ما حكم انتفاع المرتهن بالرهن مجانا بإذن الراهن، إذا كان الدين عن غير قرض؟
ما حكم انتفاع المرتهن بالرهن مجانًا بإذن الراهن، إذا كان الدين عن غير قرض؟
اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:
القول الأول: جواز انتفاع المرتهن بالرهن مجانًا بإذن الراهن، إذا كان الدين عن غير قرض.
وهو مذهب الحنفية،[1] والحنابلة[2].
ففي الدر المختار: “لا انتفاع به ]أي: بالرهن[ مطلقًا؛ لا باستخدام، ولا سكنى، ولا لبس، ولا إجارة، ولا إعارة، سواء كان من مرتهن، أو راهن إلا بإذن كل للآخر”.[3]
وفي المغني: “وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو أجر دار، أو دين غير القرض، فأذن له الراهن في الانتفاع، جاز ذلك “[4].
واستدلوا من السنة، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل قرض جرّ نفعًا فهو ربا”[5].
ووجه الدلالة: من جهة مفهوم المخالفة أن العقد إن كان غير قرض جاز أن يجرّ نفعًا للعاقد.
ونوقش من وجهين:
الأول: ضعف الحديث.
والثاني: أن ذكر القرض خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم مخالفة له،[6] ثم هو كذلك مفهوم لقب، ولا حجة فيه عند الأكثر. [7]
(2) واستدلوا من المعقول: بأن المرتهن إنما انتفع بالمرهون بإذن مالكه، فلا يمنع؛ فيكون كما لو وهبه هبة. [8]
ونوقش: أن ظاهر الأمر أن الراهن إنما أباح للمرتهن الانتفاع بالرهن مجانًا؛ للدين الذي عليه، فلم يكن الإذن عن طيب نفسٍ ورضا تامٍ، ولا يحل مال المسلم إلا بطيب نفسٍ منه.
القول الثاني: لا يجوز انتفاع المرتهن بالرهن مجانًا، وإن أذن الراهن، وكان الدين عن غير قرض.
وهو قول عند الحنفية،[9] ورواية لأحمد. [10]
ففي الدر المختار في الانتفاع بالمرهون عن دين غير قرض: “وقيل: لا يحل للمرتهن؛ لأنه ربا”.[11]
وفي كشاف القناع: “وذكر صاحب المستوعب: [12] أن في غير القرض روايتين”. [13]
واستدلوا من السنة، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يغلق الرهن”،[14] زاد الدارقطني والحاكم: “لصاحبه غنمه، وعليه غرمه”[15].
ووجه الدلالة: أن الحديث نصّ على أن منافع الرهن للراهن، لا يباح للمرتهن منها شيء.
ونوقش: أن إذن الراهن للمرتهن بالانتفاع يعتبر تمليكاً للمنفعة من مالكها، ولا حرج فيه[16].
(2) واستدلوا من المعقول: أن إذن الراهن للمرتهن بالانتفاع بدون عوض أذنٌ له في الربا؛ لأنه يستوفي دينه كاملاً، فتبقى له المنفعة التي استوفى فضلاً، وهذه علامة الربا[17].
ونوقش: أن الربا إنما يجري في القروض، وفي مبادلة مال ربوي بمال مثله مع الزيادة، وهذه الزيادة لم تقع عن دين قرض، ولا عن معاوضة مثلية.
وأجيب: بأن سائر الديون لازمة كالقروض، والانتفاع بالرهن في البيع المؤجل انتفاع في مقابلة الأجل؛ فيكون كالانتفاع في القرض[18].
ويجاب: بأن بينهما فروقًا سبق بيانها، وسبق جواز الزيادة في مقابل الأجل في البيع[19].
القول الثالث: إذا كان إذنُ الراهن للمرتهن بالانتفاع شرطًا في العقد لم يجز، وإن لم يكن جاز.
وهو قول عند الحنفية[20].
ففي الدر المختار في الانتفاع بالمرهون عن دين غير قرض: “وقيل: إن شرطه كان ربا، وإلا لا “[21].
واستدلوا: بالجمع بين أدلة القولين السابقين.
