سوء الظن بالآخرين (خطبة)
سوء الظن بالآخرين
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله سبحانه، وضع الخير فيما أحلَّ وأباح، وجعل السوء فيما حرَّم ومنع؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، له دعوة الحق وشِرعة الصدق؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات ويمحق السيئات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحُنفاء، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدُوا إلى الطيب من القول، وهُدُوا إلى صراط الحميد؛ أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله، وتذكروا نِعَمَه عليكم، واشكروه عليها بالعمل الصالح؛ فإن من شكر زاده الله توفيقًا ونعمة: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
أيها المؤمنون: سوءُ الظن مرضٌ خطير من أمراض العصر، نتائجه خطيرة، ومفاسده عظيمة، وهو دليل على سوء طوِيَّةِ صاحبه، ومن أُصيب بهذا الداء، فواجب عليه أن يُعالج منه، والجاهل إذا اتُّهم الناس أو أُنقص من قدرهم، ساء ظنه بهم.
جاء في السنة أن رجلًا أساء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم لما وزَّع الغنائم، واتهم النبي بعدم العدل والإخلاص، فقال: “اعدل يا محمد، فما عدلت، هذه قِسمةٌ ما أُريدَ بها وجه الله”.
فدفعه سوءُ ظنِّه وفِعْلُه القبيح، وسطحية تفكيره وفَهمه، وقلة فقهه لمقاصد الشريعة ومصالح الدين، دفعه ذلك إلى أن استعجل في الحكم، وحكم بجهل على أكمل إنسان وأعدل بني عدنان، والمرء إذا لم يعلم فَعَلَيهِ أن يسأل ويستفسر، ولا يجريَ وراء الظنون.
وإنه لمن أكبر الأسى والأسف أن نرى بعض الذين مَطِيَّتُهم سوء الظن بالخاصة قبل العامة، وإن رأوا من يُداري، أو رأوا شيئًا لا يمشي مع هواهم، أذاعوا به، والبعض يقيس ويزِن الأمور بفهمه، فيكفي عنده في جرح أخيه أن يخالفه فيما قرأ أو سمِع، أو أنه لا يُرضي عقله وهواه، ولو نظر المسيء الظنَّ أن من أساء به الظن، خالفه في أمر تختلف فيه الأفهام والأنظار، لَما أدخل على نفسه هذا البلاء.
ومن أسباب سوء الظن تزكيةُ المرء نفسَه واحتقاره غيره، فيرى نفسه على الصواب، وجميع الأمة على الباطل.
إن أصحاب العقول الكبيرة والتديُّن الصحيح يؤلِّفون القلوب، ويجمعون أبناء الأُمَّة على الأُلفة والمحبة والأُخُوَّة، وترك سوء الظن بالآخرين.
إن اجتماع كلمة المسلمين، وتَرْكَ الفُرقة، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يترك بعض المستحَبَّات؛ كيلا تضيع في فعلها واجبات؛ من ذلك أنه لم يُعْطِ الفقراء، وأعطى الأغنياء تأليفًا لقلوبهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نظر أن ذلك أنفع للدين، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم ترك تغيير بناء البيت إبقاءً لتأليف القلوب.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُنكر على عثمانَ إتمامَ الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه مُتمِّمًا وقال: “الخلاف شرٌّ”.
من مظاهر سوء الظن تجريحُ الناس أحياء وأمواتًا، ورميهم بشتى أنواع الضلال؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلَكُهم))؛ [رواه مسلم]؛ قال الخطابي: “لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم، أي: أسوأ حالًا منهم؛ بما يلحقه من الإثم في عَيبهم والوقيعة فيهم، وربما أدَّاه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم”؛ [انتهى كلامه رحمه الله].
إن الظن السيِّئَ يدفع صاحبه إلى تتبُّع العورات، والبحث عن الزَّلَّات، والتنقيب عن السَّقَطات، وهو بذلك يعرِّض نفسه لغضب الله وعقابه؛ وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه في بيته))؛ [رواه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وحسَّنه الألباني].
