ!».

 

وَقَدْ رَدَّ عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا نَاتِجَةٌ مِنْ سُوءِ الفَهْمِ: شَيْخُ الإِسْلَامِ رحمه الله بِقَوْلِهِ:

« وَأَمَّا قَوْلُ المُعْتَرِضِ: النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ! فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ تَفْهَمْ مَعْنَى الضِّدِّ المَنْفِي عَنِ الله، فَإِنَّ ( الضِّدَّ ) يُرَادُ بِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي الأَعْرَاضِ المُتَضَادَّةِ مِثْلَ السَّوَادِ وَالبَياضِ.

 

وَيَقُولُ النَّاسُ: الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّينِ، وَهَذَا التَّضَادُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي (الأَعْرَاضِ) وَأَمَّا (الأَعْيَانُ) فَلَا تَضَادَّ فِيهَا، فَيَمْتَنِعُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: للهِ ضِدٌّ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُتَصَوَّرُ التَّضَادُّ فِيهَا، وَاللهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ بِلَا رَيْبٍ، بَلْ هُوَ القَاهِرُ الغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ.

 

وَقَدْ يُرَادُ ( بِالضِّدِّ ) المَعَارِضُ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ وُجُودِ ذَاتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ »؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ[30]، وَتَسْمِيَةُ المُخَالِفِ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ ضِدًّا كَتَسْمِيَتِهِ عَدُوًّا.

 

وَبِهَذَا الاعْتِبَارِ فَالمُعَادُونَ المُضَادُّونَ للهِ كَثِيرُونَ، فَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الأَوَّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ مُضَادًّا للهِ، لَكِنِ التَّضَادُّ يَقَعُ فِي نَفْسِ الكُفَّارِ فَإِنَّ البَاطِلَ ضِدُّ الحَقِّ، وَالكَذِبَ ضِدُّ الصِّدْقِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي الله مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَانَ هَذَا ضِدًّا لِلإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِهِ.

 

وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ ـ وَجَلَّ الحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ ـ فَيُقَالُ لَهُ: وَالحَيُّ ضِدُّ المَيِّتِ، وَالعَلِيمُ ضِدُّ الجَاهِلِ، والسَّمِيعُ وَالبَصِيرُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ ضِدُّ الأَصَمِّ الأَعْمَى الأَبْكَمِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا سُمِّيَ اللهُ بِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ لَهَا أَضَّدَادٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِأَضْدَادِهَا، فَجَلَّ اللهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، أَوْ عَاجِزًا أَوْ فَقِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.

 

وَأَمَّا وُجُودُ مَخْلُوقٍ لَهُ مَوصُوفٌ بِضِدِّ صِفَتِهِ: مِثْلَ وُجُودِ المَيِّتِ وَالجَاهِلِ، وَالفَقِيرِ وَالظَّـاِلمِ، فَهَـذَا كَثِيرٌ، بَلْ غَالِبُ أَسْمَائِهِ لَهـَا أَضْدَادُ مَوْجُودَةٌ فِي المَوْجُودِينَ.

 

وَلَا يُقَالُ لِأُوْلَئِكَ إِنَّهُمْ أَضْدَادُ الله، وَلَكْنِ يُقَالُ إِنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ الله، فَإِنَّ التَّضَادَّ بَيْنَ الصِّفَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي المَحَلِّ الوَاحِدِ لَا فِي مَحَلَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالمَوْتِ ضَادَتْهُ الحَيَاةُ، وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالحَيَاةِ ضَادَّهُ المَوْتُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمةً أَوْ مَوْصُوفًا بِالظُّلْمَةِ، كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ مَوْصُوفًا بِالمَوْتِ.

 

فَهَذَا المُعْتَرِضُ أَخَذَ لَفْظَ ( الضِّدِّ بِالاشْتِرَاكِ ) وَلَمْ يَمَيِّزْ بَيْنَ الضِّدِّ الَّذِي يُضَادُّ ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ الحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِضِدِّ صِفَاتِهِ، وَبِيْنَ مَا يُضَادُّهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَالضِّدُّ الأَوَّلُ هُوَ المُمْتَنِعُ، وَأَمَّا الآَخَرَانِ فَوُجُودُهُمَا كَثِيرٌ، لَكِنْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ ضِدٌّ للهِ، فَإِنَّ المُتَّصِفَ بِضِدِّ صِفَاتِهِ لَمْ يُضَادُّهُ.

 

وَالَّذِينَ قَالُوا: « النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ » قَالُوا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ نُورٌ وَشْيءٌ آَخَرَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ، فَلْيَتَدَبَّرِ العَاقِلُ هَذَا التَّعْطِيلَ وَالتَّخْلِيطَ.

 

[ اعْتِرَاضُ المُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى نُورًا ]:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ نُورًا لَمْ يَجُزْ إِضَافَتُهُ إِلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، فَالكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقَينِ:

أَحَدِهِمَا: أَنْ نَقُولَ: النَّصُّ فِي كِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللهَ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللهَ نُورٌ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأَوَّلِ.

