ضبط مصطلحي العقيدة والإيمان من حيث الاشتقاق والتطور في الدلالة والاستعمال
ضبط مصطلحَيِ “العقيدة” و”الإيمان”
من حيث الاشتقاق والتطور في الدلالة والاستعمال
المعنى اللغوي للعقيدة:
للفعل الثلاثي (عَقَدَ) في معاجم اللغة العربية العديدُ من المعاني، التي تدور حول الربط واللزوم والتأكُّد من الاستيثاق؛ فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: “العَقْدُ نقيض الحَلِّ، واعتقده كعَقَدَهُ… ويُقال: عقد الحبل فهو معقود وكذلك العهد… وعقد العهد واليمين يعقِدهما عقدًا، وعَقَدهما بمعنى أكدهما؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ [النساء: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، وعقد فلان على الشيء: لزِمه؛ جاء في الحديث: ((الخيل معقود في نواصيها الخير))[1]؛ أي: ملازم لها كأنه معقود فيها.
وعُقدة النكاح والبيع: وجوبهما، قال الفارسي: هو من الشدِّ والرَّبط.
وعُقدة كل شيء: إبرامه، والقلب محل الاعتقاد[2]؛ يعني: اعتقد كذا بقلبه[3].
واعتقد الشيء: صلب، واعتقد الإخاء: ثبت[4].
واعتقدت كذا: عقدتُ عليه القلب والضمير، حتى قيل (العقيدة): ما يدين الإنسان به، وله عقيدة حسنة: سالمة من الشَّكِّ[5].
والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشَّكَّ فيه لدى معتقده، والعقيدة في الدين: ما يُقصَد به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود الله وبعثة الرسل، والجمع عقائد[6].
إذًا، فالعقيدة في اللغة: من العَقْدِ، وأن أصل العقد – كما يقول الزبيدي وابن منظور – نقيض الحل، ثم استُعمل في أنواع العقود من البيوع، والعقود وغيرها، ثم استُعمل في التصميم والاعتقاد الجازم، استُعمل في الأجسام ثم استُعير للمعاني كما قال الراغب، ويدل على شدٍّ وشدة ووثوق، كما يقول ابن فارس ومن معانيه: الإبرام، والإحكام، والتوثُّق، والإثبات[7].
المعنى الاصطلاحي للعقيدة:
والعقيدة في الاصطلاح الشرعي: هي الأمور التي يجب أن يصدِّق بها القلب، وتطمئنَّ إليها النفس؛ حتى تكون يقينًا ثابتًا لا يمازجها ريبٌ، ولا يخالطها شكٌّ، وسُمِّيَ عقيدةً؛ لأن الإنسان يعقِد عليه قلبه.
تعريف العقيدة الإسلامية:
هي الإيمان الجازم بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِهِ وشرِّهِ، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التامِّ لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.
أبرز الموضوعات التي يتناولها علم العقيدة ويشملها:
إن العقيدة من حيث كونها علمًا – بمفهوم أهل السنة والجماعة – فإنها تـشمل الموضـوعات الآتية: التوحيد – توحيد الألوهيـة، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات – والإيمان، والإسلام، والغيبيات، والنبـوَّات، والقَدَر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعيـة، وسـائر أصـول الـدين والاعتقاد، ويتبعـه الرد على أهل الأهواء والبدع وسائر الْمِلَلِ والنِّحَل الضالَّة، والموقف منها[8].
ملحوظة: إذا أُطلِق مصطلح الإسلامية، فإن المقصود به عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله دينًا لعباده، وهي عقيدة الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ.
وللعقيدة الإسلامية أسماءٌ أخرى عند أهل السنة والجماعة، تُرادفها وتدل عليها؛ ومنها: التوحيد، والسُّنَّة، وأصول الدين، والإيمان، والمصادر الإسلامية التراثية مليئة بأسماء متعددة للحقل العقدي، عدا لفظة العقيدة والعقائد والاعتقاد؛ منها: الإيمان، وهو الأصل المؤيَّد بالنصوص الصريحة، وغيرها اصطلاحية أو مركَّزة على سِمَةٍ أو صفة في الإيمان والمعتقد، ومن تلك الأسماء البديلة للعقيدة (التوحيد) و(السنة) و(أصول الدين) و(الفقه الأكبر) و(الشريعة)[9].