وسوء الظن يزرع الشِّقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأُخُوَّة، ويمزِّق وشائج الأُلفة والمحبة، ويزرع البغضاء والشقاء، والله يحذرنا من ذلك بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
إنما المؤمنون إخوة، فلا تتبعوا العورات، ولا تصيَّدوا السقطات، ولا تبحثوا عن الزَّلَّات، وكن كالنحلة تسقط على الورد والزهور، ولا تكن كالذباب حيث يسقط على القاذورات والخبائث، لا تظُنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محْمَلًا.
تأمل كيف أمرك الإسلام بستر أهل المعصية في الدنيا لتُستر في القيامة، هذا مع من تحقَّق وقوعه في المعصية، فالأجدر والأولى بك فيمن لم تثبُت عليه المعصية أن ترحمه من لسانك، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وعارٌ على من يرى القَذَى في عين أخيه ولا يرى الجِذعَ في عينه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب سوء الظن: سوء النية وخُبث الطَّوِيَّة؛ قال تعالى:﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6].
وقال سبحانه: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 12]، وقال جل في علاه: ﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154].
البيئة قريبة كانت أو بعيدة، وعدم التنشئة الصحيحة على تقويم الأمور والعادات، واتباع الهوى:
وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ كما أن عين السخط تبدي المساويا
|
وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾ [النجم: 23].
وعدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي: روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كنتم ثلاثةً، فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن يُحزنه)).
والوقوع في المعاصي مع المجاهرة بها: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عمِلتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويُصبح يكشف ستر الله عنه)).
والوقوع في الشُّبُهات: روى البخاري والترمذي عن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دَعْ ما يَرِيبك إلى ما لا يريبك)).
ونسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس: روى مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أمَا علِمتَ أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
والغفلة عن آثار سوء الظن؛ ومن آثار سوء الظن على الفرد:
الوقوع في المعاصي؛ من غِيبة ونميمة وتجسس، وتباغض وتقاطع: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12].
ويروي الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظنَّ)).
ومن الآثار القعود عن الطاعات: كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 – 126].
ومنها الحسرة والندامة، ومنها كراهية الناس، ومنها تضييع العمر، ومنها التعرض لغضب الله.
وأما العلاج – عبادَ الله – لسوء الظن:
بناء العقيدة السليمة، وتحسين الظن بالله وبرسوله، والتربية على هذه العقيدة، ومجاهدة النفس، ومعاملة التائبين بحاضرهم، والتذكير الدائم بعواقب سوء الظن، والالتزام بآداب الإسلام؛ ومنها:
النظر إلى الظاهر: روى البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعض)).
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصته، عندما قتل المحارب الذي قال: لا إله إلا الله؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أفَلَا شَقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها عليَّ حتى تمنَّيتُ أني أسلمت يومئذٍ)).
والاعتماد على الدليل والبرهان: كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، وقال سبحانه: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13].
والتأكد من صحة الأمر: كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [النساء: 94]، وقال جل شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد أيها المسلمون:
فصلُّوا وسلِّموا على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.
اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعَفاف والغِنى.
اللهم اجعلنا نشكرك ونذكرك حتى ترضى.
اللهم اجعلنا ممن أحسن الظن بك.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها.
اللهم ارفع ذكرنا، وثقِّل موازيننا، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم انتقم لنا ممن عادانا في أنفسنا، وفي ديننا، وفي أخلاقنا.
اللهم عوِّضنا بمن يُسعدنا، ويجمع شملنا، ويُريح قلوبنا.
اللهم أنزل علينا سَكِينة من عندك، تُثبِّت بها قلوبنا، وتعصمنا بها من ارتكاب معاصيك.
اللهم إنك تعلم ما في السرائر، فحقِّق آمالنا وأحلامنا.
اللهم اكتب لنا سعادة تُزيل غشاوة ما قد سبق.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90، 91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدْكم، ولَذِكْرُ الله أكبر، الله يعلم ما تصنعون.