 

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69]، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، وَفِيمَا ثَبُتَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وَألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَه ضَلَّ » [31].

 

وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَاءِ الطَّائِفِ: « أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ»؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَات مِنْ نُورِ وَجْهِهِ.

 

وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: « إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ ـ أَوِ النَّارُ ـ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ»[32]، فَهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ حِجَابِهِ.

 

فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ ( النَّارِ وَالنُّورِ ) لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ النَّارِ الصَّافِيَةِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا مُوسَى يُقَالُ لَهَا نَارٌ وَنُورٌ، كَمَا سَمَّى اللهُ نَارَ المِصْبَاحِ نُورًا، بِخِلَافِ النَّارِ المُظْلِمَةِ كَنَارِ جَهَنَّمَِ فَتِلْكَ لَا تُسَمَّى نُورًا.

 

فَالأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: ( إِشْرَاقٌ بِلَا إِحْرَاقٍ ) وَهُوَ النُّورُ المَحْضُ كَالقَمَرِ.

 

وَ(إِحْرَاقٌ بِلَا إِشْرَاقٍ ) وَهِيَ النَّارُ المُظْلِمَةُ.

 

وَ(مَا هُوَ نَارٌ وَنُورٌ) كَالشَّمْسِ، وَنَارُ المَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا تُوصِفُ بِالأَمْرَينِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ النُّورُ، وَلَيْسَ المُضَافُ هُوَ عَيْنُ المُضَافِ إِلَيْهِ.

 

الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُرَدُّ عَلَيْكُمْ، لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُسَمِّيهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَبَيَّنَهُ، فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ: «هَادٍ» أَوْ «مُنَوِّرٌ»، أَوْ غَيرَ ذَلِكَ، فَالمُسَمَّى « نُورًا » هُوَ الرَّبُّ نَفْسُهُ، لَيْسَ هُوَ النُّورُ المُضَافُ إِلَيْهِ، فَإِذَا قُلْتَ: « هُوَ الهَادِي فَنُورُهُ الهُدَى » جَعَلْتَ أَحَدَ النُّورَينَ عَينًا قَائِمَةً، وَالآَخَرَ صِفةً، فَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُسَمِّيهِِ نُورًا، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ يَرُدُّ عَلَى القَوْلَينِ وَالقَائِلِينَ، كَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ ظُلْمًا وَلَدَدًا فِي المُحَاجَّةِ، أَوْ جَهْلًا وَضَلَالًا عَنِ الحَقِّ [33].

 

وَقَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: « لَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً ـ كَمَا تَقُولُهُ المُشَبِّهَةُ ـ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ »: فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ ؛ فَإِنَّ المُشَبِّهَةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ، وَاللهُ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَشَيْءٍ مِنَ الأَنْوَارِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ كَشَيْءٍ مِنَ الذَّوَاتِ، لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَحْجِبُهُ عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ فِي الحَدِيثِ: « حِجَابُهُ النُّورُ ـ أَوِ النَّارُ ـ وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ».

 

لَكِنْ هُنَا غَلَطٌ فِي النَّقْلِ، وَهُوَ إِضَافَةُ هَذَا القَوْلِ إِلَى المُشَبِّهَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْ أَقْوَالِ الجَهْمِيَّةِ المُعَطِّلَةِ أَيْضًا كَالمريسِي، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ نُورٌ، وَهُوَ كَبِيرُ الجَهْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِالمُشَبِّهَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللهَ نُورٌ حَقِيقَةً، فَالمُثْبِتَةُ للِصِّفَاتِ كُلِّهِم عِنْدَهُ مُشَبِّهَةٌ، وَهَذِهِ لُغَةُ الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ، يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا.

 

فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابنَ كُلَّابٍ وَالأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا ذَكَرَا أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهِ نُورًا فِي نَفْسِهِ هُوَ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَأَنَّهمُا أَثْبَتَا أَنَّهُ نُورٌ، وَقَرَّرَا ذَلِكَ هُمَا وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِمَا، فَكَيْفَ بِأَهْلِ الحَدِيثِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ! وَأَوْلُ هَؤُلَاءِ المُؤْمِنِينَ بِالله وَبِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.

 

وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ المُعْتَرِضُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: « حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ».

 

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَجَبَ عَنِ المَخْلُوقَاتِ بِحِجَابِهِ النُّورَ أَنْ تُدْرِكَهَا سِبُحَاتُ وَجْهِهِ، وَأَنْ لَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الحِجَابَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَهَذَا الحِجَابُ عَنْ إِحْرَاقِ السُّبُحَاتِ يُبَيِّنُ مَا يَرِدُ فِي هَذَا المَقَامِ.

 

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ الأُخْرَى[34]، فَمَعْنَاهُ بَعْضُ الأَنْوَارِ الحِسِّيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ العَارِفِينَ فَهُوَ بَعْضُ مَعَانِي هِدَايَتِهِ لِعِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْوِيعُ بَعْضِ الأَنْوَاعِ بِحَسَبِ حَاجَةِ المُخَاطِبِينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِذِكْرِ بَعْضِ الأَنْوَاعِ، يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِحَاجَةِ المُخَاطِبِينَ، لَا عَلَى سَبِيلِ الحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ.