ونوقش: أن هذا الانتفاع – وإن لم يذكر في صلب العقد – يكون في العادة مما تواطأ العاقدان عليه، والتواطؤ كاللفظ، “والغالب من أحوال الناس أنهم إنما يريدون عند الدفع الانتفاع، ولولاه لما أعطاه الدراهم، وهذا بمنـزلة الشرط؛ لأن المعروف كالمشروط، وهو مما يُعين المنع”[22].
القول الرابع: يجوز انتفاع المرتهن بالرهن مجانًا بإذن الراهن، وإن كان الدين عن غير قرض، بشرطين: أن تُبين مدّة المنفعة، وأن يشترط الانتفاع في صلب العقد.
وهو مذهب المالكية،[23] والشافعية،[24] وكرهه مالك في الحيوان والثياب.
ففي الذخيرة: “إذا شرط المرتهن منفعة الرهن، والدين قرض امتنع؛ لأنه قرض للنفع، أو من بيع، وشرط للراهن أجلاً معينًا جاز في الدور والأرضين، وكُره في الحيوان والثياب؛ إذ لا يدري كيف ترجع إليه، قاله مالك، وأجاز ذلك كله ابن القاسم”[25].
وفي نهاية المحتاج: “وإن نفع الشرط المرتهن، وضرّ الراهن؛ كشرط منفعته من غير تقييد للمرتهن بطل الشرط… نعم لو قيدّها بسنة مثلاً، وكان الرهن مشروطًا في بيع، فهو جمع بين بيع وإجارة، فيصحان”[26].
واستدلوا: أن انتفاع المرتهن بالرهن بهذين الشرطين يعتبر جزءًا من الثمن، فالمسمّى بعض الثمن، وبعضه الآخر ما اشترطه من منفعة الرهن، ويكون في ذلك قد جمع بين البيع والإجارة، وهو جائز[27].
• وإنما كرهه الإمام مالك في الحيوان والثياب لعدم معرفة الراهن كيفية انتفاع المرتهن منها، وأجازه ابن القاسم؛ لأنها جهالة يسيرة[28].
ونوقش: أن محل الخلاف ليس في انتفاعٍ له حظّ من الثمن، بل في انتفاع ليس له مقابل (مجانًا)، أو بعوض غير مكافئ له[29].
القول المخـتار:
عدم جواز انتفاع المرتهن بالرهن مجانًا، وإن أذن الراهن، وكان عن غير قرض؛ للاعتبارات التالية:
أولاً: أن فيه استغلالاً لحاجة الراهن، والغالب أنه ما قِبل هذا التبرع إلا في مقابل حصوله على الدين، فلم يتحقق الرضا، خصوصًا إذا كان الدين عن بيع مؤجل بثمن المثل.
ثانيًا: أن الديون سواء في أحكامها في الجملة:
أ- فكما لا تصح زيادة الدين بعد ثبوته، ولو عن غير قرض.
ب- ولا تصح الهدية للغريم، ولو عن غير قرض، قال البهوتي: “تنبيه: فرّق المصنف هنا (أي في هذه المسألة التي نحن بصددها) كأكثر الأصحاب بين القرض وغيره من الديون، وتقدم في القرض أن كل غريم كالمقترض في الهدية ونحوها، فمقتضاه عدم الفرق هناك، وذكر صاحب المستوعب: أن في غير القرض روايتين”[30].
وفي البخاري عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال لأبي بردة: “إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قتٍ فلا تأخذه؛ فإنه ربا”؛[31] فجعل رضي الله عنه محل المنع تعلق حق الشخص بذمة الغير، وأطلق هذا الحق؛ فسواء كان من قرضٍ أو من غيره فالحكم سواء، مادام أنه في مجتمع غلب فيه التعامل بالربا.
ج- لم يصح كذلك اشتراط الانتفاع بالدين – ولو عن غير قرض – مقابل الأجل مستقلاً عن العين؛ إذ الأجل له قسطٌ من الثمن إذا كان تابعًا للسلعة، لا مستقلاً عنها، كعوضٍ بذاته.
