تفسير سورة الانشقاق
سُورَةُ الاِنْشِقَاقِ
سُورَةُ (الِانْشِقَاقِ): مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ[1]، وَآيُهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً[2].
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمائِهَا: سُورَةُ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، وَسُورَةُ الانْشِقَاقِ، وَسُورَةُ (انْشَقَّتْ)[3].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
حَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَثيرَ مِنَ الْمَقاصِدِ وَالْمَعانِي الْعَظيمَةِ، وَمِنْ ذَلِكِ[4]:
• بَيانُ حَالِ الأَرْضِ وَالسّمَاءِ في طَاعَةِ الخَالِقِ تَعَالَى، وَإِخْراجِ الْأَمْواتِ لِلْبَعْثِ.
• الإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُحْصَاةٌ، وَبَيَانُ جَزَاءِ الْأعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا.
• ذِكْرُ سُهولَةِ الحِسَابِ لِلْمُطيْعِيْنَ، وَشِدَّتِهِ عَلَى الْكَافِرينَ الْمُعانِدِينَ.
• الْقَسَمُ بِتَشَقُّقِ الْقَمَرِ.
• اطِّلَاعُ الْحَقِّ عَلَى الْإِسْرارِ وَالإِعْلانِ.
مِنْ فَضَائِلِ السُّورَةِ:
جَاءَ في فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
أولًا:مَا وَرَدَ عَنْ أَبِيْ رَافِعٍ قالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ: ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت ﴾؛ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ»[5]، وفي هذا مَشْروعِيَّةُ سَجْدَةِ التِّلاوَةِ عِنْدَ قِراءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ.
ثانيًا:مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق:7-8]؟ قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ؛ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ»[6]، وَفِيْ هَذَا بَيَانُ مَعْنى الْحِسابِ الْيَسِيرِ الَّذِي يُلاقِيهِ الْمُؤمِنُ في يَوْمِ الْقيامَةِ.
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت ﴾، أَيْ: تَصَدَّعَتْ وَتَفَطَّرَتْ بِالغَمَامِ[7] يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ﴾ [الفرقان:25]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَت ﴾ [المرسلات:9].
قَوْلُهُ: ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ﴾، أَيْ: سَمِعَتْ وَأَطاعَتْ فِي الِانْشِقاقِ[8]، ﴿ وَحُقَّت ﴾، أَيْ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ، وَتَنْقادَ لِأَمْرِهِ[9].
قَوْلُهُ: ﴿ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت ﴾، أَيْ: بُسِطَتْ ووُسِّعَتْ، وَأُزيلَ جِبَالُها وَآكَامُهَا، وَجُعِلَتْ مُسْتَوِيَةً[10].
قَوْلُهُ: ﴿ وَأَلْقَتْ ﴾، أَيْ: أَخْرَجَتْ، ﴿ مَا فِيهَا ﴾، أَيْ: مَا فِي جَوْفِها مِنَ الْأَمْواتِ، ﴿ وَتَخَلَّت ﴾، أَيْ: وَخَلَتْ مِنْ ذَلِكَ خُلُوًا تَامًّا، فَلَمْ يَبْقَ في جَوْفِها أَحَدٌ[11].
قَوْلُهُ: ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ﴾، أَيْ: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ لِرَبِّها في الإِلْقاءِ وَالتَّخَلِّي[12]، ﴿ وَحُقَّت ﴾، أَيْ: وَحُقَّ لَها أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ، وَتَنْقَادَ لِأَمْرِهِ[13].
وَجَوَابُ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت ﴾ وَما بَعْدَهُ: مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: إِذا حَدَثَ كُلُّ ما ذُكِرَ مِنْ أَهْوالٍ.. قَامَتِ الْقِيامَةُ، وَوَجَدَ كُلُّ إِنسانٍ ما قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى في سُورَةِ التَّكويرِ: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَت ﴾ [التكوير:14]، وَقالَ تَعَالَى في سورَةِ الانْفِطارِ: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت ﴾ [الانفطار:5][14].
