7- يا ليل الصب متى غده؟!


سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(7) يَا ليلَ الصَّبِّ مَتَى غَدُهُ؟!

 

كانت النار بيننا تضطرم بشعاع بديعٌ، ولها خلف صاحبي أشباح تتراقص كأنها جِنيّاتٌ سَكْرَى، وقد تعمّد صاحبي أن تكون النار أكبر من المعتاد ليرمي قرصه في مَلَّتِهَا، والملّة هي التراب الحار الذي يلي النار مباشرة، ثم لم يلبث أن يُيَبِّسَ أطراف العجين بعودٍ يمرّره عليه، ثم برّح له في الملّة، ثم ألقاه مثيراً بعض الرماد، بعد ذلك دفنه ببقية الملّة دفناً رقيقاً، ثم أعاد شيئاً من الجمر فوقها حتى تأتي الحرارة من أسفل القرص وأعلاه. فَعَلَ ذلك وهو ينقل بقية جمرات ناره الأولى وخشبها لطرف المجلس الآخر، وقد قرّب للنار إبريقاً قد انتصف من حليب النّوق، وقد ذرَّ عليه القليل من الزنجبيل والفلفل الأسود الذي تسميه البادية الطبيب الأبكم.. ثم قال وهو ينفخ النار التي تفرّقت عن لحيته: حدّثني عن توبة وصاحبته.


قلت _وفي علمي أنّه أدرى بخبرهما مني، لكن طِيْبَ المعشر وحبَّ سماع الأخبار من غيره هيّجاه على ذلك_: على الرحب يا محب، فحديث المحبين تميل النفوس بأعماقها إليه، وتلقي القلوب بأزمّتها عليه، وقد ذكروا أن توبة بن الحميِّر الخفاجي العامري، وهو أحد مشاهير عشاق العرب وفرسانهم وشجعانهم، وصاحبته هي ليلى الأخيلية العامرية الشاعرة.


وقد أحب ليلى وبادلته حباً، وشبّب بها، ولم يظفر بها بل زوجوها من غيره، فضعف حاله وسقم حتى هلك قتيلاً على نهاب إبل! ومما قال فيها:




ولو أنَّ ليلى الأخيلية سلَّمتْ
عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحُ
لسلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أو زَقَا
إليها طائرٌ من جانب القبر صائحُ

 

ويزعم ظرفاء القصاص أن ليلى الأخيلية مرّت وزوجها بقبره، فقال زوجها متهكّماً: سلِّمِي عليه حتى أرى كذبه، فسلّمت فطار طير من جانب قبره وصاح، فاضطربت الناقة فسقطت ليلى واندق عنها فدفنت بجانبه! وفي توبة تقول ليلى:


 

وذكروا أن توبة رحل إلى الشام، فمر ببني عذرة فرأته بثينةُ جميل، فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميل، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا توبة بن الحميّر، فقال: هل لك في الصراع؟ فقال: ذلك إليك، فنبذت إليه بثينة ملحفة مورَّسة، فاتزر بها، ثمَّ صارعه فصرعه جميل، ثمَّ سابقه فسبقه جميل، فقال: يا هذا، إنما تفعل هذا بريح هذه، ولكن اهبط بنا الوادي، فهبطا فصرعه توبة وسبقه، وهذا من كريم شمائله، فلم يرد أن يكسره أمام محبوبته. وأمير شعر توبة قصيدته التي يقول فيها:



ثم قال وهو يتمايل مع أبيات توبة: لقد كان توبة معاصراً لأصحاب المربد، ولقد فاقهم في النسيب وفاقوه في الهجاء. قلت: أتعني أهل النقائض جريراً والفرزدق والأخطل؟ قال: هُم أردت. والذي شهرهم هو الهجاء، قلت فمن قدّمت منهم؟ قال: جريراً الخطفي بلا ريب، فهو النخلة السحوق، والفحل القطم، والسيل العرم، وقد كان أبوه مضعوفاً، لذا فقد كان يرتفع لبطنه بني يربوع ثم لتميم فيقوم ويعلو، إلا أن الفرزدق يردُّه لأبيه فيفقره، أما الفرزدق فقد كان يفخر بمجد أُسرته ووالده وجدّه، ثم يرتفع لبطنه بني دارم ثم يعلو إلى تميم. مع ذلك فقد كان جرير يعرف كيف يبري نبال الهجاء المصمِيَّة، ويدلع لسانه في هجو أبي فراس، وإن كان كلاهما من قبيلة واحدة!


