تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)
تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين
تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 34 – 45].
لقد كانت أهم عقبة تعترض دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي انعدام التوازن النفسي والنضج العقلي لدى المشركين المشككين في الحق، والمعارضين الرافضين لأهله؛ لما يتصفون به من الجهالة العمياء والتدين الوثني الموروث، وما جبلوا عليه في بيئتهم الصحراوية الجافة القاسية، من عنفوانية ومزاجية، ورفض لكل جديدٍ غير مستجيب لمشاعرهم وطباعهم وشهواتهم التي نُشِّئوا عليها، وألفوها سائبة غير منضبطة إلا بأوضاعهم الموروثة، وتقاليدهم الجاهلية، ومصالحهم الآنية، ومكاسبهم المرتقبة؛ لذلك تكفل الوحي الكريم بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبليغهم دعوة الإيمان بالحوار الهادئ اللين[1]، لا سيما وقد هيمنت عليهم بمجرد سماعهم أمر النبوة ودعوتها مشاعر العناد والتحفز للمبادأة بالعدوان، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يبث فيهم دعوة الإيمان ويتجنب أذاهم ومكرهم، ويستدرجهم للحق بأسلوب استقرائي استدلالي، لين هادئ، يطاولهم به ولا يصاولهم، يسالمهم ولا ينازعهم، ينتقل بهم من المحسوس إلى المعقول، ومن الدليل إلى المدلول، فيستخرج من اعترافاتهم ومخزون فطرتهم ما يُسفِّه به معتقداتهم الفاسدة، ويُوقِعهم في التناقض مع أنفسهم وعقولهم وعاداتهم وعباداتهم، وهو الأسلوب الذي سار عليه من قبل رسل الله وأنبياؤه جميعًا، من نوح عليه السلام إذ قَالَ لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، ثم قال: ﴿ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 71، 72]، إلى إبراهيم عليه السلام في حواره مع طاغية عصره في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
ذلك كان الأسلوب الحجاجي الذي وجه إليه الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم للتدرُّج بالمشركين من الكفر إلى الإيمان، متجنِّبًا تقرير العقيدة عليهم إملاء أو فرضًا، فكان يثير انتباههم أولًا إلى المشكلة، ويحفز عقولهم للتفكير فيها، ويترك لهم فرصة استقراء تفاصيلها واستنباط حلولها، ومعرفة الحقيقة فيها، سألهم أولًا بأمر من الله؛ إذ قال له: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31]، فلما استيقظت فطرتهم وتذكروا أن ذلك من الله تعالى، بادههمتأكيدًا لحقيقة التوحيد وإبطالًا لعقائد الشرك بسؤال أمره الله أن يلقيه عليهم حول قدرة معبوداتهم من الجن والإنس والشياطين والمردة والأوثان أحجارًا وأشجارًا وأصنامًا وطواطم؛ إذ قال له تعالى: ﴿ قُلْ ﴾، يا محمد للمشركين: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾؛ أي: ما دمتم قد اعترفتم بأن الله تعالى هو الذي بيده كل شيء، موتًا وحياةً ورزقًا وتدبيرًا، عندما سئلتم بقوله تعالى: ﴿ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْر ﴾، فهل هذه القدرة الإلهية متوفرة لشركائكم الذين تعبدونهم وتخشونهم وترجون نفعهم؟ هل في شركائكم من يبدأ خلق الأشياء من غير أصل ولا سبق مثال، ثم يميتها ويفنيها، ثم يعيد إنشاءها كهيئتها الأولى؟ وهو سؤال استفهام عن شيء بدهي لا يقتضي جوابًا، وإنما يفيد تنديدًا ضمنيًّا بجهلهم وعجز معبوداتهم، وتقريرًا لحقيقة القدرة الإلهية المطلقة، واستفراد الله تعالى بالخلق والإنشاء أولًا وأخيرًا؛ لذلك رقَّى الحوارَ معهم تقريرًا لحقيقة التوحيد الذي أقروا به وتردَّدُوا في الاعتراف به فقال تعالى: ﴿ قُلِ ﴾، لهم يا محمد ﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ﴾ يخلقه من العدم، ينشئه ابتداء من لا شيء ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ يميته ويفنيه ويعيد خلقه ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي: إلى أي ضلال تُصرفون، وعن الحق تبعدون، والفعل ﴿ تُؤْفَكُونَ ﴾ من “أفك”، ويدل على قلب الشيء وصرفه أو إبعاده عما يتجه إليه، ومنه يطلق الإفك على الكذب؛ لأنه انصراف عن الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الجاثية: 7]؛ أي: كذاب أثيم، ويقال أفكته عن الشيء إذا صرفته عنه وأبعدته عنه، قال تعالى: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأحقاف: 22].