وَقيلَ: جَوابُها: مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ فَمُلاَقِيه ﴾، أَيْ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ لَاقَى الإِنْسَانُ كَدْحَهُ[15].
قَوْلُهُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ﴾، أَيْ: سَاعٍ وَجَاهِدٌ فِي عَمَلِكَ[16]، ﴿ إِلَى ﴾ لِقَاءِ ﴿ رَبِّكَ ﴾ وَهُوَ الْمَوْتُ[17]، ﴿ كَدْحًا فَمُلاَقِيه ﴾، أَيْ: مُلَاقٍ رَبَّكَ بعَمَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يَوْمَ القِيامَةِ وَمُجَازِيكَ[18].
قَوْلُهُ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ﴾، أَيْ: كِتَابَ عَمَلِهِ، ﴿ بِيَمِينِه ﴾، وهُوَ الْمُؤْمِنُ[19].
قَوْلُهُ: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾، أَيْ: سَهْلًا لَا يُناقَشُ فِيهِ[20]، كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق:8]؟ فَقَالَ: لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ»[21] [22].
قَوْلُهُ: ﴿ وَيَنقَلِبُ ﴾، أَيْ: يَرْجِعُ بَعْدَ الْحِسابِ الْيَسيرِ، ﴿ إِلَى أَهْلِهِ ﴾، أَيْ: في الجَنَّةِ، ﴿ مَسْرُورًا ﴾، أَيْ: فَرِحًا بِدُخولِهِ الْجَنَّةَ وَنَجاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ[23].
قَوْلُهُ: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ﴾، أَيْ: صَحِيفةَ أَعْمالِهِ[24]، ﴿ وَرَاء ظَهْرِه ﴾، وَهُوَ الْكَافِرُ -وَالْعِياذُ بِاللهِ-، وَفي سُورَةِ الحاقَّةِ: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾ [الحاقة:25]؛ فَيَحْتَمِلُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنْ يُؤْتَى بِشِمَالِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ[25].
قَوْلُهُ: ﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴾، الثُّبورُ: الْهَلاكُ[26]، فَهَذَا الْكَافِرُ الَّذِي أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ مِنْ وَراءِ ظَهْرِهِ يَتَمَنّى الْهَلاكَ وَيَقُولُ: يَا ثُبُوراهُ، وَكَمَا في الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾ [الفرقان:13][27].
قَوْلُهُ: ﴿ وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾، أَيْ: وَيَدْخُلُ نَارًا مُسْتَعِرَةً مُتَوَقِّدَةً، كَما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه ﴾ [الحاقة:31][28].
قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ ﴾، أَيْ: في الدُّنْيا، ﴿ مَسْرُورًا ﴾، أَيْ: بَطِرًا بِالْمَالِ وَالْجاهِ، مُتَّبِعًا لِهَواهُ، فارِغًا عَنِ الْآخِرَةِ[29].
قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ ﴾، أَيْ: تَيَقَّنَ، ﴿ أَن لَّن يَحُور ﴾، أَيْ: أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إلى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَلَا يُؤْمِنُ بِالْجَزاءِ وَلَا بِالْحِسابِ[30].
قَوْلُهُ: ﴿ بَلَى ﴾، أَيْ: لَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَيْنَا وَيُبْعَثُ وَنُجازِيهِ[31]،﴿ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾، أَيْ: عَالِمًا بِأَعْمَالِهِ، فَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا[32].
قَوْلُهُ: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾، (لَا): زائِدَة لِتَوْكيدِ الْقَسَمِ، أَيْ: أُقْسِمُ[33]،﴿ بِالشَّفَق ﴾، وَهْوَ الْحُمْرَةِ الَّتِي تُرَى في أُفُقِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ[34].
قَوْلُهُ: ﴿ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَق ﴾، أَيْ: وَمَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ[35].
قَوْلُهُ: ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَق ﴾، أَيْ: اكْتَمَلَ وَتَمَّ بَدْرًا[36].