وقد كان صُلبُ هجائه للفرزدق، ولم يكن أحدهما يزوَرُّ عن صاحبه، بل يصادمه بأعتى الهجاء، وأمضى رماح الكلِم. ولم يقم لجرير من الشعراء سواه والأخطل، وقد ساعد الأخطل قوّةُ وصفِهِ، وحظوته عند الملوك، وإلا فليس بقوّة الفحلين.


واسمه جرير بن عطية من بني كليب بن يربوعٍ، وكان يكنى أبا حزرة. وهو من فحول شعراء الإسلام، ويشبه من شعراء الجاهلية بصناجة العرب الأعشى. وقد كان خاملاً في موطنه بالمروت من البادية _ويقال إنها بلدة أُثيثية في إقليم الوشم حالياً_ ويتهاجى مع الفرزدق، ويتراسلان المغلغلات، فأرسل بنو يربوع إلىه فقالوا: إنك مقيم بالمروت ليس عندك أحدٌ يروي عنك، والفرزدق بالعراق قد ملأها عليك منذ سبع حججٍ، قد حمّل الركبان قصائده فينا، وأنت هنا لا يحملها عنك إلا الواحد بعد الواحد،، فانحدر من فوره إلى العراق فأشعل مربد البصرة بأهاجيه! ولذلك يقول:




وإِذا شَهدْتُ لثَغْرِ قَوْمي مَشْهَداً
آثَرْتُ ذاكَ على بَنِىَّ ومالى

وفوّق أسهمه النافذة، فلم يقم لها أحد سوى من ذكرت. وقيل إن جريراً قد أسقط في الهجاء أكثر من ثمانين شاعراً، كلهم يرميهم خلف ظهره متشحطين في نِبَالِ هجائه! وقد تهاجى والفرزدق خمسة وأربعين عاماً، مع ذلك فقد كانا صاحبين متصافيين، على ما بينهما من ضربِ قَنَا القريض. والحقّ أن كثيراً من هجاءهما دعابات وإن لم تخل من مقاتل!


وبالجملة، فجرير أهجى الثلاثة، وهو القائل، وتأمل قعقعة السلاح فيهما مع فخامة المعاني وجزالة المباني:




وَعاوٍ عَوَى من غيرِ شيءٍ رمَيتُه
بقافيةٍ أَنْفاذُهَا تَقْطُر الدَّمَا
خروج بأَفْوَاهِ الرِّجالِ كأَنَّها
قَرَى هُنْدُوانّيٍ إذا هُزَّ صَمَّما

 

لقد لان للخطفي عَصِيُّ القريض، واستقام لقريحته معوجُّه، وقد مر راكب بالرَّاعي يتغنى بهما، فقال الراعي: لمن البيتين؟ قال: جرير، قال: قاتله الله، لو اجتمعت الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئاً. ثم قال: أُلَامُ أن يغلبني مثل هذا؟ وهذا إقرار من الراعي بأسبقية جرير. وقال كذلك:




وقُلتُ نَصَاحةً لبني عَدِيٍّ
ثِيابَكُم وَنَضْحَ دَمِ القَتِيلِ

فقال الفرزدق: قاتله الله، إذا أخذ هذا المأخذ فما يقام له، يعني هذا الروي.


وسئل الأخطل عن نفسه وعن جرير والفرزدق فقال: أنا أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، والفرزدق أفخرنا، وجرير أهجانا وأنسبنا.


وسئل مرّة عن جرير، فقال: دعوه، فإنه كان بلاء على من صُبَّ عليه، وما أخشن ناحيته، واشرد قافيته، والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، والشابة على أحبابها، ولقد هزوه فوجدوه عند الهراش نابحاً، ولقد قال بيتاً لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه، وهو قوله:




إذا غضبت عليك بنو تميمٍ
حسبت الناس، كلهمُ غضابا

ومن ذائع قولهم: الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر.