ثم تنبيهًا لعقول المشركين المنطمسة أمره تعالى بأن يسألهم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيضًا يا محمد ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ ﴾، هل في معبوداتكم من الجن والإنس والأصنام ﴿ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾، والفعل “هدى” يعني أرشد غيره، أو تقدمه لإرشاده، فعل متعدٍّ كما في قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، ويتعدى بحرفَي الجر “إلى” و”اللام”، كما في هذه الآية الكريمة نفسها: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾؛ أي: من يعرف الحق ويرشد إليه، أو يفتح العقول لمعرفته، ويشرح القلوب لمحبته وإيثاره واتِّباعه والعمل به، أو يضع في طريقه المنائر والمعالم، فلا يضل السالكون إليه، ولا يتيه المارون به؟ وهو سؤال يعرف المشركون أن لا جواب لهم عليه؛ ولذلك بادرهم سبحانه وتعالى بتقرير الحق فيه فقال: ﴿ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد: إن الله تعالى هو الذي يهدي جميع خلقه للحق، ولما ينبغي لهم العمل به أو له، ويعينهم على معرفته وتَبَيُّنِ معالمه وطرائق التعامل به أو معه، سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه أولًا ويتركهم هملًا؛ وإنما ربط خلقهم بهدايتهم إلى ما خلقوا له، وتزويدهم بأدوات العمل له، فجعل للناس في أبدانهم جوارحَ وحواسَّ للمعرفة والكسب والإنتاج، يميزون بها ما حولهم، وأمدَّهم بعقول يفكرون بها فيما يعرض لهم من شؤون الحياة، فيلاحظون ويقارنون ويستنبطون ويميزون السليم من العليل، والضارَّ من النافع، ويقررون ويختارون، ويجنون ثمار اختياراتهم تبعًا لصوابها أو خطئها، وأرسل إليهم الرسل عليهم السلام، في أيديهم كتبه وتعاليمه، يبينون لهم الحق، ويبلغونهم أحكامه، ويبشرونهم بثمار الطاعة وعاقبة المعصية ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13 – 16]، وآيات محكمات هن المنهج القويم للحياة، والمصير الآمن السليم بعد الممات، إن عملية الخلق والإنشاء ابتداء كانت عند الله لحكمة بالغة مقرونة بهداية بينة واضحة لذوي الألباب؛ ولذلك قال لرسوله صلى الله عليه وسلم معلمًا ومرشدًا: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 1 – 3]، وقال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 78].
ثم استثار الحق تعالى عقول مشركي مكة بسؤال استفزازي آخر، تحفيزًا لفطرتهم الكامنة وقدراتهم الخاملة بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾، وهو الله تعالى وقد نصب للحق معالمه، وأرسل للعباد رسله، وأنزل عليهم كتبه، ووعدهم بجنته، وحذرهم من عذابه ﴿ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ﴾، أحق بالعبادة إيمانًا به واتِّباعًا لأمره ونهيه ﴿ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ﴾، والفعل ﴿ يَهِدِّي ﴾ في هذه الآية الكريمة قَرَأَه حفص بفتح الياء وكسر الهاء ﴿ يَهِدِّي ﴾، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال “يَهْدِي”، على أنه مضارع هدى، وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسرهما “يِهِدِّي” بإتباع كسرة الياء لكسرة الهاء، والباقون بفتحهما ﴿ يَهَدِّي ﴾؛ أي: أم الأحق بالعبادة هو غير الله من عجزة معبوداتكم الذين لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه، ولا يستطيعون هداية غيرهم إليه إلا إذا حُمِلوا على ذلك حملًا، وأُخِذ بأيديهم إليه أخْذًا؛ ولذلك ختم الحق تعالى هذا الحوار معهم بإنكار تفاهة عقولهم تبكيتًا لها، وتسفيهًا لما تراه وتحكم به من الأباطيل والضلالات بقوله تعالى لهم: ﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ استفهام من مبتدأ وخبر، للإنكار عليهم والتعجب من غبائهم؛ أي: فماذا لديكم من أصناف العته والغباء، وكم أصابكم من الخلل ففقدتم القدرة على التمييز بين الحق والباطل ﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ استفهام تَعَجُّبي ثانٍ من ضلالهم؛ أي: كيف تحكمون بصواب الباطل وبطلان الحق فتعبدون الأباطيل، وتجعلون لله الأنداد.
