من أشراط الساعة الصغرى (1) رفع العلم (خطبة)


من أشراط الساعة الصغرى/ رفع العلم (1)

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأرضين، أرسل رسله حجةً على العالمين؛ ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

 

وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين.

 

أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وأخراكم بتقوى الله -تبارك وتعالى-: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].

 

عباد الله، إن الإيمان بعلامات الساعة الصغرى داخل في الإيمان باليوم الآخر، وهو ركن من أركان الإيمان الستة؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تعريفه للإيمان: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره“؛ رواه مسلم، وقال الله في وصف الكافرين: ﴿ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 45]، فعدم الإيمان باليوم الآخر كفر.

 

عباد الله، لقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون للخمسين امرأةً القيِّم الواحد“.

 

أيها المسلمون، قيام الساعة لا يعلم ميقاته إلا الله عز وجل، وقد جعل الله علامات على قربه؛ ليحذر المسلم ويعمل لذلك اليوم العظيم، وفي هذا الحديث يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات قرب قيام الساعة أن يقل العلم الشرعي، ويرفع من هذه الأرض؛ لكثرة موت العلماء، فيتخذ الناس عند ذلك رؤوسًا جهالًا يحكمون في دين الله برأيهم، ويفتون بجهلهم؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا“؛ متفق عليه.

 

وهذا الحديث نص في أن رفع العلم بموت العلماء وبقاء الجُهَّال الذين يفتون بالجهل ويعلمونه، فينتشر الجهل ويظهر.

 

وقيل: إن الذي يرفع هو العمل بالعلم، ولا تباعد في أن الذي يرفع العلم وكذلك العمل بالعلم؛ فإنه إذا ذهب العلم بموت العلماء، خلفهم الجُهَّال، فأفتوا بالجهل، فعمل به، فذهب العلم والعمل.

 

وكذلك من معاني رفع العلم أن يسرى على القرآن في ليلة فيصبح الناس فإذا مصاحفهم بيضاء؛ وذلك إذا هجروا كلام الله.

والقرآن هو العلم؛ يقول تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61]، وقال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1، 2].

 

فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “ليسرين على القرآن ذات ليلة فلا يترك آية في مصحف ولا في قلب أحد إلا رفعت“؛ أخرجه الدارمي، وصححه الألباني.

 

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: “فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف”.

 

وعن عبدالله بن مسعود قال: “أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يُرفَع”، قالوا: هذه المصاحف تُرفَع! فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: “يسرى عليه ليلًا فيصبحون منه فقراء، وينسون قول لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع عليهم القول”.

 

وقد أنزل الله القرآن هدًى للناس، وتكَفَّل بحفظه، وهو المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وسيبقى يتعلم منه ويهتدي عليه الأولون والآخرون، ولكن في آخر الزمان قبل قيام الساعة مباشرةً يقبض الله أرواح المؤمنين، ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق، ولا تكون صلاة ولا صيام ولا حج ولا صدقة، ولا تكون هناك فائدة من وجود الكعبة ولا بقاء القرآن، فيقدر الله عز وجل خراب الكعبة على يد كافر من الحبشة.

 

روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة”، ويرفع الله عز وجل القرآن من الأرض فلا تبقى منه آية في المصاحف والصدور، والله يغار أن يبقى كتابه في الأرض بلا فائدة لا يعمل به فيحدث هذا الأمر.

 

وهذا الحدث المخيف والخطير يدفع المسلم الصادق إلى المسارعة للاهتمام بكتاب الله تَعَلُّمًا وحفظًا وتلاوةً وتدبُّرًا قبل أن يرفع الكتاب.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا أيها المسلمون، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا“؛ رواه مسلم.

 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أُمَّته؛ فكان يعظ المؤمنين ويرشدهم إلى العمل الصالح، ويحذرهم ويخوفهم من التراخي، وتأخير طاعات اليوم إلى الغد؛ فلا يدري المسلم ما يأتي في الغد، وفي هذا الحديث يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالمسابقة والمسارعة بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن التي تكثر في آخر الزمان، أو قبل الانشغال عنها بوقوع الفتن التي تثبط العامل عن عمله.

 

نسأل الله أن يثبتنا على دينه، ويرد عنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

 

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].


اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر آل وأصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكافرين والمنافقين يا رب العالمين.

 

اللهم احفظ هذه البلاد، واجعلها حائزةً لكل خير، سالمةً من كل شر، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تكفينا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا رب العالمين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح اللهم ولاة أمورنا، اللهم وفق حاكمنا ووليَّ أمرنا لكل خير، ووفق وليَّ عهده وأعوانهم لما فيه عز للإسلام وصلاح للمسلمين يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم ضاعف حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله.

 

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

 

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90، 91].


اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وأقم الصلاة.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
حكم وزواجر من خطب البلغاء (خطبة)
صداقة تنير الدروب