خطورة الخلوة بالنساء وحكمة الأمر بغض الأبصار
خطورة الخلوة بالنساء وحكمة الأمر بغض الأبصار
أما بعد:
إخوة الإيمان، حديثنا عن فتنة يحبها الشيطان ويفرح بها، يرسم من فصولها خارطة الغواية، يزينها ويجملها، يملأ النفوس شغفًا بها، وقل من دلف من بابها فنجا من غوائل الشيطان، جاءت سورة عظيمة من سور القرآن لتحذرنا منها، وتعرض لنا قصة واقعية لبيان ما تجنيه هذه الفتنة على أصحابها، إن لم يلطف الله بهم وينجيهم، فما هي هذه الفتنة؟
إنها بوابة الغواية، ها هو القرآن يعرض لنا مشهدًا حيًّا لقصةٍ كانت بوابة الغواية هي فتيلها الذي أشعل الشيطانُ فيه نار الشهوة؛ ليوقعهم في الفحشاء، قذف في قلب امرأة العزيز لما خلت بيوسف الشغف به والطمع فيه، فسعت بكل ما تملك للوصول إليه؛ تزينت، غلَّقت الأبواب، قالت: هَيْتَ لك، طاردته، أمسكت به حتى قُطع ثوبه، ولولا عصمة الله ليوسف -عليه السلام- لهزم في ذلكم المشهد.
فما هي بوابة الغواية؟ إنها الخلوة المحرمة والتساهل في الدخول على النساء، فهل انتهى مشهد الغواية عند ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]؟ كلا،كلا، لم ينتهِ أثر تلك الخلوة، بل عظُم البلاء على يوسف -عليه السلام- بعد سخرية النسوة بامرأة العزيز حين قلن: ﴿ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30].
فخطَّطَت امرأة العزيز لمشهد جديد للغواية عندما أدخلت يوسف عليهن لتوقعهن في الفتنة ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، هكذا اجتمع النسوة كلهن للوصول إلى يوسف -عليه السلام- افتتن به وعظم كيدهن ومكرهن، وصرحت امرأة العزيز تصريحها الخطير ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32].
إنها فتنة الخلوة بالنساء والدخول عليهن، ما المخرج ليوسف -عليه السلام- من هذا البلاء ومن هذه الفتنة وهذا المكر الكبار؟ لقد أدرك يوسف -عليه السلام- عظم الفتن التي تحيط به، فلم يجد إلا أن يلجأ إلى ربِّه معتصمًا به، طالبًا دخول السجن ليسلم له دينه وعرضه ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34].
وفي هذه القصة دروسٌ، منها:
أولًا: عظم خطر خلوة الرجل بغير محارمه، والحذر من الدخول على النساء ومخالطتهن، وهي رسالة للمتساهلين في خلوة الرجال بالنساء خاصة الأقارب غير المحارم؛ فإن خلوتهم هي الموت والعطب، فعن عقبة بن عامر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والدخول على النساء”، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: “الحمو الموت”؛ (رواه البخاري)؛ والمراد بالحمو: أقارب الزوج من غير المحارم؛ كالأخ والعم والخال وأبنائهم.
أيها المسلمون، إنه لمن المؤسف أننا نرى في مجتمعاتنا اليوم صورًا محزنةً مخزيةً للتساهل في الخلوة مع الأقارب، وفي الأسواق وأماكن العمل -أحوالٌ ما كان عليها الناس من قبل- ونرى تساهلًا صارخًا وإلْفًا ماسخًا لهذه الأحوال الشائنة، وإعراضًا كبيرًا عن حرب هذه الظواهر المهلكة.
أيها المؤمنون، كونوا أهل غيرةٍ على محارم الله أن تنتهك، ولا تتساهلوا في أمر الخلوة، وكونوا حربًا عليها؛ ليسلم دينكم، ويصح إيمانكم، ويحسن إسلامكم، وتُصان أعراضكم.