ثم بالتفات عنهم وإعراض عن سفاهة عقولهم وازدراءً لما يعتقدونه في آلهتهم التي لا تصَرُّف لها ولا تدبير ولا هداية، قال تعالى عنهم بصيغة الغائب واصفًا حالهم: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾، والظن في سياق هذه الآية هو الوهم والشك أو أدنى وأضعف درجات الإدراك، ضد اليقين؛ أي: لا يتبع أكثرهم من أمر الدين إلا ما يتوهمونه دينًا وهو في حقيقته عين الباطل، والتعبير باتباع أكثرهم الباطل يعني أكثرهم كما يعني كلهم؛ لأن الأكثرية عادة تطغى على الأقلية وتمحو أثرها في المجتمع، والمعتقدات الفاسدة والأفكار الضالة والإشاعات المضللة عادة سريعة النفوذ والانتشار في المجتمعات الجاهلة التي لا دعاة للحق فيها، وسرعان ما تتحول إلى معتقدات عامة مضللة أو عادات اجتماعية فاسدة راسخة يتعذر على العوام التخلي عنها؛ ولذلك قال تعالى مُنبِّهًا ومُحذِّرًا: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ ﴾ إن اتباع المعتقدات الضالة والتصورات الوهمية للألوهية والربوبية والعبادة ولجميع قضايا الدين الحاسمة التي تترتب عليها نتائجها اللازمة ﴿ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ لا يقوم مقام الحق اليقيني الثابت، ولا يغني عنه أو عن بعضه؛ لأن الحق لا يتبعَّض فيؤخذ منه ويترك منه، وتبعيض الحق إتلاف له أو تلاعب به، كما كان يفعل بنو إسرائيل بالتوراة، فقال فيهم تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 169]، الحق يؤخذ كله إن بلغ درجة اليقين، ويترك كله إن داخله الريب والشك أو الوهم، والعاقل لا يبني حواسم أموره على الظنون والأوهام؛ لأن البناء عليها مَظِنَّة فساد العقل والمعقول؛ لذلك عقب عز وجل يحث على الصدق وإخلاص الإيمان ويحذر من الشك والتردد والإعراض بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ يعلم سِرَّهم وعلانيتهم، وما يحتمل أن يصدر عنهم من أعمال أو أقوال أو تصَرُّفات، كما يعلم ما تتيه فيه العقول الأسيرة للأهواء من أوهام تصَرُّفهم عن الحق، وتأويلات تبعدهم عن الصواب، فتعمى أعينهم عن رؤية ما في الكون من حقائق آيات الله خلقًا وتدبيرًا، ويعجزون عن استيعاب ما تستنبطه العقول السويَّة وتعرض أفئدتهم قبل آذانهم عن سماع ما يُتلى عليهم من القرآن، وهو مصدر الحق المطلق الذي لا يـأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحجة الله عليهم يوم الحساب إذ يقال لهم: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [المؤمنون: 66 – 70]؛ ولذلك عاد الوحي الكريم إلى دحض مبررات إعراضهم عن القرآن وهو سبيلهم إلى الحق وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، والافتراء من فعل فرى يفري الشيءوأفراه إذا قطعه أو شقه لإفساده، ثم استعمل في الكذب فقالوا: فرى فلان الكذب وافتراه إذا اختلقه، ومعنى الآية الكريمة أن هذا القرآن ما كان افتراء على الله، وما ينبغي لما يوحي به الله أن يكون افتراء، أو يتعرض للافتراء أو التبديل أو التحريف كما فعل بنو إسرائيل بالتوراة، فقال فيهم تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79]، وكما فعل النصارى بالإنجيل وادَّعوا فيه لله الولد ضلالًا منهم وتضليلًا لغيرهم – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- فقال عز وجل عنهم: ﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾، ولكنه وحي من الله لا يأتيه الباطل مطلقًا، ولا يصيبه التحريف أو التغيير أبدًا، وقد تعَهَّد الله بحفظه، فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41، 42]، وقال عنه وعن نبيِّه وصفيِّه الذي يبلغه: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 40 – 47].
