فرشي التراب (2)
فرشي التراب (2)
كلما خلوتُ بنفسي بعد وفاة صديقتي الغالية أتذكَّر كلمات أول أنشودة سمعتُها وتركتْ أثرًا في قلبي، فأظل أُردِّدها مرارًا وتكرارًا، أستشعر معها كل حرف من الألم والأسى والحزن والفراق.
إنها أنشودة “فرشي التراب” للراحل “مشاري راشد العرادة”، تلك الكلمات سمعتُها أولَ مرة بالمصادفة، فشدَّت انتباهي من كثرة تأثير كلماتها ووقعها في النفس، فهي ليست مجرد أنشودة عادية، وإنما تحكي واقعًا يحدث كل يوم.
لم أكن حينها أمتلك هاتفًا، ولا يوجد لدينا أجهزة إنترنت في المنزل، كل ما أتذكره أنه عند شراء أول هاتف لي سألت عن تلك الأنشودة ولم يكن لي حظ أن أحتفظ بها على هاتفي؛ لأنه لا أحد يعرفها في محيط مسكني، وتوالت السنوات وما زلتُ أبحث عنها، حتى رأيتها مرة أخرى على إحدى المواقع التي تنشر الأناشيد الدينية؛ فرحتُ بها كثيرًا وكأني عثرتُ على كنز ثمين.
نعم كنز ثمين، فكلماتُها أبكتني بكاءً شديدًا، وفي كل مرة أعيد تشغيلها كنت أبكي معها وكأني أول مرة أنصت وأشاهد عرضها بتلك الطريقة المؤثرة.
وكلما شاهدت الفيديو الخاص بها غصتُ في أعماقها وتذكرت مصيري ومصير أحبَّتي، ورغم صعوبة الكلمات التي تلامس القلب بشدة، ورغم أن الكثيرين يهابون الموت، لكنني كنت أتساءل: كيف لتلك القلوب وهي في ريعان الصبا أن تحنَّ وتشتاق إلى لقاء الله هكذا؟! كيف لنفس وروح تشتهي ترك الدنيا بكل ما فيها؟!
فأبتسم وأبكي عندما أرى تلك المشاهد والتراب ينهال على هذا القبر، أبتسم شوقًا إلى لقاء ربي، وأبكي خوفًا من أن يكون لدي ذنب يحرمني لذة وحلاوة هذا اللقاء.
فصدقًا منذ أن أبصرت هذه الحياة لم تكن الدنيا أكبر همِّي، لم أكن راغبةً فيها ولا لي حاجة إلى زينتها ولذائذها؛ بل كان كل ما يشغل همي، كيف سيكون لقائي بربي، وهل زادي يكفي للفوز بلذة النظر إلى نور وجهه العظيم.
ومع كل مقطع من مقاطع تلك الأنشودة أرتحل إلى عالم آخر من المعاني التي تحمل رسائل وتساؤلات جمة، رسائل كنت قد نسيتها، ولكن منذ وفاة صديقتي بدأت تلك المشاعر في الظهور مرة أخرى، وبدأت تلك الأنشودة تظهر أمامي فبكيتُ وبكيتُ كلما استمعت إليها.
ها هي كلماتها التي بحثت عنها كثيرًا، فهَيَّا قف معي هنا واقرأ كلماتها ودَعْ قلبك يتفاعل معها، لتفيض دموع عينيك هنا بين السطور، فهي لحظة من لحظات صحوة القلب التي قد يتبدل بسببها حالك:
هل استشعرت معانيها جيدًا؟ هل تأملت كل كلمة لتسلسل الأحداث فيها؟ وكيف برع المُنشد في تذكير الناس بذكر هادم اللذَّات كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كانت هذه هي نيَّتَه في إرسال رسالته إلى الناس عبر هذه الأنشودة فقد وُفِّق إلى ما نوى إليه، ورحمه الله وغفر له وأنار قبره.