أصونُ عرضي بمالي لا أدنسهُ لا بَارَكَ اللَّهُ بعدَ العِرْضِ في المالِ
|
أيها الأب والزوج والأخ، كن حريصًا على محارمك، واعلم أن الله استرعاك إياهم، فلا تجعلهم عرضة لذئاب الأعراض، فكم من فتاة عفيفة تساهل وليُّها في خلوتها بالرجال، فكان سببًا في ضياعها، وكم من شاب صالح نقي القلب تساهل في الخلوة بالنساء والدخول عليهن، وأطلق لبصره النظر في الحرام؛ فوقع في الزيغ والغواية.
لقد جاء التوجيه الرباني لأطهر النساء قلوبًا، ولأطهر الرجال أفئدةً، جاء الخطاب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حديثهم إلى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53]، فمن ادَّعى أنه أقوى إيمانًا من الصحابة، أو أن النساء اللاتي يخلو بهن أطهر قلوبًا، وأملك نفوسًا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أعظم الفرية، وأكثر الاجتراء.
إنَّ بُعد النساء عن الرجال حماية من الفتنة والغواية، فعَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ: “اسْتَأْخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافاتِ الطَّرِيقِ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ”؛ (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
المؤمن يكون غيورًا على محارمه فيصونهم ويحفظهم ويدافع عنهم، ومن غيرته أن يصونهم عما يوقعهم فيما حرم الله، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ”؛ (متفق عليه).
ومن غيرة المؤمن أن يأمر محارمه بالستر والحجاب، وترك التزيُّن والتطيُّب عند الخروج في الطُّرُقات والتجَمُّعات العامة، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْقَوْمِ لِيَجِدُوا رِيحَهَا؛ فَهِيَ زَانِيَةٌ”؛ (رواه أحمد وصححه الألباني).
ومن دروس القصة أيها المؤمنون:
أنَّ الله -جل وعلا- فطر الرجل والمرأة على أن يميل بعضهما إلى الآخر؛ ليتم اللقاء بينهما من بابه الصحيح باب الزواج، واستغل الشيطان هذا الميل الفطري ليوظِّفه في مسرحية الغواية، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ”؛ (متفق عليه)، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان”؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني)، وعن أبي سعيد الخُدْري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”؛ (رواه مسلم).
لأجل ذلك حَذرَ السلف من هذه الفتنة، وخافوها على أنفسهم، فعن سعيد بن المسيب قال: “ما يئس الشيطان من ابن آدم قط إلا أتاه من قبل النساء”، ثم قال -وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى-: “وما شيء عندي أخوف من النساء”.
ومن الدروس: فرار يوسف إلى ربِّه، واعتصامه به من فتنة امرأة العزيز ونسوة المدينة، وفيه رسالة لكل مسلم أن يفر من فتنة الخلوة بالنساء والدخول عليهنَّ في زمن يعجُّ بالفتن، فإلى الله المشتكى من فتن في الأسواق، وفتن عبر الشاشات وبرامج التواصل الاجتماعي، فشَتَّان شَتَّان بين من تعرض له الفتنة، فيفر منها خائفًا، يلوذ بربِّه أن ينقذه منها، وبين من يبحث عن مظانِّها، ويلج أبوابها قبل نوافذها، إنه يقود نفسه إلى الهلاك، وقد يخسر دينه وإيمانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفيه أيضًا: أن يلهج العبد إلى ربِّه أن ينجيه من الفتن، ويصرف عنه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فهو -سبحانه- الذي يصرف السوء والفحشاء عن عباده ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، وأن يحرص العبد على الإخلاص لله والعبودية له، ودوام ذكره وشكره، وقد كان من دعاء عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “ربنا أصلح بيننا، واهدنا سُبُل الإسلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن”؛ (رواه البخاري في الأدب وصححه الألباني).
اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة.
غض البصر:
معاشر المؤمنين، إنَّ من عرف خطر الزنا على نفسه ومجتمعه، بل على دينه ودنياه، فرَّ منه فراره من الأسد، كيف لا وهو خرْق للفطرة، وهبوط إلى مستوى البهيمة؟! إلَّا إنَّه ينبغي أن يعلم كل مكلَّف أنَّ الشيطان لا يدعو العبد إلى الزنا الصريح مباشرةً، وإنَّما يستدرجه ويستغويه ويوقعه في حبائله، حتى يسير عليها إلى تلك الجريمة البشعة؛ ولهذا نهى -سبحانه- الخلق أن يقعوا في حبائل الشيطان حتى لا يستدرجهم ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21].