ثالثًا: أن المقاصد معتبرة ومؤثرة، فهل المرتهن أخذ الرهن ليحفظ حقه أساسًا، وجاء الانتفاع تبعًا، أم أنه ما تعامل مع الراهن بالدين إلا لأجل الانتفاع بالرهن؟.
والقصود ههنا مؤثرة في الحكم، حتى قال ابن أبي ليلى[32] في خصوص هذه المسألة: “إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن، وإن لبسه ليحوزه فلا شيء عليه”. [33]
[1] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (21/ 106)، بدائع الصنائع، للكاساني، (6/ 164)، الهداية، للمرغيناني، (4/ 415)، مجمع الأنهر، لشيخي زادة، (4/ 273).
[2] ينظر: المغني، لابن قدامة، (4/ 289)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (4/ 240)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 355).
[5] أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، (1/ 500)، بلفظ: “كل قرض جرّ منفعة فهو ربا”، وفي سنده سوار بن مصعب، وهو متروك، قال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق، (4/ 108): “هذا إسنادٌ ساقط، وسوار هو ابن مصعب، وهو متروك الحديث”، وينظر: الأحكام الوسطى، للأشبيلي، (3/ 278)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، (5/ 350)، برقم 11252، عن فضالة بن عبيد t موقوفًا عليه.
[6] ينظر: الفروق، للقرافي، (2/ 38)، البحر المحيط، للزركشي، (3/ 101).
[7] ينظر: المستصفى، للغزالي، ص(268)، الإحكام، للآمدي، (3/ 104).
[8] يراجع: البحر الرائق، لابن نجيم، (8/ 322).
[9] ينظر: مجمع الأنهر، لشيخي زادة، (4/ 273)، الدر المختار، للحصفكي، مع حاشية ابن عابدين، (6/ 482).
[10] ينظر: كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 356).
[12] هو كتاب المستوعب في فروع الفقه الحنبلي، لمحمد بن عبد الله السامري، المتوفى سنة 616هـ، ينظر: كشف الظنون، لحاجي خليفة، (2/ 1675).
[14] أخرجه في كتاب الرهون، باب لا يغلق الرهن، (2/ 816)، برقم 2441.
[15] أخرجه الدارقطني في سننه، في كتاب البيوع، (3/ 32)، برقم 125، والحاكم في المستدرك، (2/ 58)، برقم 2315، قال ابن حجر في بلوغ المرام: “رواه الدارقطني والحاكم، ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله”، وينظر: المراسيل، لأبي داود، ص(170).
[16] يراجع: البحر الرائق، لابن نجيم، (8/ 322).
[17] ينظر: مجمع الأنهر، لشيخي زاده، (4/ 274).
[18] يراجع: حاشية ابن عابدين، (6/ 482)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 356).
[20] ينظر: مجمع الأنهر، لشيخي زادة، (4/ 273)، الدر المختار، للحصفكي، مع حاشية ابن عابدين، (6/ 482).
[22] حاشية ابن عابدين، (6/ 482).
[23] ينظر: المدونة، لمالك، (14/ 317)، البيان والتحصيل، لابن رشد الجد، (11/ 34)، الذخيرة، للقرافي، (8/ 86)، التاج والإكليل، للمواق، (6/ 561).
[24] ينظر: الأم، للشافعي، (3/ 159)، نهاية المحتاج، للرملي، (4/ 235-236)، تكملة المجموع، للمطيعي، (13/ 217).
[27] ينظر: مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 42).
[28] ينظر: الذخيرة، للقرافي، (8/ 86).
[29] ينظر: عقد الرهن في الشريعة، للموجان، ص(46).
[30] كشاف القناع، (3/ 356).
[31] سبق تخريجه، ص(99).
[32] هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن الكوفي، الفقيه، المقرئ، حدّث عن الشعبي وعطاء، توفي سنة 148هـ، ينظر: التاريخ الكبير، للبخاري، (1/ 162)، تذكرة الحفاظ، للذهبي، (1/ 171).
[33] أحكام القرآن، للجصاص، (2/ 270).