قَوْلُهُ: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ ﴾، أَيْ: لَتُنْقَلَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسْانُ، ﴿ طَبَقًا عَن طَبَق ﴾، أَيْ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، مِنَ النُّطْفَةِ إِلى الْعَلَقَةِ، إِلَى الْمُضْغةِ، إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ، إِلَى الْمَوْتِ، إِلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا يُقْضى بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِن جَنَّةٍ أوْ نَارٍ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الدَّوامُ وَالْخُلُودُ، إِمَّا في دَارِ الثَّوابِ أَوْ في دَارِ الْعِقَابِ[37]، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق ﴾: «حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ هَذَا نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم»[38].
قَوْلُهُ: ﴿ فَمَا لَهُمْ ﴾، أَيْ: الكُفَّارِ، ﴿ لاَ يُؤْمِنُون﴾، أَيْ: بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ[39]، مَعَ وُجُودِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَراهِينِ الَّتي تَدْعُوهُمْ إِلىَ الْإِيمَانِ بِهِ[40].
قَوْلُهُ:، ﴿ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون ﴾ أَيْ: لِتِلاوَتِهِ[41].
قَوْلُهُ: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُون ﴾، أَيْ: يُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَبِما جاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوابِ وَالْعِقابِ[42].
قَوْلُهُ: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُون ﴾، أَيْ: بِما يُضْمِرُونَ في صُدُورِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالْعَداوَةِ وَالْعِنَادِ وَالتَّكْذيبِ مَعَ عِلْمِهِم بِأَنَّ مَا جَاءَ بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ حَقٌّ[43].
قَوْلُهُ: ﴿ فَبَشِّرْهُم ﴾، أَيْ: أخْبِرْهُمْ أَيُّها الرَّسُولُ، ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيم ﴾، أَيْ: مُؤْلِمٍ؛ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَعَداوَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ[44].
قَوْلُهُ: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ﴾، أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ[45]، وهُوَ الْجَنَّةُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب ﴾ [غافر:40].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْآيَاتِ:
بَيَانُ حَالِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت ﴾ [الانشقاق:1-5]: أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحْصُلُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ؛ منها:
أولًا: تَنْشَقُّ السَّماءُ وَتَتَفَطَّرُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَحُقَّ لَها أَنْ تَسْمَعَ وَتُطيعَ خَالِقَهَا وَمُدَبَّرَ أَمْرِهَا.
ثانيًا: تَمْتَدُّ الْأَرْضُ وَتَزيدُ مِنْ سعَتِها، وَيَتَطايَرُ مَا عَلَيْها مِنْ جِبَالٍ وَأَبْنِيَةٍ، وَيُلْقَى مَا في بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي ذَلَّ كُلُّ مَنْ في الْكَوْنِ لِعَظَمَتِهِ[46].
الدُّنْيَا دَارُ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه ﴾ [الانشقاق:6]: أَنَّ الْإِنْسَانَ سَاعٍ إِلى اللهِ تَعَالَى وَعَامِلٌ في هَذِهِ الدُّنْيَا إِمَّا خَيْرًا وَإِمَّا شَرًّا، ثُمَّ يُلَاقِي اللهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيُجازيهِ عَلَى عَمَلِهِ[47].
أَهَمِيَّةُ اسْتِشْعَارِ خَوْفِ اللهِ وَمُلَاقَاتِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه ﴾ [الانشقاق:6]: بَيانُ أَنَّ أَهَمَّ شَيْءٍ يُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيةِ خَوْفُ اللهِ عز وجل، وَمَنِ اسْتَشْعَرَ دائِمًا هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَّدَهَا آمَنَ وَأَيْقَنَ بِأَنَّ أَيَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فَإِنَّهُ سَيْلَاقِي بِهِ اللهَ تَعَالَى، وَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلى فِعْلِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي.
