يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا…


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 156]

 

إن معجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقعٍ معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه – مع هذا – يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لتوجيه الأمة الإسلامية في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الكافرين والمنافقين من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.

 

ولكي نحصل نحن المسلمين من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر لنا في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها، وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها، وتتصارع مع شهواتها وأهوائها، ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءهما كذلك..

 

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطب به الصحابة الأوائل. وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق الآن.

 

قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [آل عمران: 156].

 

فهذه الآية قد جاءت في سياق الآيات التي نزلت في أعقاب غزوة أحد لتوجه وتصحح مفاهيم العقيدة لدى المؤمنين في حينها وفي كل حين يواجه فيه المسلمون هذه الوقائع.

 

إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة، وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام.

 

وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة – نتيجةً لخروجهم – ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة.

 

ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.

 

إن قول الكافرين: ﴿ لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 156]، يقولونه لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري، فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية، بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.

 

إن ما نحن فيه الآن من أحداث حرب غزة والإبادة الجماعية للمسلمين هناك، وتخلي معظم المسلمين عنهم، بحجة أنهم لم يطيعوا نصائح القاعدين عن الجهاد.. وهكذا يدور الزمان، وما أشبه الليلة بالبارحة، يوم نزول هذه الآيات: ﴿ لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾… لو سمعوا كلامنا ما حصلت الإبادة الجماعية في غزة، ويطلع علينا دعاة الباطل والنفاق، يلقون اللوم على المجاهدين في سبيل الله في غزة.

 

وهنا ينكشف الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها، إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله، مطمئن إلى قدر الله. إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. فكل ما يقع من النتائج، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم؛ موقنا أنه وقع وفقًا لقدر الله وتدبيره وحكمته؛ فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة، فهو أبدًا مستطار، أبدًا في قلق! أبدًا في ” لو ، و”لولا”، و” ليت “، و ” وا أسفاه! “.

 

إن هذا يعود بنا إلى عهد الصحابة وما سمعنا عنهم في السيرة من تضحيات وبطولات، وعقيدة راسخة وشجاعة منقطعة النظير، قد لا يصدقها البعض، لقد رأيناها الآن وشاهدها العالم أجمع.

 

فهل لهولاء دعاة الباطل من توبة، أم أن القلوب قد ران عليها وختم الله عليها بالنفاق إلى يوم القيامة.

 

وهكذا نرى أن أعداء الأمة الإسلامية لم يكونوا يحاربونها في الميدان فحسب؛ ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها فحسب.. إنما يحاربونها أولا في عقيدتها. يحاربونها بالدس والتشكيك، ونثر الشبهات وتدبير المناورات! يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها، ومنها قام وجودها، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين. ذلك أنهم يدركون كما يدركون اليوم تماما – أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا الداخل؛ ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها؛ ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها؛ ولا يبلغ أعداؤها منها شيئًا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده.

 

إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة، لقد كان من فضل الله أن تحدث هذه المعركة في غزة لينكشف كل على حقيقته، لتتم عملية تصحيح مسار العقيدة في نفوس المؤمنين بشكل عملي على أرض الواقع.

 

إن هذا هو ميلاد أمة الإسلام من جديد، كما نتصوره في عهد رسول الله وصحابته. هو ميلاد خلافة على منهاج النبوة كما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح.

 

روى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ… ثم سكت.

 

فهل من متعظ؟!



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
من فضائل ذكر الله عز وجل
من أقوال السلف في رؤية المؤمنين لله تبارك وتعالى في الآخرة