 

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأَقْوَالِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنُورٍ [35].

 

خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ

القَوْلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…… ﴾ الآيَةُ:

« لَعَلَّ مِنْ أَحْسَنِ مَنْ تَعَرَّضَ لِتَفْسِيرِهَا هُوَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله، وَقَبْلَ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَهُ نَسُوقُ الآيَةَ بِتَمَامِهَا يِقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]».

 

قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الخِلَافَ فِي تَفْسِيرِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، بِنَحْوِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنْ شَيْخِ الإِسْلَامِ، قَالَ: « وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الضَّمِيرِ فِي ( نُورِهِ ) فَقِيلَ: هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ غ، وَقِيلَ تَفْسِيرُهُ: المُؤْمِنُ أَيْ: مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الله ﻷ، وَالمَعْنَى: مَثَلُ نُورِ الله ـ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَأعَظْمُ عِبَادِهِ نَصِيبًا مِنْ هَذَا النُّورِ رَسُولُهُ غ، فَهَذَا مَعَ تَضَمُّنِهِ عَوْدَةَ الضَّمِيرِ إِلَى المَذْكُورِ وَهُوَ وَجْهِ الكَلَامِ يَتَضَمَّنُ التَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَتَمُّ مَعْنَى وَلَفْظًا.

 

وَهَذَا النُّورُ يُضَافُ إِلَى الله تَعَالَى إِذْ هُوَ مُعْطِيهِ لِعَبْدِهِ وَوَاهِبُهُ إِيَّاهُ، وَيُضَافُ إِلَى العَبْدِ إِذْ هُوَ مَحَلُّهُ وَقَابِلُهُ، فَيُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ وَالقَابِلِ، وَلِهَذَا النُّورِ فَاعِلٌ وقَابِلٌ وَمَحَلٌّ وَحَامِلٌ وَمَادَّةٌ وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الآَيَةُ ذِكْرَ هَذِهِ الأمُوُرِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ.

 

فَالفَاعِلُ: هُوَ اللهُ تَعَالَى مُفِيضُ الأَنْوَارِ الهَادِي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَالقَابِلُ: العَبْدُ المُؤْمِنُ، والمَحَلُّ قَلْبُهُ، وَالحَامِلُ: هِمَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَالمَادَّةُ: قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ العَجِيبُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآَيَةُ فِيهِ مِنَ الأَسْرَارِ وَالمَعَانِي وَإِظْهَارِ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ المُؤْمِنِ بِمَا أَنَالَهُ مِنْ نُورِهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونُ أَهْلِهِ وَتَبْتَهِجُ بِهِ قُلُوبُهُم.

 

وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ لَأَهْلِ المَعَانِي طَرِيقَتَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ وَهِي أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَأَسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَهِيَ أَنْ تُشَبِّهَ الجُمْلَةَ بِرُمَّتِهَا بِنُورِ المُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَفْصِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ المُشَبَّهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِجُزْءٍ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ وَعَلى هَذَا عَامَّةُ أَمْثَالِ القُرْآَنِ الكَرِيمِ.

 

فَتَأَمَّلْ صِفَةَ المِشْكَاةِ، وَهُوَ كُوَّةٌ لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلضَوْءِ قَدْ وُضِعَ فِيهَا مِصْبَاحٌ وَذَلِكَ المِصْبَاحُ دَاخِلُ زُجَاجَةٍ تُشْبِهُ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي صَفَائِهَا وَحُسْنِهَا، وَمَادَّتُهُ مِنْ أَصْفَى الأَدْهَانِ وَأَتَمِّهَا وَقُودًا مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ فِي وَسَطِ القَرَاحِ [36]، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [37] بِحَيْثُ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفِي النَّهَارِ بَلْ هِيَ فِي وَسَطِ القَرَاحِ مَحْمِيَّةٌ بِأَطْرَافِهِ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ أَعْدَلَ إِصَابَةٍ وَالآَفَاتُ إِلَى الأَطْرَافِ دُونِهَا فَمِنْ شِدَّةِ إِضَاءَةِ زيْتِهَا وَصَفَائِهِ وَحُسْنِهِ يَكَادُ يُضِيءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ نَارٌ، فَهَذَا المَجْمُوعُ المُرَكَّبُ هُوَ مِثْلُ نُورِ الله تَعَالَى الَّذِي وَضَعَهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ وَخَصَّهُ بِهِ.

 

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُفَصَّلِ فَقِيلَ: المِشْكَاةُ صَدْرُ المُؤْمِنِ والزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَشَبَّهَ قَلْبَهُ بِالزُّجَاجَةِ لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا وَصَلَابَتِهَا، وَكَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ الأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ يَرْحَمُ وَيُحْسِنُ وَيَتَحَنَّنُ ويُشْفِقُ عَلَى الخَلْقِ بِرِقَّتِهِ.