وإنَّ من رحمة الله بخلقه أنَّه لما حرم الفواحش، حرَّم كل طريق يوصل إليها؛ فلما حرَّم الزنا حرَّم كل داعٍ يدعو إليه، حتى يصبح العبد الأوَّاب الحفيظ من أبعد الناس عن الفواحش، فانظروا -رحمكم الله- إلى كل من وقع في جريمة الزنا، كيف وقع فيها؟ تجد أنَّ الشيطان استدرجه من خلال دواعي الزنا حتى أوقعه في تلك الجريمة.
ومن دواعي الزنا -وهو أخطرها ومفتاحها- إطلاق البصر في المحرمات من صورٍ وذواتٍ؛ فالنظر هو رائد القلب إلى الوقوع في الزنا، قال ابن القيم -رحمه الله-: “إنَّ الشيطان يقول لأوليائه وجنده: دونكم ثغر العين؛ فإنَّه منه تنالون بغيتكم، فإنِّي ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإنِّي أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأُمنِّيه؛ حتى أقوِّي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة، فلا تهملوا هذا الثغر”، قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]، لما كان الخطر على الفرج يبدأ من النظر الحرام أمر سبحانه الخلق بغض البصر أولًا، ثم ثنَّى بحفظ الفرج؛ فإنَّ الحوادث مبدؤها من النظر، كما أنَّ معظم النار من مستصغر الشرر.
والبصرُ نعمةٌ، ولكن إذا استخدمه العبد في الحرام صار نقمةً عليه يُورِده المهالك، فإن النظرة تولِّد خطرة، والخطرة تولد فكرة، والفكرة تولد شهوة، والشهوة تولد إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً؛ فيقع الفعل ولا بُدَّ ما لم يمنع منه مانع، وفى هذا قيل: “الصبر على غضِّ البصر أيسرُ من ألم ما بعده”، وقال الشاعر:
ولقد تكاثرت النصوص والآثار الآمرة بغض البصر، والمحذرة من عواقبه، قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30].
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخُدْري، قال صلى الله عليه وسلم: “إياكم والجلوس في الطرقات، فإن أبيتم فأعطوا الطريق حقَّها”، قالوا: وما حَقُّها؟ قال: “غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
وأخرج الترمذي وأبو داود وغيرهما من حديث بريدة، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تتبع النظرةَ النظرةَ؛ فإنَّما لك الأولى وليست لك الآخرة”.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فقال: “اصرف بصرك”، والمعنى لهذا الحديث والذي قبله أنَّه إذا اتفق للعبد أن وقع بصره على محرم من غير قصد، فليصرف بصره سريعًا.
أيها المؤمنون، إنَّ النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فلنتقِ الله بغض أبصارنا عن المحرَّمات، فيكفي مطلق البصر من العذاب ما يورثه نظره من الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما لا قدرة له عليه ولا صبر له عنه، قال ابن القيم -رحمه الله-: “ومن العجب أنَّ لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر”، وقال نظمًا:
يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا أَنْتَ الْقَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبِ يَا بَاعِثَ الطَّرْفِ يَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ احْبِسْ رَسُولَكَ لَا يَأْتِيكَ بِالْعَطَبِ
|
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: “اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة”، وذكر منها: “غضُّوا أبصاركم”.
أيها العبدُ المؤمن، هذا سؤالٌ أجب عليه في نفسك: هل تغضَّ بصرك عما يعرض في القنوات، وفي تطبيقات الهواتف، ووسائل التواصل؟
أجب نفسك واصدقها، فإنَّ مبتدأ العلاج في الإقرار بالمرض، ومبتدأ التوبة في الإقرار بالذنب.
وإياك أن تقول: إنَّها نظرة عابرة بريئة، فقد قال ابن مسعود: “الإثم حوَّاز القلوب، وما من نظرة إلَّا للشيطان فيها مطمع”.