ويكاد التعريف السابق ذكره يكون الأكثر تداولًا وانتشارًا في كتب التوحيد والعقيدة المعاصرة، ونحن إذ نقول (الأكثر)، فإن ذلك راجع إلى أن البعض يرفضه ويقترح اعتمادَ تعريفٍ غيرِهِ، ولعل ذلك راجع إلى أن تعريف العقيدة في الاصطلاح كان مثارَ جدلٍ ونقطةَ اختلافٍ بين بعض العلماء والمفكِّرين المعاصرين، مع أن بعضهم ليس متخصصًا بهذا العلم، ومردُّ هذا الاختلاف إلى أن فريقًا من المفكِّرين المعاصرين وأساتذة الجامعات يرى أن مفردة “العقيدة” ومفردة “الاعتقاد” لم تَرِدا في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بالمعنى الاصطلاحي، ومن ثَمَّ فلا يوجد للعقيدة تعريف مستمدٌّ مباشرةً من النصوص الشرعية سوى المضمون، ويقول هؤلاء المفكِّرون: إن مصطلح “العقيدة” جاء متأخرًا، وإنه لم يوجد ولم يُستعمَل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في العصور التي تَلَتْهُ من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ولا في عصر التابعين، أو حتى تابعي التابعين.
بينما يرى الفريق الثاني من العلماء والمفكِّرين والأساتذة الجامعيين المتخصصين بهذا العلم أن الكلام السابق مردود وغير صحيح، وأنه يجافي الحقيقة التي تُثبِت أن الأصل اللغويَّ للفظ العقيدة ثابت في الكتاب والسنة النبوية، وأنه يدل على أصل معناه الاصطلاحي العديد من الشواهد والأمثلة؛ ومنها ما يأتي:
أولًا: ورد لفظ “يعتقد” في السُّنَّة الصحيحة؛ كما عند الدارمي عن أبان بن عثمان قال: خرج زيد بن ثابت رضي الله عنهما من عند مروان بن الحكم بنصف النهار، قال: فقلت: ما خرج هذه الساعة من عند مروان إلا وقد سأله عن شيء، فأتيته فسألته، فقال: نعم، سألني عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضَّر الله امرأً سمع منا حديثًا، فحفِظه، فأدَّاه إلى من هو أحفظ منه، فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، لا يعتقد قلبُ مسلمٍ على ثلاث خِصال إلا دخل الجنة، قال: قلت: ما هن؟ قال: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كانت الآخرة نيته، جعل الله غِناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا نيته، فرَّق الله عليه شمله، وجعل فَقْرَهُ بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له، قال: وسألته عن صلاة الوسطى قال: هي الظهر))[10].
ثانيًا: كما ورد استعمال لفظ “العقيدة” في الأثر؛ كما في (الإبانة الكبرى) لابن بطة بسندٍ صحيح عن الحسن أن أُبَيَّ بن كعب قال: “هلك أهل العقدة ورب الكعبة، هلكوا، وأهلكوا كثيرًا، والله ما عليهم آسَى، ولكن آسى على ما يُهلِكون من أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم”؛ يعني بالعقدة: الذين يعتقدون على الآراء، والأهواء، والمفارقين للجماعة[11].
وقد تصدَّى بعض العلماء من الفريق الثاني – جزاهم الله خيرًا – لإثبات أن لفظة “العقيدة” من حيث الاصطلاح قد استعملها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت: 241هـ) في كتابه المسمى العقيدة[12]، ثم استخدمها بعد ذلك الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله (ت: 321هـ) في كتابه الشهير (العقيدة)، الذي يذكر في بدايته عبارته الشهيرة: “هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة”، وأما كلمة “الاعتقاد” بالتعريف فقد استعملها أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله (ت: 224هـ) في كتاب (الإيمان)، كما أن هذه الكلمة قد وردت عنوانًا في كتاب اعتقاد أهل السنة لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي رحمه الله (ت: 371هـ)[13].