وبعد أن أكد الحق تعالى عصمة القرآن واستعصاءه عن التبديل والتغيير بيَّن حقيقته في ميزان الله، فقال سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ ﴾، ولكنه نزل ﴿ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ بالفتح مصدر فعل “صدَّق تصديقًا”، عطف على خبر كَانَ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى ﴾، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 40]، أو خبر فعل مقدر هو “كان”، واسمها ضمير مستتر هو القرآن، وقرأ الكسائي والفراء وعيسى بن عمر: “تَصْدِيقُ” بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: “ولكن هو تصديقُ”، والمعنى واحد، هو أن القرآن بتنزيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تصديقًا وتأكيدًا للكتب التي نزلت قبله وشاهدًا عليها ومعيارًا لها، بعد أن حرفها قومها الذين نزلت من أجلهم في قوله تعالى: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ [المائدة: 13]، وأشار القرآن إلى بعض هذه الكتب بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18 – 19]، وقوله عز وجل: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 3 – 4]، وقوله سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
ثم بيَّن تعالى مضمون القرآن وتميُّزه عن الكتب قبله، فقال تعالى: ﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾؛ أي: إن القرآن كتاب شاهد بصدق ما تقدمه من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السابقة قبل تحريفها أو رفعها أو نسيانها، وأنه تفصيل لأحكام ما كتب فيها وفرض على العالمين من واجب الإيمان والتوحيد والأمر والنهي، ومصدق لما أخبرت به عن البعث والنشور وأحكام الآخرة حسابًا وجزاءً ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾؛ أي: تفصيلًا محكمًا لا شك فيه؛ لأنه ﴿ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ سبحانه وتعالى، وهو الحق من عنده، وحرف الواو في قوله تعالى: ﴿ وَتَفْصِيلَ ﴾ للعطف، و﴿ تَفْصِيلَ ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ أو خبر ثانٍ للفعل “كان” المقدر، و﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ خبرٌ ثالثٌ أو حالٌ من الكتاب.
ثم بالتفات إلى المشركين المشككين في القرآن قال تعالى بصيغة الغياب تتفيهًا لاعتراضاتهم وتجهيلًا لهم: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ و﴿ أَمْ ﴾ في هذه الآية منقطعة بمعنى “بل” مع الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أيقولون افتراه؟ أو هل يقولون افتراه واختلقه ونسبه لله تعالى؟ فإن قالوا ذلك ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد متحديًا: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾، فهاتوا سورة تشبه إحدى سور القرآن، ثم ارفع مستوى تحديك لهم بقولك أيضًا: ﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ واستعينوا بشركائكم من الجن والإنس ومن تلتمسون فيهم قدرة المساعدة على الإتيان بالسورة إن كنتم صادقين في زعمكم الشك في القرآن، وهو التحدي الذي رُفِع مرات كثيرة في وجههم فأعجزهم، سواء في الفترة المكية قبل سورة يونس كما في سورة الإسراء بقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]؛ أي: لن يستطيع المشركون أن يأتوا بمثل القرآن ولو أعان بعضُهم بعضًا على ذلك، أو بعد سورة يونس في سورة هود على سبيل الذم للمشركين وتتفيه عقولهم بقوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [هود: 13]، ثم في الفترة المدنية بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24]، وقد أخرج ابن أبي حاتم في هذا التحدي للمشركين عن الحسن أنه قال: “هذا قول الله لمن شك من الكفار في ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم”، وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة”.