وانظر إلى تفوقه في بيته إذ يقول:




لَمَّا وَضَعْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مِيسَمِي
وَعَلَى الْبعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأَخْطَلِ

فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.


وقيل لمسلم: أي الشاعرين أفضل، جرير أم الفرزدق؟ فقال: الفرزدق يبني، وجرير يهدم. وقال: بيوت الشعر أربعة: فخر، ومدح، وهجاء، ونسيب. وجرير غلب في هذه كلها. يريد بالفخر قوله:




إذا غضبت عليك بنو تميمٍ
حسبتَ الناس كلهمُ غضابا

ويريد بالمدح قوله:




ألستمْ خيرَ من ركب المطايا
وأندى العالمين بطونَ راحِ

ويريد بالهجاء قوله:




فغضَّ الطرفَ إنكَ من نميرٍ
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

ويريد بالنسيب قوله:




إنَّ العيونَ التي في طرفها مرضٌ
قتلننا ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعن ذا اللبِ حتى لا حراكَ به
وهنَّ أضعفُ خلق اللهِ أركانا

 

وقيل لبشار: من أشعر الثلاثة؟ فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصّبت له وأفرطت فيه، وكان لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النّوار _طليقة الفرزدق_ فكانوا ينوحون عليها بشعر جرير، الذي رثى به أم حرزة امرأته، وأولها:



ومن قول جرير في الأخطل والنصارى:



وكان من أحسن الناس تشبيباً، وقد بلغ ودق السحائب بقوله:




يا أُمَّ عمروٍ جزاكِ الله مغفرة
رُدِّي عليّ فؤادي كالذي كانا
يا حبَّذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا


قال الأصمعي: سمعت الحي يتحدثون أن جريراً قال: لولا ما شغلني من هذه الكلاب، لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى شبابها كما تحن الناب إلى سقبها.

وقال عمرو بن العلاء: كنت قاعداً عند جريرٍ وهو يملى:




ودِّعْ أَمامَةَ حان منْكَ رحِيلُ
إِنَّ الوَدَاعَ لمَنْ تُحبُّ قَلِيلُ

فمرّت به جنازةٌ، فترك الإنشاد وقال: شيبتني هذه الجنائز، قلت: فلأي شيءٍ تشتم الناس؟ قال: يبدؤونني ثم لا أعفو. وقال: لست بمُبتدئ ولكنني مُعتدٍ. يريد أنه يُسْرفِ في القِصاص. ومثله قول الشاعر:



وقال مروان بن أبي حفصة مبيّناً سبقه لأهل زمانه، وغلبته أهل ميدانه:




ذَهَبَ الفَرَزْدَقُ بالفخَارِ وإِنما
حُلْوُ القَرِيض ومُرُّهُ لِجَرِيرِ

وحينما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة انصبّت عليه الشعراء لتمدح وتُمنح، فلم يأذن لهم بالدخول، فاستشفعوا بعدي بن أرطأة فكلّمه لهم، فسأله عنهم فقال: فمن بالباب من الشعراء؟ قال عدي: يا أمير المؤمنين، عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي، فقال_وتأمل نقده الديني، وهو الفيصل بلا تردّد_: لا قرَبه اللّه ولا حياه، أليس هو القائل:




أَلاَ لَيْتَ أَنِّي حينَ تدنُو منيتي
شَمَمْتُ الذي ما بَين عينيكِ والفَمِ
وباتَت سُلَيمَى في المنامِ ضجيعَتِي
هنالكَ أو في جَنَّةٍ أو جَهَنمِ


فليته عدوَّ اللّه تمناها في الدنيا، ثم رجع إلى العمل الصالح، واللّه لا يدخل عليّ. فمن بالباب غيره؟ فقال: كثيّر عزة، قال: أو ليس هو القائل:




رُهبَانُ مَديَنَ والذين عَهِدتهُمْ
يَبْكُونَ من حَرِّ العذابِ قُعُودا
لو يسمَعُونَ كما سَمِعتُ كلامَهَا
خَرُوا لعزةَ رُكَعاً وسُجُودا

 

من بالباب غيره؟ قال: الأحوص الأنصاري، قال: أبعده اللّه وأسحقه، أليس هو القائل، وقد أفسد على رجل جاريته، حتى أَبَقَتْ من سيدها:




أللهُ بَينِي وَبَين سَيّدِهَا
يَفِرُّ مِني بِهَا وَأَتْبَعُهُ

لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال: الفرزدق همام بن غالب التميمي، قال: أليس هو القائل يفتخر بالزنى:




هُمَا دَلَّيَانِي مِن ثمانينَ قَامَة
كَمَا انْقض باز أَقتَمُ الريشِ كاسِرُهْ
فلما استَوَت رِجلايَ في الأرضِ قالتا
أَحَي يُرَجَّى أم قتيل نُحَاذِرُهْ

 

لا يدخل علي، من بالباب غيره؟ قال عدي: الأخطل التغلبي، قال: هو الكافر والقائل:



والله لا وطئ لي بساطاً، من بالباب غيره؟ قال عدي: جرير بن عطية الخطفي، قال: هو القائل:




لولا مراقبَةُ العيونِ أَرَيْنَنَا
حِدَقَ المَهَا وَسَوالِفَ الآرامِ
طَرَقَتْكَ صائدَةُ القلوبِ ولَيسَ ذا
وَقْتُ الزيارة فارْجِعِي بسَلامِ


فإن كان ولا بد، فائذن لجرير، فخرج عدي فأذن له، فدخل وهو يقول:




وَسِعَ الخلائِقَ عَدْلُهُ ووقارُهُ
حتَى ارعَوَى وأقامَ مَيْلَ المائِلِ
إِني لأَرجُو مِنْكَ خَيراً عاجلا
فالنفْسُ مُولَعَةٌ بحُب العاجِلِ


فلما حضر بين يديه، قال له: اتق اللّه ولا تقل إلا حقاً، فقال:


 

وهي طويلة، فقال: واللّه يا جرير، ما يملِكُ عمر سوى مائة درهم، يا غلام، ادفعها له، ودَفَعَ له حليَّ سيفه، فخرج جرير إلى الشعراء، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض، وأنشأ يقول:




رَأَيْتُ رُقَى الشيْطَانِ لا تستفزّهُ
وقد كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الجِن رَاقيا

ومما يدل على حسن ديباجته، وصحّةِ سبكه، ورقة لفظه هذه القصيدة الماتعة، الواعرة الباهية، وقد خَبَرتُ ذلك:


 

أما الفخم الفاخر، الذي حفظ لنا كثيراً من لغة العرب إذ لم توجد عند غيره فهو الفرزدق، وقصائده في الشعر بموضع العذار من خد الفرس، وقريضه هو الأنف المقدّم والسنام الأكبر، والفخم الباذخ والجزل الباهر، واسم الفرزدق همام بن غالب بن صعصة بن ناجية بن مجاشع بن دارمٍ، وكان جدّه صعصعة بن ناجية عظيم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين موؤودةً إلى أن جاء الله عز وجل بالإسلام، فأسلم.