 

وَبِصَفَائِهِ تَتَجَلَّى فِيهِ صُورُ الحَقَائِقِ وَالعُلُومِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُبَاعِدُ الكَدَرَ وَالدَّرَنَ وَالوَسَخَ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ، وَبِصَلَابَتِهِ يَشْتَدُّ فِي أَمْرِ الله تَعَالَى، وَيَتَصَلَّبُ فِي ذَاتِ الله تَعَالَى وَيغْلُظُ عَلَى أَعْدَاءِ الله تَعَالَى وَيَقُومُ بِالحَقِّ للهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى القُلُوبَ كَالآَنِيَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: القُلُوبُ آَنِيَةُ الله فِي أَرْضِهِ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا [38].

 

وَالمِصْبَاحُ هُوَ نُورُ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَالشَّجَرَةُ المُبَارَكَةُ هِيَ شَجَرَةُ الوَحْيِ المُتَضَمِّنَةُ لِلْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، وَهِيَ مَادَّةُ المِصْبَاحِ الَّتِي يَتَّقِدُ مِنْهَا، وَالنُّورُ عَلَى النُّورِ: نُورُ الفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَالإِدْرَاكِ الصَّحِيحِ، وَنُورُ الوَحْيِ وَالكِتَابِ، فَيَنْضَافُ أَحَدُ النُّورَينِ إِلَى الآَخَرِ فَيَزْدَادُ العَبْدُ نُورًا عَلَى نُورٍ وَلِهَذَا يَكَادُ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَالحِكْمَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الأَثَرِ ثُمَّ يَبْلُغُهُ الأَثَرُ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ وَنَطَقَ بِهِ فَيَتَّفِقُ عِنْدَهُ شَاهِدُ العَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالفِطْرَةِ وَالَوَحْيِ فَيُرِيهِ عَقْلُهُ وَفِطْرَتُهُ وَذَوْقُهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الحَقُّ لَا يَتَعَارَضُ عِنْدَهُ العَقْلُ وَالنَّقْلُ أَلَبَتَّةَ بَلْ يَتَصَادَقَانِ وَيَتَوَافَقَانِ فَهَذَا عَلَامَةُ النُّورِ عَلَى النُّورِ عَكْسَ مَنْ تَلَاطَمَتْ فِي قَلْبِهِ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ البَاطِلَةِ وَالخَيَالَاتِ الفَاسِدَةِ مِنَ الظُّنُونِ الجَهْلِيَّاتِ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُهَا القَوَاطِعَ العَقْلِيَّاتِ فَهِيَ فِي صَدْرِهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]، فَانْظُرْ كَيْفَ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآَيَاتُ طَوَائِفَ بَنِي آَدَمَ كُلِّهِم أَتَمَّ انْتِظَامٍ، وَاْشَتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ اشْتِمَالٍ.

 

[ أَقْسَامُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ للْوَحْيِ: أَوَّلًا: أَهْلُ الهُدَى وَالبَصَائِرِ ]:

فَإِنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: أَهْلُ الهُدَى وَالبَصَائِرِ، الَّذِينَ عَرِفُوا أَنَّ الحَقَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الله وَأَنَّ كُلَّ مَا عَارَضَهُ فَشُبُهَاتٌ يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ العَقْلِ وَالسَّمْعِ أَمرُهَا فَيَظُنُّهَا شَيْئًا لَهُ حَاصِلٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَهِيَ: ﴿ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 39، 40].

 

وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ أَصْحَابُ العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، الَّذِينَ صَدَقُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي أَخْبَارِهِ وَلَمْ يُعَارِضُوهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَأَطَاعُوهُ فِي أَوَامِرِهِ وَلَمْ يَضَيعُوهَا بِالشَّهَوَاتِ، فَلَا هُمْ فِي عَمَلِهِم مِنْ أَهْلِ الخَوْضِ الخَرَّاصِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ، وَلَا هُمْ فِي عَمَلِهِمْ مِنَ المُسْتَمْتِعِينَ بِخَلَاقِهِم الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.

 

أَضَاءَ لَهُمْ نُورُ الوَحْيِ المُبِينِ فَرَأَوا فِي نُورِهِ أَهْلَ الظُّلُمَاتِ فِي ظُلُمَاتِ آَرَائِهِم يَعْمَهُونَ، وَفِي ضَلَالَتِهِم يَتَهَوكُونَ، وَفِي رَيْبِهِمِ يَتَرَدَّدُونَ، مُغْتَرِّينَ بِظَاهِرِ السَّرَابِ، مُمْحِلِينَ مُجْدِبِينَ مِمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحِكْمَةِ وَفَصْلِ الخِطَابِ، إِنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا نُخَالةُ الأَفْكَارِ وَزِبَالَةُ الأَذْهَانِ الَّتِي قَدْ رَضُوا بِهَا وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَقَدَّمُوهَا عَلَى السُّنَّةِ وَالقُرْآَنِ، إِنْ فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ أَوْجَبَهُ لَهُ اتِّبَاعُ الهَوَى وَنَخْوَةُ الشَّيْطَانِ وَهُمْ لِأَجْلِهِ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ.