يَنْبَغِيْ لِلْإِنْسَانِ الاِشْتِغَالُ وَالْكَدْحُ بِطَاعَةِ اللهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ﴾ [الانشقاق:6]: أَنَّ الْكَدْحَ لِلْإِنْسانِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ حَاصْلٌ لَا مَحَالَة، فَقالَ: ﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ ﴾، وَلَمْ يَقُلْ: اكْدَحْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ في طَاعَةِ اللّهِ، فَلْيَفْعَلْ. قَالَ قَتَادَةُ: “إِنَّ كَدْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ لَضَعيفٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ في طَاعَةِ اللهِ فَلْيَفْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ”[48].
تَقْرِيْرُ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ تَعَبٍ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه ﴾ [الانشقاق:6]: دَليلٌ عَلَى أَنَّ الدُّنيَا دارُ عَناءٍ وَتَعَبٍ، وَلَا راحَةَ وَلا فَرَحَ فيهَا[49].
الْمُؤْمِنُ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق:7-9]: أَنَّ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمينِهِ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذي يَحْظَى بِالْحِسَابِ الْيَسِيرِ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ في الْجَنَّةِ مَسْرُورًا ِبِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوابِ.
كُلُّ النَّاسِ مُحَاسَبُونَ حَتَّى أَصْحَاب الْيَمِينِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق:8]: أَنَّ كُلَّ إِنْسانٍ مُحاسَبٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ حَتَّى أَصْحُابَ الْيَمينِ، وَإِنْ كانَ حِسَابًا يَسيرًا، فَعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»[50].
بيَانُ حَاجَة الْإِنِسَانِ لِأَهْلِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق:9]: أَنَّ الْإنْسَانَ مُحْتاجٌ إِلى أَهْلِهِ، وَأنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنْهُمْ بِحالٍ، يَأْوِي إِلَيْهِمْ وَيَأْنَسُ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لِلْمُؤْمِنِ أَهْلونَ، تَكْمُلُ بِهِمْ فَرْحَتُهُ، وَيَتَحَقَّقُ مَعَهُمْ أُنْسُهُ، كَما في حَدِيثِ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرْيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا»[51].
التَّفْرِيقُ بَيْنَ السُّرُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْجَائِزِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق:13]: بَيَانُ أَنَّ السُّرورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ في الدُّنْيَا هُوَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَاتِّباعِ الْهَوَى[52]، أَمَّا إِذَا كانَ السُّرورُ في مُقابِلِ نِعْمَةِ التَّوْفيقِ لِطَاعِةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَوْ قُرْبَةٍ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَهُوَ مَأْمورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ [يونس:58][53].
ذِكْرُ بَعْض أَسْبَابِ الْخُسْرَانِ فِي الْآخِرَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق:10-15]: أَنَّ سَبَبَ خَسَارَةِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَإِعْطَائِهِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ -وَالْعِياذُ بِاللهِ- هُوَ: البَطَرُ في الدُّنْيَا، وَإِنْكَارُ الْمَعَادِ وَالْحِسَابِ وَالْجزَاءِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُ فِيهِ النَّدَامَةُ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق:11-12]: أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْحَسْرَةِ وَالنَّدامَةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوانِ.
مِنْ حِكَمِ إِمْهَالِ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق:15]: أَنَّ الإِمْهَالَ وَالاِسْتِدْرَاجَ لِلْكَافِرِينَ وَالظَّالِمَينَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَياةِ الدُّنيَا؛ لِحَكَمٍ بَالِغَةٍ أَرَادَها اللهُ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ:
أولًا:الِازْدِيادُ مِنَ الْإثْمِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين ﴾ [آل عمران:178].
ثانيًا: إِقَامَةُ الْحُجَّةِ وَالتَّحَقُّقُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنَّ للهِ مَوْعِدًا لَنْ يُخْلِفَهُ، كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ﴾ [الكهف:59].
ثالثًا: إِظْهَارُ عَظَمَة ِكَيْد اللهِ تَعَالَى بِالظَّالِمينَ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين ﴾ [القلم:45].