قال أبو عمرو بن العلاء: كان الفرزدق يُشبَّهُ من شعراء الجاهلية بزهيرٍ. وأما النّوار امرأة الفرزدق فهي ابنة أعين بن ضبيعة المجاشعي، وكان علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وَجَّهَ أباها إلى البصرة أيام الحكمين، فقتله الخوارج غيلةً، فخطب النوارَ رجلٌ من قريش، وأهلها بالشأم، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها إذ كان ابن عمها، وكان أقرب من هناك إليها، فقال: إن بالشأم من هو أقرب إليك منِّي، ولا آمن أن يقدم قادمٌ منهم فينكر ذلك عليّ، فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إليّ، ففعلت فخرج بالشهود وقال لهم: قد أشهدتكم أنها قد جعلت أمرها إلي، وإني أشهدكم أني قد تزوجتها على مائة ناقةٍ حمراء سوداء الحدق! فذئرت من ذلك، واستعدت عليه، وخرجت إلى عبد الله بن الزبير، والحجاز والعراق يومئذٍ إليه، وخرج خلفها الفرزدق، فأما النوار فنزلت على خولة ابنة منظور بن زبان الفزاري امرأة عبد الله بن الزبير، فرقَّقَتْهَا وسألتها الشفاعة لها، وأما الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه، فوعده الشفاعة له، فتكلمت خولة في النوار، وتكلم حمزة في الفرزدق، فأنجحت خولة وخاب حمزة، وأمرَ عبد الله ابن الزبير أن لا يقربها حتى يصيرا إلى البصرة، فيحتكما إلى عامله _وهو الحقّ، فهو وكّلته بتزويجها من غيره لا من نفسه_ فخرج الفرزدق فقال ساخراً:




أَمَّا بَنُوهُ فلم تُنْجِحْ شفاعتُهم
وشُفِّعَتْ بِنْتُ مَنْظُورِ بنِ زَبَّانَا
لَيْسَ الشَّفِيعُ الذي يأْتيكَ مُؤْتَزراً
مِثْلَ الشَّفيعِ الذي يَأتيكَ عُرْيَانَا

 

وكان آخر أمره أن طلّقها وندم، وأنشد:




ندمت ندامة الكُسَعِيِّ لمّا
غدت مني مطلقة نوارُ
وكانت جنَّةً فخرجتُ منها
كآدم حين أخرجه الضَّرارُ


والضرار هو العصيان. وخال الفرزدق هو العلاء بن قرظة الضبي، وكان شاعراً، وكان الفرزدق يقول: إنما أتاني الشعر من قبل خالي، وخالي الذي يقول:




إِذَا ما الدَّهْرُ جَرَّ على أُناسِ
حَوَادثَهُ أَناخَ بآخَرينا
فقُلْ للشامتينَ بنا أَفيقُوا
سَيَلْقَى الشامتُونَ كما لَقينَا


ويُروى أن الفرزدق كان حسن التديّن محمود السيرة، ولعلّ هذا كان بِأَخَرَةٍ، وأنه كان إذا ضحك فاستُغرب في الضحك التفت كأنه يخاطب ملَكَيْه، فقال: أما والله لأُسمعنّكما خيراً: لا إله إلا الله، والحمد لله، وأستغفرُ الله. واجتمع هو والحسن البصري في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد، أتدري ما يقول الناس؟ قال: لا، قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددتَ لهذا الموضع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: خذوها والله من غير فقيه، وإياك وقذف المحصنات، ثم أنشأ الفرزدق يقول:


فلما مات الفرزدق رُؤي في المنام فقيل: ما صنع بك ربُّك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ قال: بالكلمة التي نازعنيها الحسن على شفير القبر. ويروى أن أبا هريرة قال له: إني أرى لك قدمين لطيفين فانظر أن تجعل لهما موضعاً لطيفاً يوم القيامة، ومهما صنعت من شيء فلا تقنط من رحمة الله. ولما بلغ جريراً موته قال:




هَلَكَ الفَرَزْدَقُ بَعْدَما جَدَّعْتُهُ
لَيْتَ الفَرَزْدقَ كان عاشَ قَلِيلاَ

ثم أطرق طويلاً وبكى، فقيل له: يا أبا حرزة ما أبكاك؟ قال: بكيت لنفسي، إنه والله قل ما كان اثنان مثلنا أو مصطحبان أو زوجان إلا كان أمد ما بينهما قريباً، ثم أنشأ يقول راثياً الفرزدق:



أما ثالثهم فهو جَبَلُ شعر وجَمَلُ قريض وفحلُ قصائد وأمير وصف، وهو الأخطل واسمه غياث بن غوثٍ التغلبي الرّبَعي. ويكنى أبا مالكٍ.