 

فَصْلٌ:

القِسْمُ الثَّانِي: أَهْلُ الجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالظُّلْمِ بِاتَّبَاعِ أَهْوَائِهِم الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 23].

 

وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَهُدَى وَهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الجَهْلِ المُرَكَّبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ الحَقَّ وَيُعَادُونَهُ، وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ، وَيَنْصُرُونَ البَاطِلَ وَيُوَالُونَ أَهْلَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ.

 

فَهُمْ لَاعْتِقَادِهِم الشَّيءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ رَائِي السَّرَابِ الَّذِي يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ وَعُلُومُهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ الَّذِي يَخُونُ صَاحِبَهُ أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الخَيْبَةِ وَالحِرْمَانِ، كَمَا هُوَ حَالُ مَنْ أَمَّ السَّرَابَ، فَلَمْ يَجِدْهُ مَاءً بَلْ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ أَحْكَمَ الحَاكِمِينَ وَأَعْدَلَ العَادِلِينَ ـ، فَحَسَبَ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ فَوَفَّاهُ إِيَّاهُ بِمْثَاقِيلِ الذَّرِّ، وَأَقْدَمَ إِلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ يَرْجُو نَفْعَهُ فَجَعَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا إِذْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَلَا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ غ، وَصَارَتْ تِلْكَ الشُّبُهَاتُ البَاطِلَةُ الَّتِي كَانَ يَظُنُّهَا عُلُومًا نَافِعَةً كَذَلِكَ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَصَارَتْ أَعْمَالُهُ وَعُلُومُهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِ.

 

وَالسَّرَابُ مَا يُرَى فِي الفِلَاةِ المُنْبَسِطَةِ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ يَسْرُبُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كَأَنَّهُ مَاءٌ يَجْرِي، وَالقِيعَةُ وَالقَاعُ هُوَ المُنْبَسِطُ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي لَا جَبَلَ فِيهِ وَلَا فِيهِ وَادٍ، فَشَبَّهَ عُلُومَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عُلُومَهُ مِنَ الوَحْيِ وَأَعْمَالَهُ بِسَرَابٍ يَرَاهُ المُسَافِرُ فِي شِدَّةِ الحَرِّ فَيَؤُمُّهُ فَيَخِيبُ ظَنُّهُ وَيَجْدُهُ نَارًا تَلَظَّى، فَهَكَذَا عُلُومُ أَهْلِ البَاطِلِ وَأَعْمَالُهُمْ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ اشْتَدَّ بِهِمُ العَطَشُ بَدَتْ لَهُمْ كَالسَّرَابِ فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً فَإِذَا أَتَوهُ وَجَدُوا اللهَ عِنْدَهُ فَأَخَذَتْهُم زَبَانِيَةُ العَذَابِ فَعَتَلُوهُم إِلَى نَارِ الجَحِيمِ فَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، وَذَلِكَ المَاءُ الَّذِي سُقُوا إِيَّاهُ هُوَ تِلْكَ العُلُومُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ والأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ الله صَيَّرَهَا اللهُ تَعَالَى حَمِيمًا سَقَاهُمْ إِيَّاهُ، كَمَا أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَهُوَ تِلْكَ العُلُومُ وَالأَعْمَالُ البَاطِلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104].

 

وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللُه فِيهِمْ: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ الُله فِيهِمْ: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167].

 

وَالقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ: أَصْحَابُ الظُلُمَاتِ وَهُمُ المُنْغَمِسُونَ فِي الجَهْلِ، بِحَيْثُ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الآَبَاءِ مِنْ غَيْرِ نُورٍ مِنَ الله تَعَالَى، كَظُلُمَاتٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَهِيَ ظُلْمَةُ الجَهْلِ، وَظُلْمَةُ الكُفْرِ، وظُلْمَةُ الظُّلْمِ وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَظُلْمَةُ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَظُلْمَةُ الإِعْرَاضِ عَنِ الحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ صَلَوَاتُ الله وَسَلاَمُهِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَهُمْ لِيُخْرِجُوا بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

 

فَإِنَّ المُعْرِضَ عَنْ مَا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسِ ظُلُمَاتٍ: قَوْلُهُ ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُلْمَةِ، وَقَلْبُهُ ظُلْمَةٌ، وَوَجْهَهُ مُظْلِمٌ، وَكَلَامُهُ مُظْلِمٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمٌ، وَإِذَا قَابَلَتْ بَصِيرَتُهُ الخُفَاشِيَّةُ [39] مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّورِ جَدَّ فِي الهَرَبِ مِنْهُ وَكَادَ نُورُهُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَهَرَبَ إِلَى ظُلُمَاتِ الآَرَاءِ الَّتِي هِيَ بِهِ أَنْسَبُ وَأَوْلَى كَمَا قِيلَ:




خَفَافِيشُ أَعْشَاها النَّهَارُ بِضَوْئِهِ
وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ الليلِ مُظْلِمِ


فَإِذَا جَاءَ إِلَى زِبَالَةِ الأَفْكَارِ وَنُخَالَةِ الأَذْهَانِ جَالَ وَمَالَ، وَأَبْدَى وَأَعَاَدَ وَقَعْقَعَ وَفَرْقَعَ، فَإِذَا طَلَعَ نُورُ الوَحْيِ وَشَمْسُ الرِّسَالَةِ انْحَجَرَ فِي حُجْرَةِ الحَشَرَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] اللُّجِّيُّ العَمِيقُ مَنْسُوبٌ إِلَى لُجَّةِ البَحْرِ وَهُوَ مُعْظَمُهُ.