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحًا، فإنه من المستحسن أن نذكر أمثلةً من أصحاب الفريق الأول – الذي يرى أن لفظ العقيدة جاء متأخرًا – وأنه لم يوجد ولم يستخدم في العصر النبوي، ولا في العصور والقرون المفضَّلة التي جاءت بعده – أي: في كل القرون الهجرية؛ الأول والثاني والثالث – كما نذكر أمثلةً من أصحاب الفريق الثاني الذي يرفض هذه المقولة، ويصفها بالادعاء الزائف الذي يخالف الحقيقة.
ومن أمثلة الفريق الأول: الدكتور عبدالقادر بن محمد عطا صوفي[14]، والأستاذ جمال بن أحمد بن بشير بادي[15]، والأستاذ عبدالصبور شاهين[16] والأستاذ حسن المالكي.
ومن أمثلة الفريق الثاني: الدكتور عبدالمحسن العباد[17]، والأستاذ محمد بن مبخوت الجزائري[18].
أما عن الرأي الذي نختاره في هذه المقالة، وتطمئن إليه النفس فيما يتعلق بهذه المسألة، فهو الرأي ذاته الذي اختاره الدكتور فاتح محمد سليمان في كتابه الهام (التطور الدلالي لمصطلحات العقيدة، دراسة مقارنة بين أهل الحديث والمعتزلة والأشاعرة)[19].
وهذا القول يبدو أكثر الآراء واقعيةً، كما يبدو بمثابة القول الوسط بين أقوال الفريقين السابقين؛ فهو يوافق أصحاب الفريق الثاني فيما ذكروه وفي إثباتهم للتسلسل التاريخي لاستخدام لفظ “العقيدة”، كما يوافقهم في قولهم بثبوت كلمة “العقيدة” و”الاعتقاد” في صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك يُثبت ورود المعنى اللغوي للفظ “عقيدة” في القرآن الكريم، ولكنه يؤكد على أن الذي لم يَرِد في القرآن الكريم هو “العقيدة” بالمعنى الاصطلاحي المتداول اليوم، ويؤكد – أي: الدكتور فاتح – في الوقت ذاته على أننا نجد جوهر العقيدة وعلم العقيدة في القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية في مصطلح الإيمان المرتبط بأصول الدين؛ فيقول:
“بما أن مفردة العقيدة والاعتقاد لم تأتِ في القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة بالمعنى الاصطلاحي؛ لذا لا يوجد تعريف مستمد من الأدلة القرآنية أو النبوية الصحيحة من النص مباشرةً عدا المضمون، وإطلاق هذا الاسم متأخر كباقي العلوم الأخرى، لكن نجد جوهره في مصطلح الإيمان المرتبط بأصول الدين، وأمور الغيب من الإيمان بالله من حيث الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وكذلك بقية أركان الإيمان من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وغيرها مما تدخل ضمن مسمَّى الإيمان والعقيدة الداخلة ضمن الغيبيات، وأصول الاعتقاد، المرتبط بالله والنبوَّات والسمعيَّات.
ولكن هذه التسمية تناولها العلماء فيما بعد، وأصبحت مشهورةً ولا سيما تحت تسمية (الاعتقاد)”[20].
معنى الإيمان:
تعريف الإيمان لغةً واصطلاحًا:
تعريف الإيمان لغةً:
إن أصل كلمة “إيمان” في اللغة هو مطلق التصديق، جاء في المعجم الوسيط: “آمن إيمانًا: صار ذا أمْنٍ، وبه وثِق وصدَّقه؛ وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ﴾ [يوسف: 17]”[21].
وأما الإيمان لغةً: فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا فهو مؤمن، واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم: أن الإيمان معناه التصديق؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 14][22].