وحتى ترى قدر الشعر في إثارة النعرات، وأنه الوقود الجزل للعصبيات، فانظر ما أشعل بين قيس ويمن إبَّانَ دولة بني أمية. وإن كثيرها لمسبّةٌ وعار في المسلمين، إذ لا زال الإسلام جذعاً طرياً، وكَدَرُ الجماعة خير من صفوِ الفرقة، ولكنها العرب العرباء! قال نهار بن توْسعة:




أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا هتفوا ببكر أو تميمِ

ثم اسمع ما جناه الأخطل على قومه ببيتِ شعر كارثيّ! ففي سنة ثلاث وسبعين بعد مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما؛ هدأ الناس واجتمعوا على عبد الملك بن مروان، وتكافَّتْ قيسٌ وتغلب عن المغازي والإغارات الهمجية بينهما بالشام والجزيرة، وظنَّ كل واحد من الفريقين أن عنده فضلاً لصاحبه، وتكلم عبد الملك في ذلك ولم يحكم الصلح فيه، وليته فعل، فبينا هم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان وعنده وجوه قيس وفيهم الجحَّاف بن حكيم قوله المشؤوم:


 

فتساقطت تمرات كُنّ في يد الجحَّاف فوثب يجر مطرفه، والشرر يتطاير من عينيه، والغضب يفور من أردانه، وقبض وجهه في وجه الأخطل ثم قال:

نعم سوف نبكيهم بكل مهنَّدٍ= وننعى عميراً بالرَّماح الشواجرِ


يعني عمير بن الحباب السلمى. ثم قال: لقد ظننت يا بن النصرانية أنك لم تكن لتجترئ عليّ ولو رأيتني مأسوراً. وأوعده. فمازال الأخطل من موضعه حتى حُمَّ، ورب قول أنفذُ من صول. فقال عبد الملك للأخطل: ما أحسبك إلا قد كسبت قومك شراً!


فصاح الجحَّافُ في قومه ولم يخبرهم بنيّته، فصحبه ألف فارس، فثار بهم حتى بلغ الرَّصافة في العراق، ثم كشف لهم أمره وأنشدهم شعر الأخطل، وقال: لهم إنما هي النار أو العار فمن صبر فليُقدم ومن كره فليرجع! _عياذاً بالله من تقحُّمِ حفائر النار على بصيرة_ فقالوا بكل حميّة جاهلية: ما بأنفسنا عن نفسك رغبة، ونحن معك فيما كنت فيه من خير وشر. فأغاروا على بني تغلب ليلاً فقتلوهم وبقروا من النساء من كانت حاملاً، ومن كانت غير حامل قتلوها! وزعموا أن الجحّاف _وله من اسمه نصيبٌ كَدِرٌ_ صعد الجبل وجعل ينادي: من كانت حاملاً فإليّ، فصعدن إليه فجعل يبقر بطونهن! _عائذاً بربي من الغدر، ومن قلب لا يرحم، ويُنصبُ لكل غادرٍ لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان_. وقالت امرأة من بني تغلب للجحاف: فضّ الله عمادك، وأكبى زنادك، وأطال سهادك، وأقل زادك، فوالله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دمي وأعاليهن ثدي! فقال لمن حوله: لولا أن تلد مثلها لاستبقيتها وأمر بقتلها. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: إنما الجحاف جذوة من نار جهنم.


والعرب لم تعهد مثل جريمته، بل كانت تأنف منها وتعيب وتعيِّر من فعلها مهما كان حال عدوِّه. فجريمته سُبَّةٌ فيه وفي قومه الذين كرعوا في حمأته! وقد ضربتْ به المثل في الفتك فقالت: أفتك من الجحاف!


وأُسِرَ الأخطلُ وعليه عباءة وسخة، فظنّ الذي أسره أنه عبد، فسأله عن نفسه، فقال: عبد، فأطلقه، فرمى بنفسه في جُبٍّ مخافة أن يراه من يعرفه فيقتله. وقد قتلوا ابنه.


