تفسير سورة البينة
تفسير سورة البِيِّنَةِ
عدد آياتها: ثماني آيات، (مدنية) عند الجمهور.
فضلها: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [البينة: 1] قال: وسمَّاني لك؟ قال: نعم، فبكى)).
مناسبة السورة لِما قبلها (سورة القدر):
قبلها في المصحف سورة القدر، والبينة هي الرسول الذي يتلو كتاب الله الذي شرَّف ليلة إنزاله، وهي ليلة القدر؛ حتى يقيم به الحُجَّةَ على من خالفه، ليحيى من حيَّ عن بيِّنة، ويهلِك من هلك عن بيِّنة.
مناسبتها لسورة الزلزلة التي بعدها:
في سورة البينة بيان جزاء الفريقين – المؤمنين خير البرية، والكافرين شر البرية – وذلك يوم القيامة؛ يوم الزلزلة، وما فيه من أهوال ومشاهدَ وردت في سورة الزلزلة.
مقاصد السورة:
(1) بيان معاندة أهل الكتاب – اليهود والنصارى – لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ظَهَرَ لهم الحق.
(2) بيان أهم عناصر الإيمان التي أُمِرَ الناس بها؛ وهي إخلاص العبادة لله، والتوجُّه إليه سبحانه في جميع الأقوال والأفعال، مائلين عن كل دينٍ يخالف دينَ التوحيد.
(3) ترهيب وتحذير أهل الكتاب والمشركين من الخلود في النار، إذا ماتوا على الكفر بالنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
(4) الإشادة بالمؤمنين الذين أطاعوا الله، وبيان رضا الله عنهم، وحُسْنِ عاقبتهم بالخلود في الجنة.
تفسير سورة البينة
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 1 – 8].
تفسير الآيات:
قوله تعالى: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 1]؛ أي: ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب؛ وهم اليهود والنصارى، ﴿ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾ [البينة: 1]؛ وهم مشركو العرب عَبَدَةُ الأوثان والأصنام، ﴿ مُنْفَكِّينَ ﴾ [البينة: 1]، وأصل الانفكاك: الانفصال والمفارقة؛ أي: مُنْتَهِين مُفارقين لكُفْرِهم، ﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 1]؛ أي: البرهان والحُجَّة، والمعنى: حتى أتاهم النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فبيَّن ضلالهم، ودعاهم إلى الإيمان.
وقيل: ﴿ مُنْفَكِّينَ ﴾ [البينة: 1]؛ أي: هالكين، والمعنى: لم يكونوا هالكين إلا بعد إقامة الحُجَّة والبينة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].
قوله تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾ [البينة: 2]؛ وهو رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ تفسيرًا للبينة.
﴿ يَتْلُو صُحُفًا ﴾ [البينة: 2]؛ يعني: القرآن، ﴿ مُطَهَّرَةً ﴾ [البينة: 2] من الشرك والكفر، ومبرَّأة من الخطأ والزَّلَلِ؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41، 42].
قوله تعالى: ﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [البينة: 3] كُتُب: يعني الآيات والأحكام المكتوبة فيها مستقيمة عادلة لا عوج فيها؛ قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4]؛ أي: ما اختلف الذين أُعْطُوا الكتاب – التوراة – في محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام، ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4] بيان ما في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5] اللام في ﴿ لِيَعْبُدُوا ﴾ بمعنى أن؛ كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [النساء: 26].
وقوله تعالى: ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: بالتوحيد وتجريد العبادة لله وحده، وفيه دليل على وجوب النية في العبادات، و”حنفاء”: جمع حنيف؛ وهو المائل إلى الحق؛ أي: إلى الإسلام.
قوله تعالى: ﴿ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: يُتِمُّوا الصلوات الخمس بعد التوحيد، ﴿ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البينة: 5] يُعطُوا زكاة أموالهم، وقوله تعالى: ﴿ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]: دين الحق المستقيم لا عِوَجَ فيه؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6]: دليلٌ على كُفْرِ أهل الكتاب؛ وهم اليهود والنصارى، وكذا كفر المشركين الذين عبدوا غير الله كالأوثان والأصنام، وفيه ردٌّ على من قال بنجاة اليهود والنصارى من النار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وأخرج مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ، ولا نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلت به، إلا كان من أصحاب النار)).
قوله تعالى: ﴿ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6]، في نار جهنم يوم القيامة لا يخرجون منها، و”شر البرية” أي: أشد الخليقة شرًّا، وبرأ؛ أي: خلق، والبارئ: الخالق، والبرية: الخليقة.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 7]؛ أي: إن المؤمنين بالله ورسله وبما بُعِثوا به، والذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ﴿ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 7]؛ أي: هم خير الخلق.
قوله تعالى: ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]؛ أي: ثوابهم عند الله جناتُ عدنٍ يدخلونها، يتمتعون ويُنعَّمون بأنهارها ونعيمها، و”عدن” أوسط الجنات.
وقوله تعالى: ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البينة: 8]؛ أي: تسيل من تحت أشجارها وقصورها الأنهارُ؛ الماء واللبن، والخمر والعسل، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [البينة: 8]؛ أي: لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وذَكَرَ التأبيد لتأكيد الخلود.
وقوله تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]؛ أي: رضِيَ الله عنهم بطاعتهم واستقامتهم على ما شرع سبحانه، ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]؛ بقضائه وثوابه على الإيمان والعمل الصالح.
وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]؛ أي: ذلك الثواب المذكور وهو الخلود في جنات عدن ورضا الله تعالى لمن خشِيَ ربَّه، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيَّات.
انتهى تفسير سورة البينة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.