إن الوحي في هذه الآيات الكريمة يحلل دواعي تشكيك الكفار في القرآن الكريم، ويبين خلفية مواقفهم من القرآن؛ لذلك بدأ بظاهر تشكيكهم فيه، ثم تحداهم أن يأتوا بمثله إن كان قولًا لغير الله كما يزعمون، فلما عجزوا عن ذلك، عقب تعالى بقوله: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ﴾، وحرف ﴿ بل ﴾ في أول الجملة للإضراب والانتقال من شناعة تكذيبهم بالقرآن نزقًا وتعجُّلًا واستكبارًا وجهلًا من غير سماع لما يُتلى عليهم منه، إلى شناعة أكبر هي إيثارهم الجهل بما لم يحيطوا بعلمه سماعًا وفهمًا لمضامينه وأحكامه، وكان العقل والحكمة يفرضان التأني واستماع ما ينزل من القرآن لفهمه واستيعابه، ثم لهم بعد ذلك أن يقبلوا ما قبلوه منه عن علم، ويرفضوا ما رفضوه منه عن علم، ولكنهم تعَجَّلوا برفض الاستماع له والكفر به، وإعلان المحاربة له والعدوان على أهله ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾، والتأويل لغة من الفعل “أوَّل”، وحروف الهمزة والواو واللام أصلان كما قال صاحب معجم مقاييس اللغة، أولهما مبتدأ الشيء، مؤنثه أولى، والأصل الثاني من “آل يؤول؛ أي رجع، ومنه “الأيِّل” وهو الذكر من الوعول، سمي أيلًا؛ لأنه يؤول إلى الجبل يتحصن فيه؛ أي: يرجع إليه، ومنه يقال: آل اللبن إذا خثر، وآل الرجل إلى أهله أو عشيرته إذا رجع إليهم، وآل إليه الشيء أي رجع إليه، وأوَّلَ الشيء؛ أي: أرجعه، والتأويل هو الإرجاع، كما يعني صرفَ اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله الدليل، أو تفسيره بغير ما ظهر أو اشتهر من تفسيره، أو بيان مراد المتكلم من اللفظ حقيقة أو مجازًا، تصريحًا أو تلميحًا أو تعريضًا، ومنه يقال: أوَّل الحكم في الأمر برأي الإمام مالك مثلًا، وأعرض عن رأي غيره؛ أي: أرجعه إليه وحكم فيه بمقتضاه، وأوَّل اللفظ؛ أي: رجع به إلى مقصود قائله وفَسَّره به، أو إلى ما ينبني عليه أو إلى عاقبته، أو فَسَّره مطلقًا، كقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ﴾[الأعراف: 53]، وقوله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: وما يعلم تفسيره إلا الله، وقوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: ﴿ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 44، 45]؛ أي: بتفسيره، وقوله تعالى عن مشركي قريش وهم يعرضون عن سماع القرآن ويعتدون على من يتلوه عليهم: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾؛ أي: قبل تمام سماعهم له، وفهمهم أحكامه ومراميه في عالمي الشهادة والغيب ﴿ كَذَلِكَ ﴾ بمثل هذا النزق والطيش وعدم التأني في تلقي القرآن وفهمه ﴿ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ من الأقوام السابقة مثل قوم ﴿ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت: 13، 14]، كفروا بما أتاهم به أنبياؤهم من الدين والحكمة ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 5، 6]؛ ولذلك قال تعالى حثًّا على أخذ العبرة مما وقع للسابقين: ﴿ فَانْظُرْ ﴾ يا محمد، ولينظر المسلمون معك في جميع الأعصر والمجتمعات ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: كيف كان مصير الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والإعراض عما يبلغه لهم الأنبياء من الوحي، فخابوا ﴿ وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [إبراهيم: 28، 29].