تلك الأنشودة التي جعلتني مع نهاية كلماتها أتطلع إلى الدار الآخرة، وإلى ذلك اليوم الموعود، فتتخطَّى إليه بقدمك إلى سفر ليس فيه عودة، فقط معك زادك وصحيفة أعمالك التي طويت، فإما إلى جنة عرضها السموات والأرض تفتح لك الأبواب وتتلقَّاك ملائكة الرحمن فتأخذ بيدك إلى النعيم الدائم من بساتين وثمار وقصور من الدر واللؤلؤ، من أنهار تجري وثياب من السندس، وإما إلى مصير محزن ومخزي وعذاب مقيم وحسرة وندم على ما ضيَّعنا من غفلة في الدنيا، وإعراض عن فعل الخير، فهل تستحق الدنيا أن تستبدل بهذا النعيم!
وفي كل مرة أتوقف عند تلك الكلمات: “هذه نهاية حالي… فرشي التراب”، فأشعر بقشعريرة تسري في جسدي، وإذا بدموع عيني تنهال من الخوف، أتساءل: هل مرت دقائق وثواني حياتي في رضا وطاعة لله أم أخذتني الدنيا ونسيت التوبة والعودة إلى الله، فلكلٍّ منا زلَّات ومعاصٍ؟ وهل نحن صالحون بما يكفي لنستعد لتلك اللحظات الأخيرة في حياة كل منا؟
وأين سيكون مقعدي بعد رحيل الأهل والأصدقاء؟ هل سيتذكرني أحبابي وأصدقائي؟ أم سأكون مجرد طيف لذكرى عابرة تراودهم بين الحين والحين؟
هل سينفقون عليَّ الصدقات، وينشرون الدعوات لي بين الجميع؟ أم ستُنفق الأموال على غيري، ويؤثرون أنفسهم وملذَّاتهم على رفع درجتي في الجنة؟
مسحت دموعي التي بدأت تنهمر بشدة، أبكي على حالي بعد رحيلي خوفًا من أن أُنسى وينقطع الدعاء عني.
أدركت حينها أن الإنسان لا بد له من العمل والجهاد في الدنيا أكثر، يسعى بكل طاقته لترك صدقة جارية عنه، فينشر علمًا، أو يساعد محتاجًا، أو يربي ابنًا ليكون ولدًا صالحًا يدعو له، أو يجعل له خبيئة لا يعلم عنها أحد، أبواب الخير كثيرة ليصلنا أجرها بعد فراق الدنيا، ولكنا ما زلنا في غفلة.
لنعمل اليوم فإذا ما عصفت الدنيا بالأحباب وتناسوا من رحل ذات يوم، يأتي عملنا الذي سعينا إليه بأنفسنا، فينير ظلمة القبر، ويمحو ذنوبًا، ويثقل الميزان بحسنات أخرى.
أيقنت أيضًا أن المواقف وترك أثر طيب حتى ولو بكلمة عطرة في قلوب من حولك هي بمثابة تذكير لهم بين الحين والحين بأنك كنت ذات يوم هنا، حسن المعشر، هينًا لينًا لم يشقَ في صحبتك أحد.
أما عن كلمات “والصحب أين” بكيت كما لم أبكِ قطُّ، وشردت معها ودموعي ما زالت تنهمر كالمطر أتساءل وأتعجب: كيف للصحب أن ينسى صاحبه؟!
فمنذ وفاة صديقتي الغالية فاطمة عاهدت نفسي ألا يمر يوم إلا وقد أنرت قبرها بدعوات طيبة، بل أحث الجميع وأذكرهم بها، وكأني أرسل ردًّا على تلك الكلمات “والصحب أين”.
فأقول أنا هنا يا صديقتي وأشهد الله أني أتذكرك وأتعاهدك بالدعاء والصدقة، أنا هنا يا حبة القلب إلى أن نلتقي، ولكن ما زالت حيرتي تؤلمني حينما يأتي موعدي، هل سيتذكرني أحد؟
هل سيكون هناك من يتصدَّق عني، ويحاوط قبري دعاؤه ليلَ نهارَ؟
اعملوا اليوم لأنفسكم فليس كل الأحباب والأهل والأصدقاء سيتذكروننا أو سينفقون الصدقات علينا سواء كانت من أموالنا التي عشنا نرتحل في الدنيا لجمعها ثم تركناها لهم، أو من أموالهم، فهذه هي حال الدنيا!
يوم ينهال التراب على قبورنا سنغدو مجرد ذكرى، فهل نعمل لمثل هذا اليوم الآن؟!