رابعًا: إِعْطاءُ الظَّالِمِينَ حَقَّهُمْ مِنَ الإِمْهالِ رَجَاءَ تَوْبَتِهِمْ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالْعَذابِ، كَمَا في حَدِيْثِ أَبي مُوْسَىْ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد ﴾ [هود:102]»[54].
دَلَالَاتُ قَسَمِ اللهِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَق * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَق * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَق ﴾ [الانشقاق:16-18]: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِما يَشاءُ مِنْ مَخْلوقاتِهِ، وَقد أَقْسَمَ اللهُ بِأَشْيَاء مُتَنَوِّعة، وذلك يَدُلُّ عَلَى مَا يَلِي:
أولًا: أَنَّهَا مِنْ آيَاتِهِ وَأَدِلَّةِ تَوْحِيدِهِ، وَبَراهِينِ قُدْرَتِهِ، وَبَعْثِهِ الأَمْواتَ، وَإِقْسامُهُ بِهَا تَعْظيمٌ لَهُ سُبْحانَهُ.
ثانيًا: تنْبيهٌ لِلنَّاسِ إِلى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ أَدِلَّةِ وَحْدانِيَّتِهِ، وأَدلَّةِ عَظيمِ قُدْرَتهِ، وَتَمامِ رُبوبِيَّتِهِ.
ثالثًا: أَنَّها مِنْ تمامِ إِقامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عِبادِهِ، حَيْثُ أَقْسَمَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمَخلوقَاتِ الْعَظيمَةِ؛ لِيَلْتَفِتُوا إِلى جَلَالِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ الْمُقْسَمِ بِهِ دَليلًا عَلَى الْمُقسَمِ عَلَيْهِ.
قالَ شَيْخُ الِإسْلامِ رحمه الله: “إِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ، فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ”[55].
تَاْكِيْدُ القَسَمِ في هَذِهِ السُّورةِ وَجَوَابُهُ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَق * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَق * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَق ﴾ [الانشقاق:16-18]: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْسَمَ قَسَمًا مُؤَكَّدًا بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اكْتَمَلَ؛ عَلَى أَنَّ الإِنْسانَ سَيُلَاقِيْ الصِّعابَ تِلْوَ الصِّعابِ، وَسَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ، إِلَى أَنْ يَلْقَى رَبَّهُ وَيُجازِيَهِ عَلَى عَمَلِهِ، إِمَّا بِدُخُولُ الْجَنَّةِ وَإِمَّا بِدُخُولِ النَّارِ، وَجَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ الْمُؤَكَّد: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق ﴾ [الانشقاق:19][56].
أَخْذُ الْعِبْرَةِ مِنْ تَقَلُّبَاتِ اللَّيْلِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَق * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَق * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَق ﴾ [الانشقاق:16-18]: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ الْعِبْرَةَ وَالْعِظَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ انْتِهاءِ اللَّيْلِ بِالشَّفقِ وَاللَّيْلِ وَما جَمَعَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اكْتَمَلَ؛ لِأَنَّ هَذا التَّغَيُّرَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الْمُرَادُ بِالشَّفَقِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَق ﴾ [الانشقاق:16]: اخْتَلَفَ الْعُلمَاءُ في الْمُرَادِ بِالشَّفَقِ، وَوَقْتِ دُخُولِ صَلاةِ العِشَاءِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الشَّفَقُ هُوَ الْحُمْرَةُ. وَهَذا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ[57]، وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلَمِ[58]، وَهذا هُوَ الرَّاجِحُ. فَإِذَا غَابَتِ الْحُمْرَةُ خَرَجَ وَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، وَدَخَل وَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَاسْتَدَلُّوا بِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا: أَنَّ الْمَشْهُوْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ بَعْدَ الْغُروبِ، وَهُوَ مَشْهورٌ في شِعرِهِمْ ونَثْرِهِمْ[59].
القَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْبَياضُ الَّذِي بَعْدَهُ. وَهَذا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله [60].
إِصْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون ﴾ [الانشقاق:20]: التَّعَجُّبُ مِنْ حالِ هَؤُلاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ قامَتْ أَمَامَهُمُ الْأَدِلَّةُ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَدَمِ خُضوعِهِمْ وَسُجودِهِمْ عِنْدَ تِلاوَةِ الْقُرآنِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِيْنِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ.
مَشْرُوْعِيَّةُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون ﴾ [الانشقاق:21]: أَنَّ مِنْ آدَابِ التِّلاوَةِ أَنْ يَسْجُدَ الْقَارِئُ وَالْمُسْتَمِعُ دُونَ السَّامِعِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ سَجْدَةٍ في أَيِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَقدْ قِيْلَ بِوُجُوبِ سُجُودِ التِّلاوَةِ، وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ.
وَصِفَةُ سَجْدَةِ التِّلاوَةِ: أَنْ يُكَبِّرَ لِلسُّجَودِ وَيَقُول: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعَلَى، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ، ثُمَّ يَرْفَعُ مِنَ السُّجودِ مُكَبِّرًا وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمينِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأفْضَلُ. وَإِنْ رَفَعَ مِنَ السُّجودِ دُونَ تَكْبيرٍ وَلا سَلامٍ فَلَا حَرَجَ[61].
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ في حُكْم سُجودِ التِّلاوَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ ذَلِكِ واجِبٌ مُطْلَقًا، أَيْ: في الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ الحَنَفِيَّةُ[62]، وَأحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ[63]، وَاخْتَارَها ابْنُ تَيْمِيَّةَ[64].
وَاستَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ،مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:. ﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون *﴾ ووَجْهُ الدَّلالَةِ: أَنَّ اللهَ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الذَمَّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَنُوقِشَهَذَاالاْسْتِدْلالُ: بِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ في ذَمِّ الْكُفَّارِ وَتَرْكِهِمُ السُّجُودَ اسْتِكْبَارًا، بِدَلِيلِ مَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْوَعيدِ الَّذي لَا يَسِتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ التِّلاوَةِ[65].
ومن الأدلة أيضًا: حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -وَفِي رِوَايَةِ: يَا وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّار»[66]. وَنُوقِشَهَذَاالاِسْتِدْلَالُ: بِأَنَّ هَذا حِكايَةُ قَوْلِ إِبْلِيسَ، وَلَوْ سُلِّمَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ، فَقَدْ وَرَدَ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْوُجوبِ كَمَا سَيَأْتِي.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُنَّةٌ مُطْلَقًا، أَيْ: في الصَّلَاةِ وَخارِجَهَا. وَهَذا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ[67].
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلّةٍ، مِنْهِا: حَديثُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ رضي الله عنه «قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَالنَّجْمِ ﴾ [النجم:1] فَلَمْ يَسْجُدْ فيهَا»[68]، وَوَجْهُ الدَّلالَةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّجودُ وَاجِبًا لَسَجَدَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهِ زَيْدًا.
ومن الأدلة أيضًا: مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بِنِ الْخطّابِ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه»[69].
واخْتَلَفَ الْعلماءُ رحمهم الله أيضًا في حُكْمِ السُّجودِ في سُوَرة الانْشِقَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ -كالنَّجْمِ وَالْعَلَقِ- عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوّلُ: أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ مِنْ عَزائِمِ السُّجُودِ، وَهَذا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنابْلَةِ[70]، وَبِهِ قُالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ[71]، وَهُوَ الرّاجِحُ.
وَاستَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: حَديثُ أَبي رَافِعٍ قالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ»[72]. وكذلك استدلوا: بحَديث أَبِي هُريرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّت ﴾ وَ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾»[73]. واسْتَدَلُّوْا أيضًا: بحَدِيث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ»[74].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ لَيْسَتْ مِنْ عَزائِمِ السُّجودِ، فَلا سُجُودَ فِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهورِ عَنْهُ، وَهِوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَقالَ بِهِ الشّافِعِيُّ فِي الْقَدِيِمِ[75].