إن حالة المشركين هذه في التسرُّع بالإعراض عن الوحي قبل سماعه واكتمال تأويله، حالة تعرض لكل معلم مع بعض تلاميذه إذا كانوا غير منتبهين للدرس وعقولهم معلقة بغيره، فيتغلب عليها ويتجاوزها ويعالجها بمعرفة أسبابها ودواعيها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها المعلم والمرشد بحكم قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، والمشركون فيها كانوا بمثابة الطالب النزق مشتَّت الفكر والاهتمام، مضطرب المشاعر والأهواء، لا يكاد يستمع أو يفهم، ولا بد لمعلمه من أن يعرف حالاته النفسية والعصبية، ووضعه الاجتماعي، وعوائق فهمه وتعَلُّمه، كي يكيف طرائق تربيته وتعليمه بما يناسب حالاته كلها؛ لذلك تكَفَّل الوحي الكريم بكشف أصناف المشركين في مجتمع مكة وما حولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللقلة المؤمنة التي معه، كي يكونوا على بينة من واقع المجتمع المكي القرشي المشرك الذي يتعاملون معه، دعوة ومعايشة ومطاولة ومسالمة، ومعرفة بحقيقة مواقف أهله من الإسلام نبوة وعقيدة ووحيًا قرآنيًّا، فيكون التعامل معهم واضحًا وآمنًا وبما يناسب كل حال، فصنفهم الوحي أصنافًا أربعة قال عن أولها: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِه ﴾، وحرف الواو في أول الآية للعطف على الآية: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ﴾؛ أي من المشركين من يؤمن بأن القرآن حق، ولكن إيمانهم به سطحي؛ لعدم إحاطتهم به، أو فهمهم له، أو استيعابهم لأحكامه وما تدعو إليه، فيسارعون بتكذيبه نزقًا وعنادًا ومكابرةً وانعدام بصيرة، وقد يموت بعضهم على الكفر، وقد يؤمن بعضهم ويسلمون إن أراد الله بهم خيرًا.
وقال عز وجل عن الطائفة الثانية ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ [يونس: 40]؛ أي: من هؤلاء المشركين من يكذب بما يبلغه من القرآن غباوةً وقصور نظر وعجزًا عن التحرر من موروثه الثقافي، أوهامًا ومعتقدات وظنونًا وخرافات.
ثم عقب تعالى على حال هاتين الطائفتين يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من القلة المؤمنة بقوله: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾؛ أي: لا تغتم يا محمد لحال هؤلاء المفسدين، فإن الله أكثر علمًا بهم، وأقدر عليهم، وأعرف بما يناسبهم عدلًا منه تعالى في الدنيا والآخرة، ثم لقنه منهج التعامل معهم ومع أمثالهم فقال عز وجل: ﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ ﴾، فإن كذبك يا محمد من هاتين الطائفتين بعضهم أو كلهم بعد تبليغهم وإقامة الحجة عليهم ﴿ فَقُلْ ﴾ تبرأ منهم وقل لهم: ﴿ لِي عَمَلِي ﴾ الذي هو تبليغ رسالة ربي قرآنًا منزلًا وشرحًا له وبيانًا وقدوة ﴿ وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾ الذي شغلكم عن سماع ما أقوله لكم، وقد أديت رسالتي وبيَّنت لكم خطل أعمالكم وفسادها وسوء خاتمتها ﴿ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ﴾ لا ضرر يصيبكم مما أعمله ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ وأنا أيضًا لا ضرر يُصيبني مما تعملون، لي مثوبة أعمالي ولكم ما تجنونه من أعمالكم، كما قال اللَّه تعالى: ﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾[الكافرون: 2 – 6].
ثم ذكر الحقُّ تعالى الطائفة الثالثة من المشركين فقال عز وجل: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: ومن هؤلاء المشركين فئة يستمعون إلى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم يتلوه على الناس في الحَرَم أو في الأسواق، ولكنه لا يتجاوز صماخ آذانهم ليخترق قلوبهم ويؤثر في عقولهم، والأذن عادة إذا لم تكن قناة تواصل بين قلب المرء وعقله وبين محيطه الخارجي، لا ترتفع به عن مستوى البهائم وعجماوات الكائنات الحية؛ لذلك قال تعالى: ﴿ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴾ هل أنت تستطيع إسماع الصم ولو لم يكن لهم عقول تتلقى المسموعات فتفهمها وتستفيد منها، قال تعالى: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ [الروم: 52].