 

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]، تَصْوِيرٌ لِحَالِ هَذَا المُعْرِضِ عَنْ وَحْيِهِ، فَشَبَّهَ تَلَاطُمَ أَمْوَاجِ الشُّبَهِ وَالبَاطِلِ فِي صَدْرِهِ بِتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ ذَلِكَ البَحْرِ، وَأَنَّهَا أَمْوَاجٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالضَّمِيرُ الأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ ﴾ رَاجِعٌ إِلَى البَحْرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: ﴿ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾ عَائِدٌ إِلَى المَوْجِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الأَمْوَاجَ مَغْشِيَّةٌ بِسَحَابٍ فَهَهُنَا ظُلُمَاتٌ: ظُلْمَةُ البَحْرِ اللُّجْيِّ، وَظُلْمَةُ المَوْجِ الَّذِي فَوْقَهُ، وَظُلْمَةُ السَّحَابِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِي هَذَا البَحْرِ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.

 

وَالمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾، إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ فَإِذَا كَانَ لَا يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:




إِذَا غَيَّرَ النَّائِي المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
رَسَيِسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ


أِيْ: لَمْ يُقَارِبْ البَرَاحَ وَهُوَ الزَّوالُ فَكَيْفَ يَزُولُ.

فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ أَوَّلًا فِي فَوَاتِ نَفْعِهَا وَحُصُولِ ضَرَرِهَا عَلَيْهِمْ بِسَرَابٍ خَدَّاعٍ يَخْدَعُ رَائِيَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَإِذَا جَاءَهُ وَجَدَ عِنْدَهُ عَكْسَ مَا أَمَّلَهُ وَرَجَاهُ، وَشَبَّهَهَا ثَانِيًا فِي ظُلْمَتِهَا وَسَوَادِهَا لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً خَالِيَةً عَنْ نُورِ الإِيمَانِ بِظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ فِي لُجَجِ البَحْرِ الُمتَلَاطِمِ الأَمْوَاجِ الَّذِي قَدْ غَشِيَهُ السَّحَابُ مِنْ فَوْقِهِ.

 

فَيَا لَهُ تَشْبِيهًا مَا أَبْدَعَهُ وَمَا أَشَدَّ مُطَابَقَتَهُ بِحَالِ أَهْلِ البِدَعِ وَالضَّلَالِ وَحَالِ مَنْ عَبَدَ اللهَ ـ عَلَى خِلَافِ مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ هُوَ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهمُ البَاطِلَةِ بِالمُتَطَابِقَةِ وَالتَّصْرِيحِ، وَلِعُلُومِهِمْ وَعَقَائِدِهِمُ الفَاسِدَةِ بِاللُّزُومِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّرَابِ وَالظُّلُمَاتِ مَثَلٌ لِمَجْمُوعِ عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهمْ، فَهِي سَرَابٌ لَا حَاصِلَ لَهَا وَظُلُمَاتٌ لَا نُورَ فِيهَا، وَهَذَا عَكْسُ مَثَلِ أَعْمَالِ المُؤْمِنِ وَعُلُومِهِ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُّوَةِ فَإِنَّهَا مِثْلُ الغَيْثِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ البِلَادِ وَالعِبَادِ وَمِثْلُ النُّورِ الَّذِي بِهِ انْتِفَاعُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ [40].

 

4- سَمَّى اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم نُورًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115].

 

وَسَمَّى كِتَابَهُ نُورًا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

 

وَقَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174]، وغيرها.

 

وَسَمَّى شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ كَذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]، وَسَمَّى الِهَدايَةَ وَالإِيمَانَ نُورًا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، وَقَوْلِهِ: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].

 

5- كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاتِهِ وَسُجُودِهِ: « اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا،وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا ـ أَوْ قَالَ: وَاجْعَلِّي نُورًا ـ وَفِي رِوَايَةٍ: « وَاجْعَلْ لِي فِي نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِم لِي نُورًا » [41].


[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: « ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ».

[2] َروَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم »، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.

[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ »، وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً ».

[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصلاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ ».

ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه ».

[5] (4) رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: « فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ ».

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا ».

[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ »، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.

[7] النهج الأسمى (2/ 24-267).

[8] الصحاح (2/ 838-839) واللسان (6/ 4571-4575) مادة (ن و ر)، واشتقاق الأسماء (ص: 184-185).

