بكاؤه صلى الله عليه وسلم
بكاؤه صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تفرَّد بجلال ملكوته، وتوحَّد بجمال جبروته، وتعزَّز بعُلو أَحَديَّته، وتقدَّس بسمو صمَديَّته، وتكبَّر في ذاته عن مضارعة كل نظير، وتنزَّه في صفائه عن كل تناهٍ وقصور، له الصفات المختصة بحقِّه، والآيات الناطقة بأنه غيرُ مُشبَّه بخلْقه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده.
يا واحد في ملكه أنت الأحدُ ولقد علمتُ بأنك الفرد الصمد لا أنت مولودٌ ولستَ بوالدٍ كلَّا ولا لك في الورى كُفوًا أَحَد
|
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نَهْجه، وتمسَّك بسنته واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام، حيَّاكم الله تعالى وبيَّاكم، وجمعنا الله في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في مستقر رحمته؛ أما بعد:
فنعيش في هذا اليوم الطيب الميمون الأغر مع الرقة والبكاء في حياة سيد الأصفياء، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر يفرَح كما يفرحون، ويحزن كما يحزن، يضحَك مع أصحابه، ويبكي إذا وُجِدَ داعي البكاء، واليوم سنقف مع صور من بكائه ورقته صلى الله عليه وسلم.
بكاؤه في الصلاة:
لقد كان رسولنا – صلى الله عليه وسلم – من أشد الناس خشيةً ورهبةً، يُسمَع لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء – صلى الله عليه وسلم – عن عبد الله بن الشِّخير قال: “رأيت رسول الله يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء”، وفي رواية: “وفي صدره أزيز كأزيز المرجل”[1].
وها هو بأبي وأمي – صلى الله عليه وسلم – في ليلة بدر يظل طوال الليل بين يدي ربه ومولاه متضرعًا باكيًا؛ فعن علي قال: “ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح”[2].
وعن عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: “دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزور، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: ((يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي))، قلت: والله إني لأُحب قربك، وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالسًا، فلم يزل يبكي حتى بل لِحيته، ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذِنُه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]))[3].
بكاؤه – صلى الله عليه وسلم – عند سماع القرآن:
ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يلين قلبه وتدمع عيناه عندما يقرأ القرآن الكريم؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: ((قال لي رسول الله: اقرأ عليَّ القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، رفعتُ رأسي – أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي – فرأيتُ دموعه تسيل))، وفي رواية البخاري: ((حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: حسبك الآن، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان))[4].
قال ابن بطال: “وإنما بكى عند هذا؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم؛ ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن”.
بكاؤه – صلى الله عليه وسلم – على القبر:
ومن مشاهد بكاء سيد الأصفياء – صلى الله عليه وسلم – بكاؤه وهو اقف على شفير القبر وعند زيارة القبور، ولِمَ لا وهو الذي أمرنا أن نزور القبور؛ لأنها ترقق القلوب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كنت نَهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترقِّق القلب، وتُدمع العين، وتذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا»[5].
عن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت))[6].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ، فَقَالَ: عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟ قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونهُ، قَالَ: فَفَزعَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا، حَتَى انْتَهَى إِلَى الْقَبْر، فَجَثَا عَلَيْه، قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَى بَل الثَرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثم أَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثم قَالَ: أَيْ إخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا”[7].
ومن مشاهد بكاء إمام الأتقياء – صلى الله عليه وسلم -:
بكاؤه – صلى الله عليه وسلم – خشية ورحمة بأمته، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: اللهم أُمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسلْهُ: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله، فأخبره رسول الله بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك))[8].
عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((ترد عليَّ أمتي الحوضَ، وأنا أذود الناس عنه، كما يذود الرجلُ إبلَ الرجلِ عن إبله، قالوا: يا نبي الله، أتعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليَّ غُرًّا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب، هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك، فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية: فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا)) [9].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فبكاؤه رقة وحمة:
إخوة الإسلام، من مشاهد بكائه – صلى الله عليه وسلم – بكاء الرقة والرحمة عند مصاب أصحابه، وعند فراق أحبابه صلى الله عليه وسلم؛ عن أنس بن مالك قال: دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين، وكان ظِئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله إبراهيم، فقبَّله وشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا بن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))[10].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخذ النبي بنتًا له تقضي، فاحتضنها، فوضعها بين ثدييه، فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكي عند رسول الله؟ قالت: ألستُ أراك تبكي يا رسول الله؟ قال: ((لستُ أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حالٍ، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل))[11].
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان ابن لبعض بنات النبي يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبِر ولتحتسب))، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله، وقمت معه، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله الصبي، ونفسه تقعقع، فبكى رسول الله، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء))[12].
وهو هو بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم – يبكي عند موت سعد بن عبادة؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله يعوده مع عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: أقد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله، فبكى رسول الله، فلما رأى القوم بكاء رسول الله، بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم))[13].
ولَما بلغه مصاب أصحابه بمؤته، بكت عيناه لمصابهم وفراقهم؛ عن أنس بن مالك قال: خطب النبي، فقال: ((أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففُتح له، وقال: ما يسرنا أنهم عندنا – أو قال: ما يسرهم أنهم عندنا – وعيناه تذرفان))[14].
الدعاء:
اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكُن علينا.
اللهم لا تدَع لأحدٍ منا في هذا المقام الكريم ذنبًا إلا غفَرته، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا ميتًا إلا رحِمته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا طائعًا إلا سدَّدته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتَها يا رب العالمين.
اللهم اجعَل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منَّا ولا معنا شقيًّا أو محرومًا.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
اللهم إن أردتَ بالناس فتنةً، فاقبِضنا إليك غيرَ خزايا ولا مفتونين ولا مغيِّرين ولا مبدِّلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احْمِل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعِم المسلمين الجياع.
اللهم لا تَحرِم مصرَ الأمنَ والأمان.
[1] سنده صحيح: أخرجه أحمد (4/ 25)، وأبو داود (904)، والنسائي (1214)، أزيز: صوت، الرحى: الطاحون، المِرجل: قدر من نحاس أو حديد يُطبَخ فيه..
[2] سنده صحيح: أخرجه أحمد (4/ 125).
[3] سنده صحيح: أخرجه ابن حبان (620).
[4] أخرجه البخاري (5055)، مسلم (800).
[5] أخرجه الحاكم (1/ 376) بسند حسن، ثم رواه (1/ 375،376) وأحمد (3/ 237،250) صحيح. صحيح الجامع الصغير 4460
[6] أخرجه مسلم، (976).
[7] أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير” (1/ 229)، وابن ماجه (4195)، وأحمد (4/ 294)، وحسنه الألباني في “الصحيحة” رقم (1751).
[8] أخرجه مسلم، (202).
[9] أخرجه البخاري (2367)، ومسلم (247)، “أذود”: أمنع وأطرد، “سيما”: علامة، “غرًّا محجلين”: غرًّا: ذو غرة، وأصل الغرة: لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ومحجلين: من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والمعنى: أن النور يسطع من وجوههم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة.
[10] أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315)، “ظئرًا”: زوج مرضعته وهي خولة بنت المنذر، “وأنت”: تفعل كما يفعل الناس عند المصائب، “بأخرى”: أتبع الدمعة بأخرى أو بالكلمة التي قالها بأخرى.
[11] إسناده صحيح: أخرجه أحمد (1/ 273)، ابن حبان (2914)، والنسائي (1843).
[12] أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923)، “تتقعقع”: تتحرك وتضطرب ويُسمع لها صوت.
[13] أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924).
[14] أخرجه البخاري، (2798).