ثم ذكر عز وجل الطائفة الرابعة من المشركين، فقال سبحانه: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ﴾ أعينهم مفتحة متجهة نحوك، ولكن عليها غشاوة تحول بينها وبينك؛ لأن قلوبهم تائهة في أهوائها سارحة، وعقولهم في أوهامها سائحة، لا تبلغ مرئياتهم إلى عقولهم فيرونك، ولا إلى قلوبهم فيؤمنون لك، وأنت يا محمد تنتظر منهم أن يؤمنوا ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ فهل تستطيع هداية الأعمى وهو لا يبصر ولا يريد أن يبصر.
وفي هاتين الآيتين إشارة واضحة إلى أهم وظيفة لحاستَي السمع والبصر، وهي أنهما صلة الوصل بين آيات الله في الكون وبين عقل المرء لإدراكها وتدبرها، وبينها وبين قلبه للإيمان بما وراءها من الغيب الذي يقصر العقل عن ارتياد آفاقه، وقد وثق الحق تعالى هذه الصلة بقوله: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وأمدنا – رحمة منه تعالى – بميزان للقلب والعقل يضبط حركتيهما، ويرشِّد تصرفاتهما، هذا الميزان هو العقيدة السوية التي تعد نواة تدور حولها حركتا القلب والعقل، وكما أن القمر والأرض يدوران حول الشمس، ويستمدان منها النور، كذلك القلب والعقل يدوران حول العقيدة ويستمدان منها النور والرشد والصواب، وكما أن للقمر والأرض مدارين مرسومين حول الشمس، إن حادا عنهما كان الكسوف والخسوف، وحل الظلام ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40]، كذلك القلب والعقل، لكل منهما مدار خاص به حول العقيدة، فإن حادا أو زاغا عن مداريهما الطبيعيين فسد الإنسان، وارتكس في الظلام، ظلام الجهل والضلال والغواية؛ لذلك أعطت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أجدى النتائج، وأوفى الثمار ولكن ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]؛ ولذلك أيضًا كانت قضية العقيدة ودورتي القلب والعقل حولها أخطر ما يجب على المسلم أن يهتم به ويفهمه ويستيقنه، ونعني بالعقيدة تلك التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية، مستمدة من الكتاب والسنة، لا شيء معهما ولا شيء غيرهما، العقيدة التي تمشي على الأرض تعاملًا مع الواقع، سلوكًا اجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا، في الأسرة، والمجتمع، والدولة، وساحة العمل وميدان البحث العلمي، واستخدامًا لقناتي القلب العقل، أداتي المعرفة لدى الإنسان في تعامله مع الغيب والشهود، مع المادة والروح، مع الوجود الآني والوجود الموعود، مما يمثل منهجًا متماسكًا متكاملًا متميزًا، وبذلك وفر الله للإنسان سبل المعرفة والإيمان ومهَّد له صراطه المستقيم إلى الجنة، فمن شاء اتخذ إليها سبيلًا، ومن شاء نكص على عقبيه فنال جزاءه ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾؛ لأنه تعالى يأمر بالعدل وهو أولى به وقد قال سبحانه:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، ولأنه حَرَّم الظلم على نفسه وحَرَّمه بين الناس، وقال فيما رواه عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم: “يا عبادي، إنِّي حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرمًا بينكم فلا تظالموا”، إنه تعالى لا يظلم: ﴿ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾، ولكن كثيرًا من الناس في جميع العصور يظلمون أنفسهم بالكفر والشرك وعصيان الأنبياء والرسل.