ثم إن الجحاف هرب بعد فعله وفرّق عنه أصحابه ولحق بالروم، وقال في ذلك:




فإن تَطْرُدوني تطردوني وقد مضى
من الوِرْدِ يومٌ في دماء الأراقمِ
لدن ذَرَّ قرنُ الشمس حتى تَلَبَّسَتْ
ظلاماً بركض الْمُقْرَبَات الصلادِمِ


وطلبه عبد الملك والأخطل يستثيره باكياً قومه في البِشْرِ _وهو موضع ماء_ بقوله:


 

فقال عبد الملك حين أنشده هذا: فإلى أين يا بن النصرانية؟ قال: إلى النار! قال: أولى لك لو قلت غيرها. ولعل الأخطل أراد إحفاظ عبد الملك بالتلميح برحيلهم عن مملكته لضعفه وعجزه عن حماية رعاياه.


فلبث الجحاف زمناً حتى سكن غضب عبد الملك، وكلمته القيسية في أن يؤمنه فأمّنه، فأقبل فلما قدم على عبد الملك لقيه الأخطل فقال له الجَحّاف بكلّ صلفٍ وإثم:



فزعموا أن الأخطل قال له: أراك والله شيخ سوء. واقنصها جرير فقال:


 

فقال الأخطل: ما لجرير لعنه الله؟! والله ما سمتني أمي دوبلا إلا وأنا صبي صغير، ثم ذهب ذلك عني لما كبرت.


ورأى عبد الملك أنه إن تركهم على حالهم لم يُحْكِمِ الأمر، فأمر الوليد بن عبد الملك فحمل الدماء التي كانت قبل ذلك بين قيس وتغلب، وضمَّنَ الجحَّافَ قتلى البِشْرِ، وألزمه إياها عقوبة له، فأدّى الوليد الحمالات، ولم يكن عند الجحاف ما تحمَّل، فلحق بالحجاج في العراق يسأله ما حمل لأنه من هوازن، فسأل الإذن على الحجاج فمنعه. فلقي أسماء بن خارجة فعصب حاجته به فقال: إني لا أقدر لك على منفعة، قد علم الأمير بمكانك وأبى أن يأذن لك. فقال: لا والله لا أُلْزِمُهَا غيرَك، أَنْجَحَتْ أو أَكْدَتْ. فلما بلغ ذلك الحجاج قال: ما له عندي شيء، فأبلِغْهُ ذلك. فقال: وما عليك أن تكون أنت الذي تؤنسه فإنه قد أبى، فأذن له، فلما رآه قال: أعهدتني خائناً لا أبا لك؟! فأجابه وقد اصطاد سويداء إعجابه بنفخ فخره بمدحه: أنت سيِّدُ هوازن، وقد بدأنا بك، وأنت أمير العراقين، وابن عظيم القريتين، وعمالتك في كل سنة خمسمائة ألف درهم، وما بك بعدها حاجة إلى خيانة. فقال: أشهدُ أن الله تعالى وفّقَك، وأنك نظرت بنور الله، فإذا صدقت فلك نصفها العام فأعطاه، وأدّوا البقية.


ثم تَأَلَّهَ الجحاف بعد ذلك وتاب، وقصد البِشْرَ وبه بقيَّةُ الحيِّ من تغلب، وقد لبس أكفانه وقال: قد جئت إليكم أُعطي القَوَدَ من نفسي! فأراد شبابهم قتله، فنهاهم شيوخهم، وعفوا عنه. ثم استأذن في الحج فأذن له، فخرج في المشيخة الذين شهدوا معه، وأحرموا، ومشوا إلى مكة، فلما قدموا المدينة ومكة جعل الناس يخرجون فينظرون إليهم ويعجبون منهم.


وسمع ابن عمر الجحاف وقد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اغفر لي، وما أراك تفعل! فقال له ابن عمر: يا هذا لو كنت الجحاف ما زدت على هذا القول! قال: فأنا الجحاف. وسمعه محمد بن علي بن أبي طالب _ابن الحنفيّة_ وهو يقول ذلك فقال: يا عبد الله، قنوطك من عفو الله أعظم من ذنبك.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
أهم ما يرشد إليه الحديث (PDF)
Book Review: “War” by Bob Woodward – The Washington Institute