قال الإمام الراغب رحمه الله تعالى: “الإيمان يُستعمَل على سبيل المدح، ويُراد به إذعان النفس للحق على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، ويُقال لكل واحد من الاعتقاد والقول، والصدق والعمل الصالح: إيمان”[23].
تعريف الإيمان اصطلاحًا:
ويُشار هنا قبل البدء بذكر المعنى الاصطلاحي للإيمان إلى الخلاف بين أتباع المدارس العقدية من أهل السنة والجماعة فيه، وخلاصة هذا الخلاف أن بعض علماء المسلمين يُدخِل الأعمال في تعريف “الإيمان”، بينما يستبعد فريق آخر من هؤلاء العلماء الأعمال من التعريف الاصطلاحي للإيمان.
فقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن الإيمان قولٌ باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالقلب، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويَقْوَى بالعلم ويضعُف بالجهل، وبالتوفيق يقع، وأن “الإيمان” اسم يتناول مسمياتٍ كثيرةً من أفعال وأقوال؛ وذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبةً، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))، وعنده أن الصلاة يقع عليها اسم “إيمان”، وقراءة القرآن يقع عليها اسم “إيمان”[24].
وإلى رأي موافق تمامًا لرأي الإمام أحمد بن حنبل، يذهب الإمام البيهقي رحمهما الله؛ حيث يقول في تفسيره للآيات الثانية والثالثة والرابعة من سورة الأنفال ما يأتي: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال: 2 – 4]، فأخبر أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال التي بعضها يقع في القلب، وبعضها باللسان، وبعضها بهما وسائر البدن، وبعضها بهما أو بأحدهما وبالمال، وفيما ذكر الله تعالى في هذه الأعمال تنبيه على ما لم يذكره، وأخبر بزيادة إيمانهم بتلاوة آياته عليهم، وفي كل ذلك دلالة على أن هذه الأعمال وما نبَّه بها عليه من جوامع الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وإذا قبِل الزيادة قبِل النقصان[25].
وقد وافق رأي شيخ الإسلام ابن تيمية الرأيين السابقين لكلٍّ من الإمام أحمد بن حنبل والإمام البيهقي رحمهما الله، تمامَ الموافقة؛ فقال: “إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين: قول وعمل ونية، وربما قال آخر: قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال: قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان؛ أي: بالجوارح”[26]، ويضيف ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر فيقول: “قيل: إن أصل لفظ الإيمان هو التصديق، وليس مطابقًا له، بل لا بد أن يكون تصديقًا عن غيب، وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانًا؛ لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة، وهذا إنما يكون في المخبر الذي قد يقع فيه ريب، والمشهودات لا ريب فيها، فالإيمان أصله القلب، وكماله العمل الظاهر بخلاف الإسلام، فإن أصله الظاهر، وكماله القلب”[27].
جاء في تفسير ابن كثير: “أما الإيمان إذا استُعمِل مطلقًا، فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولًا وعملًا، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص”[28].
وقال الزمخشري في الكشاف: “فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ قلت: أن يعتقد الحق، ويُعرِب عنه بلسانه، ويصدِّقه بعمله، فمن أخلَّ بالاعتقاد وإن شهِد وعمِل، فهو منافق، ومن أخلَّ بالشهادة فهو كافر، ومن أخلَّ بالعمل فهو فاسق”[29].
ويؤكد الإمام القرطبي على هذا الرأي بقوله: “الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح”[30].
والإيمان يساوي الاعتقاد من حيث المعنى والمدلول، وأصول الإيمان هي ذاتها أصول العقيدة الإسلامية.
[1] العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري: كتاب الجهاد، باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة 3/1047، رقم الحديث: 2695، ط1، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي وآخرين، دار الريان، القاهرة، 1986م.
[2] ابن منظور، لسان العرب، مادة: عقد، ص3030 وما بعدها، ط1، تحقيق: عبدالله علي الكبير وآخرين، دار المعارف.