وَأَقْوَىْ أَدِلَّتِهِمْ: حَديثُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ رضي الله عنه قالَ: «قَرَأتُ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم…: ﴿ وَالنَّجْمِ ﴾ [النجم:1]؛ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا»[76]. وَأُجيبَ عَنْ هَذا: بِأَنَّ كَوْنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ السُّجودِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوازِ التَّرْكِ. وَيَحْتَمِلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ السُّجُودَ؛ لِأَنَّ زَيْدًا وَهُوَ الْقَارِئُ لَمْ يَسْجُدْ، وَلَوْ سَجَدَ لَسَجَدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالسُّجُودِ في (الاِنْشِقَاقِ): في مَوْضِعِ السَّجْدَةِ مِنَ السُّورَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنّهُ عِنْدَ آخِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون ﴾ [الانشقاق:21]. وَهَذا قَوْلُ الْحَنابِلَةِ[77] وقَوْلُ الْجُمْهورِ[78]؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِذِكْرِ السُّجُودِ.
الْقَوْلُ الثّانِي: أَنَّهُ عِنْدَ آخِرِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ﴾ [التين:6]. وَذَهَب إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ[79]،وَلَمْ أعْثُرْ عَلَى دَليلٍ لِهَذا الْقَوْلِ.
التَّحْذِيرُ مِنَ الْكَذِبِ وَشُؤْمِهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُون ﴾ [الانشقاق:22]: ذِكْرُ صِفَةِ الْكَذِبِ، وَهَذِهِ الصَّفَةُ فِيهَا دَلَالَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ سَجِيَّةَ الْكُفَّارِ وَطَبِيعَتَهُمُ التَّكْذِيبُ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جاءَ بِهِ؛ لِأنَّ اللهَ تَعَالَى قالَ: ﴿ يُكَذِّبُون ﴾، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ يُفْيدُ الاِسْتِمْرارَ وَالتَّجَدُّدَ.
الثَّانِيَةُ: أَنّ تَكْذِيبَ الْكُفَّارِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَعَدَمَ خُضُوعِ قُلُوبِهِمْ لَهُ؛ كَانَ سَبَبًا في الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الَّذِي يَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
تَنَوُّعُ مَفْهُومِ الْبِشَارَةِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ وَالْحَالِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم ﴾: ذِكْرُ الْبِشَارَةِ وَالتَّبْشيرِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ؛ مِنْهَا: الأولى: تَكُونُ خَبَرًا سَارًّا -وَهُذا الْغَالِبُ في الْقُرْآنِ الْكَريمِ-، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم ﴾ [الذاريات:28].
الثانية: تَكُونُ خَبَرًا مُحْزِنًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ﴾ [النحل:58].
الثالثة: تَكونُ وَعيدًا يَنْطَوِي عَلَى التَّهَكُّمِ، كَما في الآيَةِ هُنَا: ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم ﴾؛ وَلِهَذا سُمِّيَتِ الْبِشَارَةُ بِشارَةً؛ لِأَنَّها تُؤَثِّرُ في الْبَشَرَةِ سُرُورًا أَوْ غَمًّا[80].
بِشَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ غَيْرِ الْمُنْقَطِعِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ﴾ [الانشقاق:25]: أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَشَّرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنينَ بِالْأَجْرِ غَيْرِ الْمُنْقَطِعِ أَوِ الْمَنْقُوصِ؛ نَظِيرَ اتِّبَاعِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
ضَرُورَةُ تَبْلِيغِ الْآيَاتِ لِلْكُفَّارِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:،﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُون ﴾ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ آيَاتٍ: تَوْجِيهٌ إِلَهيٌّ بِضَرُورَةِ تَبْليغِ الْآيَاتِ إِلَى الْكُفَّارِ مَهْمَا كَانَ عِنادُهُمْ، حَيْثُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى وَتِيرَةٍ واحِدَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ وَيُؤْمِنُ بِقَلْبِهِ، وَيَعْمَلُ الصّالحَاتِ بِجَوارِحِهِ.