مقامان عظيمان قامهما النبي صلى الله عليه وسلم في مكان واحد والفرق بينهما ثلاثة وعشرون سنة


مقامان عظيمان قامهما النبي صلى الله عليه وسلم في مكان واحد

والفرق بينهما ثلاثة وعشرون سنة


لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا مقامين عظيمين فيهما عبرةٌ لمن اعتبر، وأملٌ لمن انكسَر، وصيحةٌ في أُذن من تولَّى وأدبر، وأن العاقبة لهذا الدين رغم أنف من علا وتكبَّر.

 

المقام الأول: قامه وهو ضعيف مستضعَفٌ صلى الله عليه وسلم، وذلك بعدما أنزل الله عليه: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: ٢١٤]، قام النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى بأعلى صوته: «يا صباحاه يا صباحاه»، حتى اجتمعت له قريش ما بين الصفا والكعبة، فأخبَرهم كيف صدقُه فيهم؟ فشهِدوا له أنه عاش بينهم أربعين سنة لم يسمعوا منه كذبةً واحدة! فكأنهم يقولون: وأنت الآن بعد كمال عقلك أكثر صدقًا، فقال لهم: «إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد»، فكان أولُ من رد عليه عمَّه أبو لهب، فقال له: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟!

 

كان هذا ردُّ قريبه ومَن كان بمنزلة أبيه! فكيف لو سنَحت الفرصة للآخرين البُعداء منه بالنسب؟!

ثم إنهم كذَّبوه وأظهروا له العداوة ولمن اتّبعه طيلة مُكوثه فيهم ثلاث عشر سنة.

 

فهذا المقام الأول على الصفا.

 

والمقام الثاني: كان في حجة الوداع، في يوم عشرٍ من ذي الحجة يوم عيد الأضحى، طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت، ثم اتَّجه إلى الصفا معزَّزًا مكرمًا والكعبة وراءه، وهي خالية من الشرك وأهله، وحولها عشرات الآلاف من المسلمين، لا يوجد فيهم مشركٌ واحد، فلما وصل الصفا وصعِد عليها، اتَّجه للكعبة، فقال: «لا إله إلا الله وحده، صدَق وعده، ونصَر عبده، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزاب وحده».

 

ما أعظمها من كلمات، «لا إله إلا الله وحده»، يردِّدها النبي صلى الله عليه وسلم في ذاك المكان، ويردِّدها معه أكثر من مائة ألف من حُجاج بيت الله عز وجل.

هذه الكلمة التي أبى أصحابُ مكة أن يَنطِقوا بها في بادئ الأمر، وحاربوا كلَّ مَن يقولها وآذَوه وطرَدوه، ها هي تهتز بها شِعابُ مكة، وتَصدَع بها الكعبةُ وساحاتها.

أتى إلى مكة من المسلمين أضعافُ سكانها، بل يصلون إلى عشرين ضعفًا، يردِّدون كلمة التوحيد ولا معارض لهم!

 

أين سادة مكة: أبو جهل وعتبة وشيبة، وأين الوليد بن المغيرة؟ وأين أبو لهب؟! الكل زال وذهَب! وبقِي خيرُ العجم والعرب محمد صلى الله عليه وسلم، وجنده رضي الله عنهم، بل إن أبناء وأحفاد زعماء الكفر الأوغاد، يردِّدونها مع محمد صلى الله عليه وسلم، خاضعةً لها قلوبُهم قبل أجسادهم.

 

يردِّدونها مع مَن قتَل آباءَهم، لا حقد فيهم ولا غلَّ إلا على آبائهم الذين كانوا يأمرونهم بالمنكر وينهونهم عن المعروف، ولولا رحمة الله بهم بمحمد لكانوا وقودَ جهنَّم.

«صدق وعده» نعم والله، فقد صدق الله وعده، فقد كانت مكة تحت سطوة أعداء الله، فحوَّلها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم في مدة قصيرة، صدَقهم الله وعده، وأخلف الوعد إبليس فلم يفِ لجنوده وسيقول لهم في جهنم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22].

هنا الحسرة على زعماء الكفر مِن قريش، صار مصير مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وجنده؛ حتى إن الله طهَّرها من أجساد زعماء الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة، وأمية بن خلف وأُبي بن خلف…)، فقد دُفنوا خارج مكة، ولم تكن لهم قبورٌ في أرض كانوا سادتها!

«ونصر عبده»؛ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، نصَره الله أعزَّ النصر وأشرفَ النصر؛ حتى خضعت لها جزيرةُ العرب عن بَكرة أبيها، وخضَعت له أجزاءٌ من الشام.

«وأعزَّ جنده»، فقد كانوا قليلًا فكثَّرهم، وكانوا متفرقين فجمَّعهم، وأعزَّهم بالإسلام وبنصرٍ من عنده، وألقى في قلوب أعدائهم الوهنَ والرعب.

«وهزَم الأحزاب وحده»، يا ألله! ما أعظمها من كلمة! حيث ردَّ كلَّ ذلك لله وحده، لم يجعل لقوته وقوة أصحابه وتضحياتهم شيئًا، جعل كلَّ ذلك لله وحده!

ما أصدَقه من إيمان! وما أحسَنه من خضوعٍ ورجوع إلى الله وحده.

فتأمَّل معي أخي القارئ، يقول هذا محمد صلى الله عليه وسلم وقد عانى أشدَّ المعاناة في نصر هذا الدين؛ بذل عمره ومالَه وجهدَه، وذهب عليه خيرةُ الرجال من أقاربه وأصحابه.

غزا عشرين غزوة في أصعب الأوقات، وبعض الغزوات تصل مدة سفرها أكثر من شهرين في الحر الشديد والبرد الشديد، بعَث مئات السرايا من أصحابه، بذل أصحابه الأموال والأولاد وفلذات ما يَملكون.

جُرح النبي صلى الله عليه وسلم جروحًا شديدة في وجهه وجسده لأجل نصر هذا الدين.

 

أَعجِز عن تَعداد تلك التضحيات الكثيرة التي بذلها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وبعد هذا كله يقول صلى الله عليه وسلم: «وهزَم الأحزاب وحده»!

لم تَغُرَّه كثرةُ الناس بعده، لم تَغُره سلطتُه الكبيرة على بلاد شاسعة وقبائل كثيرة وكبيرة، بل رد الفضل لله وحده، يَهتِف بذلك أمام أكثر من مائة ألف من المسلمين، إنها العبودية لله على أسمى مراتبها، إنها النبوة، إنها صفوة النبوة (خاتمتها)، وختامُه مسكٌ.

 

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ونبيك محمد وعلى كل الأنبياء والمرسلين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Taylor Swift ‘Eras’ tie-in book sells more than 800,000 copies in first weekend – KLAS – 8 News Now
John Marston Actor Rob Wiethoff Starts OnlyFans Page – ComicBook.com