[9] الأول رواه عن ابن عباس، وفي سنده الحسين بن داود ( سنيد ) عن حجاج، وقد ضعف الحسين لكونه كان يلقن شيخه حجاج بن محمد، والثاني رواه عن أبي بن كعب وفي سنده: أبو جعفر الرازي وهو سيء الحفظ.

[10] جامع البيان (18/ 105).

[11] تفسير الأسماء (ص: 64).

[12] اشتقاق الأسماء (ص: 182).

[13] سيأتي الرد على هذا الكلام.

[14] شأن الدعاء (ص: 95).

[15] في الأسماء للبيهقي: ما يسر.

[16] المنهاج: (1/ 207) وذكره ضمن الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 81).

[17] الاعتقاد (ص: 66).

[19] الكتاب الأسنى (ورقة 396 أ) وكلامه الأخير نفيس، وسيأتي تقريره.

[20] تيسير الكريم (5/ 303).

[21] يأتي تخريجه والكلام عليه.

[22] قال في مدارج السالكين ـ كما في شرح النونية ـ: « ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة ( الحق )، وإنما وصوله إلى شواهد الحق، ومن زعم غير هذا فلغلبة الوهم عليه، وحسن ظنه بترهات القوم وخيالاتهم ».

قال: « ولا ريب أن القلوب تشاهد أنوارًا بحسب استعدادها، تقوى تارة وتضعف تارة، ولكن تلك أنوار الأعمال والإيمان والمعارف، وصفاء البواطن والأسرار، لا أنها نور الذات المقدسة ! فإن الجبل لم يثبت لليسير من الأنوار حتى تدكدك، وخر الكليم صعقًا مع عدم تجليه له، فما الظن بغيره ؟! ».

[23] النونية (2/ 237-239).

[24] انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص: 7) ط دار المعرفة، و(ص: 45) تحقيق عواد المعتق.

[25] وسيأتي كلام ابن القيم عليها.

[26] أخرجه الدرامي في النقض على بشر المريسي (ص: 167) عن حماد بن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري عن ابن مسعود وفيه: « وإنه ليس من نور مخلوق إلا وله منزل ومنظر ! فكيف النور الأعظم خالق الأنوار ».

وفيه أبو عبد السلام الزبير، ذكره ابن أبي حاتم (3/ 584) ولم يحك فيه شيئًا، وكذا ابن معين وذكره ابن حبان في الثقات، تعجيل المنفعة (ص: 135).

وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 179/ ص 8886) مطولًا عن أبي عبد السلام عن عبد الله أو عبيد الله ابن مكرز عن ابن مسعود.

قال الهيثمي (1/ 85): « وفيه أبو عبد السلام قال أبو حاتم: مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وعبد الله بن مكرز أو عبيد الله على الشك لم أر من ذكره ».

كذا وقع عندهما: عبد الله بن مكرز !

وصوابه: أيوب بن عبد الله بن مكرز، فإنه الذي يروي عنه أبو عبد السلام، كما في التعجيل.

[27] سيأتي ذكر الحديث.

[28] أخرجه الطبراني في الكبير ـ كما في المجمع (6/ 35) ـ وفي الدعاء (1036) وابن عدي في الكامل (6/ 2124) عن وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال:

لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشيًا على قدميه فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: « اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان على فلا أبالي غير أن عاقبتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك » لفظ الطبراني.

قال الهيثمي: « رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات ».

[29] مجموع الفتاوى (6/ 390-393) باختصار.

[30] إسناده صحيح: السنن (4/ 3597)، وأخرجه أحمد (2/ 70)، والحاكم (2/ 27)، والبيهقي (6/ 82) (8/ 332) من طرق عن زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال: جلسنا لعبد الله بن عمر فخرج إلينا فجلس فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس في أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ».

ورجاله ثقات، وأخرجه أبو داود (4/ 3598)، وعنه البيهقي (6/ 82) وفيه: مطر الوراق: ضعيف، والمثنى بن يزيد: مجهول، وأخرجه البيهقي (8/ 332) من وجه آخر عن مطر وفيه: سعيد بن بشير، وأخرجه أحمد (2/ 82) عن أيوب بن سليمان عن ابن عمر بنحوه وفيه اختلاف، وأيوب فيه جهالة: التعجيل (ص: 47).

وهو حسن لغيره، وقد أطال الكلام عليه الشيخ أحمد شاكر / (5544) وفيه فوائد.

وأخرجه الطبراني في الكبير (12/ 210/ 13084)، والحاكم (4/ 383) عن عبد الله بن جعفر عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ابن عمر مرفوعًا الجملة الأولى منه فقط.

قال الهيثمي (6/ 259): « رواه الطبراني وفيه عبد الله بن جعفر المديني وهو متروك وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة وآخر من حديث أبي الدرداء »، انظر: مجمع الزوائد (6/ 259).