أيها المؤمن، غَضُّ البصر صفةُ المتقين، وديدن المحسنين الذين حققوا الْإِحْسَانَ مَرْتَبَةَ الدِّينِ الْعَالِيَةَ الَّتِي عَرَّفَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأَنَّهَا: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
واعلم يا عبدَ الله أنَّ حِكْمَةَ رَبِّنَا في ابتلائِنا اقتضت أن جُبِلْنَا على طبائعَ تنافي مُرَادَهُ الشرعي منا؛ وذلك لِيَتَحَقَّقَ الْامْتِحَانُ وَالْابْتِلَاءُ، وَتَكُونَ الْمُجَاهَدَةُ؛ فالأنفسُ مجبولةٌ على الشُّـحِّ، والشارعُ أرادَ مِنها الإنفاقَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الجُبْنِ، والشارعُ أرادَ مِنها الجهادَ، والأنفسُ مجبولةٌ على حُبِّ الراحةِ والكَسَلِ، والشارعُ أرادَ مِنها الجِدَّ والعَمَلَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الجَهْلِ والعَجَلَةِ، والشارعُ أرادَ مِنها الحِلْمَ والأناةَ، والأنفسُ مجبولةٌ على الأَنَفَةِ والتعاظُمِ، والشارعُ أرادَ مِنها الطاعةَ والتواضعَ وتسليمَ القيادِ… وهكذا.
ومن ذلك أيضًا أنَّ النفسَ مجبولةٌ على حب الشهوات ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [آل عمران: 14]، ولكن الشارع أراد منها مغالبة هذه الشهوة بغض الأبصار واجتناب الفواحش.
فَمِن دقائق الإحسان: أن تتغلبَ على ما ينافي مرادَ الشارعِ مِنك مِن الطبائعِ والأهواءِ، وتحَمِل نفسَك على مرادِ الربِّ -جَلَّ جَلَالُهُ- ولو خالفَ طَبْعَ النفسِ وهواها.
فَيَا لَسَعَادَةِ عبدٍ غَالَبَ طبعَه فَغَلَبَه، وَجَاهَدَ هواه فَمَلَكَه! إنه لعبدٌ صالحٌ مُوَفَّقٌ، قد بَلَغَ مرتبةَ الإحسانِ، وَنَالَ مَعِيَّةَ الرَّحْمَنِ، وَفَازَ مِنْهُ بِالرِّضْوَانِ.
وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ رَبِّي: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
أيها المؤمنون، إنَّ السعادةَ الحقيقيةَ في مُخَالَفَةِ الطَّبْعِ والهوى، والانتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ، استجابةً لله ولرسوله، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
وإذا لم يُجَاهِدِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَيُخَالِفْ هَوَاهُ، فاستَجَابَ لِدَاعِي الهَوَى كُلَّمَا دَعَاهُ، فَقَدِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، قال الله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43].
قال قتادة – رحمه الله –: ((إنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ كُلَّمَا هَوِيَ شَيْئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجُزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوَى، فَقَدْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)).
وقال بعض الحكماء: “مَنِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ صَارَ أَسِيرًا فِي حُبِّ شَهَوَاتِهَا، مَحْصُورًا فِي سِجْنِ هَوَاهَا، مَقْهُورًا، مَغْلُولًا، زِمَامُهُ فِي يَدِهَا، تَجُرُّهُ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَمْنَعُ قَلْبَهُ مِنَ الفَوَائِدِ”.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ.
أيها المؤمنون عباد الله، غضوا أبصاركم، تصح لكم قلوبكم وتطهر، وتصفو عقولكم وتنضج، وتنشرح صدوركم وتتسع، وتطمئن نفوسكم إلى أزواجكم، وتطمئن قلوبكم إلى ذكر ربكم.
فإلَّا تفعل ذلك يا عبد الله وتجاهد نفسك، فاعلم أنك خرجت عن دائرة الإحسان، وصِرتَ ركوبةً للشيطان يخبطك في ألوانٍ من الظلمات، وصنوفٍ من العذاب، ويهوي بك إلى ما يُسخِطُ الرحمن.
اللهم أعِنَّا على غضِّ أبصارنا وحفظ فروجنا يا سميع الدعاء، اللهم إنا نعوذ بك من خائنة الأعين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.