[3] الرازي، أبو بكر، مختار الصحاح، مادة: عقد، ص467، ط1، دار الفكر، بيروت، لبنان.
[4] ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ص679، ط2، دار الفكر – بيروت، 1998.
[5] الفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافع، ص71، ط1، تحقيق: مصطفى السقا، دار الفكر، دمشق.
[6] إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط (مجمع اللغة العربية)، ص637، ج2، ط3، منشورات مجمع اللغة العربية.
[7] سليمان، فاتح محمد، التطور الدلالي لمصطلحات العقيدة، دراسة مقارنة بين أهل الحديث والمعتزلة والأشاعرة، ص73، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2019.
[8] العقل، ناصر بن عبدالكريم، مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، ص6، ط1، دار الوطن للنشر، الرياض، 1412 ه.
[9] سليمان، فاتح محمد، التطور الدلالي لمصطلحات العقيدة، دراسة مقارنة بين أهل الحديث والمعتزلة والأشاعرة، ص74، 75، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2019.
[10] الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن بن فضل، مسند الدارمي (سنن الدارمي)، ص 302، 303، ج1، ط1، دار المغني، الرياض، 1421هـ.
[11] العكبري، عبيدالله بن محمد بن بطة، الإبانة الكبرى (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة)، ص93، ج1، الحديث رقم: 207، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422هـ.
[12] انظر: كتاب العقيدة للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبدالعزيز السيروان، من منشورات دار قتيبة، دمشق، 1408هــ.
[13] الجزائري، محمد بن مبخوت، دراسة بعنوان: “النصيحة بأن العقيدة كلمة فصيحة”، منشورات المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، المجلد 2018، العدد 41، بتاريخ 30/9/2018، الصفحات 47-64.
[14] انظر كتابه: المفيد في مهمات التوحيد.
[15] انظر كتابه: الآثار الواردة عن أئمة السلف في أبواب الاعتقاد من كتاب “سير أعلام النبلاء” للإمام الذهبي.
[16] انظر: مقالة “حول كلمة العقيدة” المنشور في مجلة المجمع اللغوي بمصر، الصفحات 68-74، في العدد 22 لسنة 1967.
[17] انظر كتابه: الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي.
[18] انظر دراسته: النصيحة بأن العقيدة كلمة فصيحة، (م. س).
[19] سليمان، فاتح محمد، التطور الدلالي لمصطلحات العقيدة، دراسة مقارنة بين أهل الحديث والمعتزلة والأشاعرة، (م. س)، ص: 74، 73.
[20] التطور الدلالي لمصطلحات العقيدة، (م. س)، ص73، 74.
[21] إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط (مجمع اللغة العربية)، ص2، ج1، ط3، منشورات مجمع اللغة العربية.
[22] ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي، لسان العرب، مادة: أمن، ج 13، ص21، دار صادر، بلا رقم طبعة، بيروت، 1414 ه.
[23] الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان الداودي، ج1، ص 91، مادة: أمن، ط1، دار القلم والدار الشامية، دمشق وبيروت، 1412 ه.
[24] ابن حنبل، أبو عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، العقيدة رواية أبي بكر الخلال، ص117، بلا رقم طبعة، دار قتيبة، دمشق، 1408هـ.
[25] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي، الاعتقاد والهداية إلى سبل الرشاد، ص174-175، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401ه.
[26] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (م. س)، ج7، ص505.
[27] المرجع السابق نفسه: ج 7، ص 636، 637.
[28] ابن كثير، إسماعيل بن محمد، مختصر تفسير القرآن العظيم المسمى (عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير)، اختصار وتحقيق: أحمد محمد شاكر، ج2، ص 73، ط 1، بلا سنة نشر، الكتاب العالمي للنشر، بيروت.
[29] الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل ووجوه التأويل، ج1، ص 39، ط3، دار المعرفة، بيروت، 2009.
[30] القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر، مختصر تفسير القرطبي (اختصار وشرح: عرفان حسونة)، ج3، ص 414، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001.