[31] حديث صحيح: رواه أحمد (2/ 176)، والحاكم (1/ 30) عن معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مُحَاضِرٌ فَتَىً مِنْ قريش يُزَنُّ بشرب الخمر، فقلت: بلغني عنك حديث إن من شرب خمر لم يقبل الله له توبة أربعين صباحًا، وإن الشقي من شقي في بطن أمه.. الحديث وفيه قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله خلق خلقه في ظلمة… » وعند الحاكم: ربيعة بن يزيد مقرونًا بيحيى بن أبي عمرو. ورجاله ثقات، عبد الله بن الديلمي هو ابن فيروز تابعي ثقة.

وأخرجه ابن حبان (1812-زوائد)، والآجري في الشريعة (ص: 175) من طريقين عن الأوزاعي به.

وأخرجه ابن حبان (1813) عن ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد… فذكر بإسناده نحوه.

وأخرجه أحمد (2/ 197) عن محمد بن مهاجر أخبرني عروة بن رويم عن ابن الديلمي به، ومحمد بن مهاجر: هو الشامي ثقة، وعروة: تابعي ثقة.

وأخرجه الترمذي (5/ 2642)، والآجري في الشريعة (ص / 175) عن إسماعيل بن عياش عن يحيى ابن أبي عمرو السيباني عن عبد الله الديلمي قال: سمعت ابن عمرو يقول فذكره وزاد: فلذلك أقول: « جف القلم على علم الله ﻷ ». قال الترمذي: حديث حسن.

وهو كما قال ؛ إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذه منها، فإن يحيى بن أبي عمرو السيباني ـ وهو بالسين المهملة قال في الخلاصة: « سيبان بطن من حمير »، ووقع في الترمذي والآجري الشيباني هو خطأ ـ حمصي ثقة.

ولم يتفرد به إسماعيل، بل تابعه عليه أيوب بن سويد، وهو صدوق يخطئ: أخرجه البزار (2145-زوائد)، وقال الهيثمي (7/ 185): رواه أحمد، والبزار، والطبراني ورجاله رجال الصحيح.

[32] صحيح مسلم (1/ 161-162)، وأخرجه أحمد (4/ 405)، وابن ماجه (1/ 70)، وابن خزيمة في التوحيد (19-75) والآجري في الشريعة (ص: 304) كلهم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى ت. وعند مسلم الروايتان معًا: « حجابه النور » و « حجابه النار ».

[33] مجموع الفتاوى (6/ 384-388).

فالنص قد ورد بتسميته: نورًا، وبأن له نورًا مضافًا إليه، وبأنه نور السموات والأرض، وبأن حجابه النور، فهذه أربعة أنواع:

فالأول: يقال عليه سبحانه بالإطلاق، والثاني: يضاف إليه، كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته وقدرته وعلمه كقوله تعالى: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69]، وقوله صلى الله عليه وسلم: « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره… »، والثالث: إضافة نوره إلى السموات والأرض؛ كقوله: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، والرابع: كقوله: « حجابه النور »، انظر كلام ابن القيم في الصواعق المرسلة، كما في شرح النونية (2/ 240-241).

[34] وهو ما ذكره في (6/ 375) من الفتاوى عنه قال: « منور السموات والأرض: شمسها وقمرها ونجومها ».

[35] مجموع الفتاوى (6/ 395-396).

[36] القراح من الأرض: البارز الظاهر الذي لا شجر فيه.

[37] أي: تقع في مكان لا يسترها من الشمس شيء، بل تصيبها الشمس طوال النهار، وهذا أجود لزيتها.

[38] ورد هذا الأثر موقوفًا ومرفوعًا:

أما الموقوف فقد أخرجه أحمد في الزهد (ث: 384) عن خالد بن معدان قال: « إن لله تبارك وتعالى في الأرض آنية، وأحب آنية الله إليه ما رق منها وصفا، وآنية الله في الأرض: قلوب عباده الصالحين ». ورجاله ثقات.

وأما المرفوع: فقد أخرجه عبد الله في زوائده على الزهد (ص: 153) عن القاسم بن محمد حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة مرفوعًا: الحديث السابق بلفظه.

وفيه محمد بن القاسم: وهو الأسدي، وثقة ابن معين وقال أبو حاتم: ليس بالقوي لا يعجبني حديثه، وقال الذهبي في الكاشف: ضعفوه.. فالصحيح إذًا الطريق الموقوفة السابقة.

لكن للحديث شاهد أخرجه الطبراني ـ كما في الصحيحة (1691) ـ عن بقية بن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي عنبة الخولاني مرفوعًا: « إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها »، قال العراقي في تخريج الإحياء: رواه الطبراني وإسناده جيد، وقوى سنده الألباني.

[39] نسبة إلى الخفش هو: صغر العين وضعف البصر خلقة، أو فساد في الجفون.

[40] اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 7-12) ـ ط دار المعرفة، وقد سقناه على طوله مع اختصار يسير لما فيه من الفوائد الجمة كما لا يخفى على من قرأه.

[41] أخرجه البخاري في الدعوات (11/ 116)، ومسلم في صلاة المسافرين (1/ 526-529-530) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

قال الكرماني: « التنوين فيها للتعظيم، أي: نورًا عظيمًا ».





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
من صفات القول الحسن
تفسير سورة الشمس