إن في هذه الآية تعريضًا واضحًا بمشركي مكة وهم يكذبون بالنبوة والوحي، ويواصلون التضييق بالرسول صلى الله عليه وسلم والعدوان عليه، وعلى القلة المؤمنة المستضعفة حوله، والحق سبحانه يثبته ويصبره مطاولة لهم، عِدَةً لهم مرة وتوعُّدًا مرة، ويقول له عنهم كل حين: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [الزخرف: 83] ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، ولكنهم إذ أصروا على ما هم عليه حذرهم تعالى بما يكونون عليه يوم القيامة، وما ينتظرهم فيه من عنت وحساب، علَّهم بذلك إلى الله يتوبون، وإلى الحق يثوبون، بقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾، والحشر لغة من فعل “حشر” والْحَاءُ وَالشِّينُ وَالرَّاءُ أصل يعني الجمع والسوق بذلة، كما يحشر أسرى الحروب، قريب من فعل “حشد” إلا أن الحشد جمع مع قوة واستعلاء كما تحشد الجيوش؛ أي: وذكرهم يا محمد بيوم حشرهم عقب بعثهم، على صعيد واحد، يوم ينفخ في الصور ِ ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 20، 21] ﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ق: 42 – 44]، في هذا اليوم يحشر الناس كلهم، المؤمنون بالله وحده فيبشرون بالجنة، والمشركون عبدةً لغير الله ومعبودين من دونه فيقال لهم: ﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 48، 49] حينئذٍ يفاجأ المبعوثون بهذا اليوم، فتقصر لهوله ومهابته أيام الدنيا بأيامها وشهورها وسنواتها وقرونها، ويخيل لهم ﴿ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا ﴾ في الحياة الدنيا وفي القبور ﴿ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ﴾ لحظة أو فترة من نهار يوم واحد ما بين شروق شمسه وغروبها ﴿ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ هناك يلتقون ويعرف بعضُهم بعضًا لحظات، ثم ينشغل كل واحد بهمه حالًا ومآلًا، لا يفكر إلا في نجاة نفسه إن وجد منجاة ولو على حساب غيره قريبًا أو بعيدًا، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 – 37] حينئذٍ وفي ذلك اليوم العصيب – كما ورد في الحديث الصحيح – يلتمس الناس الشفاعة من الرسل عليهم السلام فلا يقول أي واحد منهم إلا: “نفسي… نفسي..، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تقدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخَّر، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ”، قال صلى صلى الله عليه وسلم: “فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْعَرْشَ فأقعُ سَاجِدًا لِرَبِّي فيُقيمني رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ مُقَامًا لَمْ يُقِمْهُ أَحَدًا قَبْلِي وَلَمْ يُقِمْهُ أَحَدًا بَعْدِي فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أدْخِلْ مَنْ لَا حِسَاب عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِي الْأَبْوَابِ الأُخَر، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ إِلَى مَا بَيْنَ عِضَادَيِ[2] الْبَابِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وهَجَرَ[3] أَوْ هَجَرَ وَمَكَّةَ”[4]، وحينئذٍ أيضًا يتضح بكل جلاء أن ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴾ يوقنون أنهم قد خسروا الدنيا والآخرة، وليس لهم إلا النار، لما كذبوا في الدنيا باليوم الآخر وحسابهم فيه عند الله ﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾؛ أي: لم يكونوا في الدنيا مهتدين إلى الحق عقيدةً وعبادةً وصراطًا مستقيمًا، لما عُمِّيَ فيها على قلوبهم وعقولهم، وما عطلوه من أسماعهم وأبصارهم، فلم يسمعوا آيات الله في القرآن المسطور، ولم تر أبصارهم آياته في الكون المنظور، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 108].
[1] الحوار لغةً واصطلاحًا لا يخرج عن المجاوبة ومراجعة الكلام، فإذا وصف بأنه استقرائي أو استنباطي أو استنتاجي فإنه يعتمد على السؤال والجواب لاستبانة خطأ أو تثبيت حقيقة، وقد يكون لتضليل المخاطب عن الحقيقة بالتلاعب بالألفاظ والمعاني والمغالطات اللفظية والفكرية.
[2] عضادتا الْبَاب: الخشبتان المنصوبتان عَن يَمِين الدَّاخِل مِنْهُ وشماله، وفَوْقهمَا الْعَارِضَة.
[3] مدينة هَجَر كانت ما بين جبل رأس القارة وجبل أبو حصيص في منطقة الأحساء.
[4] أخرجه أحمد وابن خزيمة، وقال إسحاق هو ابن راهويه: هذا من أشرف الحديث، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ورجالهم ثقات.