الإسلام دين الكمال والشمول
الإسلام دين الكمال والشمول
جاء الإسلام بما يحتاج إليه البشرُ في دِينهم ودُنياهم، وفي عباداتهم ومعاملاتهم، وفي شتَّى المجالات، ومختلف نواحي الحياة، فهو منهجٌ للحياة البشرية بكلِّ مقوماتها، وقد اشتمل على المبادئ الراقية، والأخلاق والنُّظم العادلة، والأُسس الكاملة، ولذلك فالعالَم البشري مفتقرٌ بأجمعه إلى أن يأوي إلى ظلِّه الظليل؛ ذلك لأنَّه المبدأ النافع للبشر، فيه حلُّ المشاكل الحربية، والاقتصادية والسياسية، وجميع مشاكل الحياة التي لا تعيش الأُمم عيشةً سعيدةً بدون حلها، فعقائده أصحُّ العقائد، وأصلحُها للقلوب والأرواح، ويهدي إلى أحسن الأخلاق، فما مِن خُلُق فاضل إلا أمر به، ولا خُلق سيِّئ إلا نهى عنه؛ لهذا كانت القاعدة الكبرى لهذا الدين “رعاية المصالح كلها، ودفع المفاسد”، فهو يساير الحياةَ، وركْبَ الحضارة، فيأمر بطلب الأرزاق من جميع طُرقها النافعة المباحة، مِن تجارة وصناعة وزراعة، وأعمال متنوِّعة، ولم يُحرِّم إلا الأسباب الضارَّة التي تحتوي على ظلم وجور، وبغي وعُدوان، وذلك مِن محاسنه، وفيه الأمرُ بأخْذ الحَذَر من الأعداء، وتوقِّي شرورهم بكلِّ وسيلة، وقد حثَّ على الاجتماع والائتلاف، الذي هو الركن الأصيل للتعاون والتضامن والتكافل على المصالِح، ومنافع الدِّين والدنيا، ونهى عن الاختلاف والافتراق قال – تعالى -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وفيه الإرشاد إلى جميع طرق العدل والرحمة المتنوِّعة، وفيه الحثُّ على الوفاء بالعقود والعهود، والمواثيق والمعاملات، التي بها قِوام العباد، وفيه الأمر بإقامة العَدْل على النفس، والقريب والبعيد، والعدو والصديق ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135].
وفيه الحثُّ على الأخْذ على أيدي السفهاء والمجرمين، بحسب ما يناسب جرائمَهم، وردعهم بالعقوبات والحدود المانعة والمخفِّفة للجرائم، وبذلك حَفِظ على الناس نفوسَهم واحترَمَها، فأوجب القِصاصَ على مَن قتل مسلمًا متعمدًا ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، واحترَمَ أموال الغَير، فأوجب قطْعَ يَدِ مَن سرق ثلاثة دراهم فأكثر ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 38].
واحترَمَ الأعراض عن القَذْف، فأوجب ثمانين جلدةً على مَن قذف مسلمًا من غير بيِّنة ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور: 4]، واحترَمَ الأنساب، وحفظ الفروج، فأوجب رجْمَ الزاني المحصَن حتى يموت، وجَلْد مَن لم يحصن مائةَ جلدةٍ، مع تغريبه عامًا عن بلده ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النور: 2].
واحترم العقول، فحرَّم الخمرَ وكلَّ مُسْكِر، وسمَّاها أمَّ الخبائث، وأوجب الحدَّ في هذه الحدود على الغنيِّ والفقير، والشريف والوضيع، وقد أوجد الله الثقلين لعبادته الجامعة لمعرفته، والتقرُّب إليه بكلِّ قول وعمل أو منفعة، وخلق لهم ما في الكون مسخرًا لجميع مصالحهم، وأمَرَهم أن يستحصلوا هذه النِّعم بكلِّ وسيلة، وأن يستعينوا بها على طاعته، فمِن الغلط الفاحش بعد هذا أن يُعرِض المسلمون عن تحكيم هذا الدِّين، الذي هو غايةٌ في الكمال والشمول، والخلود والبقاء، ثم يستمدُّون نُظمَهم من النُّظم الأجنبية، والقوانين الوضعية، وقد قال – تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47].
ومَن احتجَّ بما يرى من حالة المسلمين اليوم، وتأخُّرهم عن مجارات الأمم في المخترعات، وسائر مرافق الحياة، فقد غَلِط وأخطأ في احتجاجه؛ لأنَّ المسلمين لم يقوموا حقَّ القيام بما دَعَا إليه هذا الدين، ولم يُحكِّموه في جميع أمورهم الدِّينيَّة والدنيويَّة، واكتفَوْا بالاسم عن المسمَّى، وباللفْظ عن المعنى، والواجب أن ينظروا في تعاليم هذا الدِّين وتوجيهاته وسُننه، ودعوته لجميع البشر إلى ما فيه خيرُهم المتنوِّع، وكما أنَّ هذا الدين هو الصلة بين العباد وبين ربِّهم يتقرَّبون به إليه، وبه يغدق عليهم خيراتِ الدنيا والآخرة، فإنَّه الصِّلة بين العباد بعضهم بعضًا، تقوم به حياتُهم، وتنحلُّ به مشاكلهم السياسية، والاقتصادية والمالية، وكلُّ حلٍّ بغيره فإنَّ ضررَه أكثرُ من نفعه، وشرَّه أعظمُ من خيره، فإنَّ الدين يهدي للتي هي أقوم، وبه يتمُّ النشاط الحيوي، ويستمدُّ كل واحد من الآخر مادةَ الدين والحياة، لا كما يزعمه أعداءُ الإسلام: أنَّ الدين مؤخِّر، ومخدِّر لمواد الحياة ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5].
فالإسلام هو الدين الكامل، الشامل لعموم الخَلْق وعموم المصالح، وكما أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافَّة إنْسِهم وجنِّهم، فكذلك دِينُه قد تكفَّل بإصلاح أحوال الخَلْق إصلاحًا روحيًّا وماديًّا، وبه تمَّ الكمال وحصَل، وضمن لمن قام به الحياةَ من كل وجه؛ “الرياض الناضرة لابن سعدي (ص: 143) بتصرف[1].
والعبادات ليستْ محصورةً في الصلاة والزكاة، والصوم والحج، بل جميعُ الأعمال التي يُتوسَّل بها إلى القيام بواجبات النَّفْس والعوائل، والمجتمع الإنساني هي عبادة، فالنفقات الخاصَّة والعامَّة عبادة، والصناعات التي تعيش على قيام الدِّين، ودفْع المعتدين مِن أفضل العبادات، والتطوُّرات التي فيها نفْعٌ للعباد، والتي لا تزال تتجدَّد في الحياة والمجتمع قد وَضَع لها هذا الدِّين قواعدَ وأسسًا، يتمكَّن العارف بالدِّين وبالواقع من تطبيقها، مهما كثُرتْ وعظُمَتْ، وتغيَّرت بها الأحوال، وهذا من كمال الدِّين، أما غيره من النُّظم والأسس، فإنَّها وإن عظمتْ واستحسنتْ، فإنها لا تبقى زمنًا طويلًا، بل تختلف باختلاف التطوُّرات، وكثرة التغيرات؛ لأنَّها مِن صُنْع البشر المخلوقين، الناقصين في علمهم وحكمتهم، وجميع صفاتهم ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
[1] وانظر: “أحاديث الجمعة”؛ للشيخ عبدالله بن قعود (1/ 64).