المؤرخ محمد علي دبوز في ضيافة الأديب مصطفى صادق الرافعي رحمهما الله
من كنوز جريدة البصائر
المؤرخ محمد علي دبوز في ضيافة الأديب مصطفى صادق الرافعي – رحمهما الله –
توطئة:
مما لفت انتباهي وأنا أتصفح جريدة البصائر- [لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين] – ذلك التواصل الفكري، والاتصال الحضاري، والارتباط الوثيق الذي كان عليه الجزائريون مع مراكز العلم وحواضره في المشرق العربي – مصر والحجاز والشام -، فلا يخلو عدد من البصائر إلا وتجد مقالةً أو خبرًا أو دراسةً تتعلق بما عليه أوضاع المشرق العربي في مختلف المجالات؛ السياسية والثقافية، والتي تعكس الاهتمام الكبير الذي أولته الجريدة ومن يقوم عليها بربط الفرد الجزائري بإخوانه المشارقة كامتداد حضاري وانتماء ديني.
ومن تلك الكتابات الدالة على جميل العلاقات الروحية والروابط الأخوية؛ ما دوَّنه الأستاذ المؤرخ محمد على دبوز رحمه الله من مشاهداته في مصر وتحديدًا عندما قرر زيارة موطن الأديب المصري الكبير مصطفى صادق الرافعي، ومعاينة البيئة التي عاش فيها، التي من خلالها انبعث نتاجه العلمي والفكري المتنوع، فكتب في ذلك سبع مقالات متتالية نُشرت على صفحات البصائر، تحت عنوان “وقفة على دار الرافعي وقبره” رحمه الله.
نبذة عن حياة المؤرخ محمد علي دبوز:
ولد سنة 1919 مـ/ 1337 هـ ببلدة بريان ولاية غرداية جنوب الجزائر، تدرج في طلب العلم بداية بكُتَّاب قريته، ثم بمعهد الحياة في الفرارة، ليلتحق بتونس حيث درس في الزيتونة جملةً من العلوم، ليواصل طريق طلب العلم، فكانت الوجهة أرض الكنانة مصر، ليرابط بدار الكتب المصرية سنوات حرص خلالها على المكوث والاعتكاف بين رفوفها ينهل من معين كتبها، حتى أصبح الكرسي الذي يجلس عليه فيها يُسمَّى باسمه، لينتسب في نفس الوقت إلى جامعة القاهرة مستمعًا متعلمًا، فبالإضافة إلى العلوم اللغوية والشرعية تخصص في دراسة علم النفس حتى أتقنه. يعود سنة 1948مـ لبلده حيث عمل مدرسًا في معهد الحياة، موجهًا ومربيًا ومصلحًا بين سكان المنطقة، إضافة إلى ذلك فقد كان قلمًا مبرزًا وكاتبًا مميزًا في جريدة البصائر السلسلة الثانية؛ ألَّف رحمه الله كتبًا ذات أهمية علمية، أبرزها:
• تاریخ المغرب الکبیر (ثلاثة أجزاء).
• نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة (ثلاثة أجزاء).
توفاه الله تعالى في يوم جمعة من سنة 1402 هـ/ 1981 هـ تاركًا سيرة حسنة مشهودًا له بكل خير، وتراثًا علميًّا ينهل منه الباحثون والقُرَّاء، بالإضافة إلى مجموعة من الطلبة النجباء والمحبين المخلصين لذكراه الطيبة.
قال عنه أنور الجندي المصري: “والحق أن الأستاذ محمد على دبوز عاش مجاهدًا يشقُّ طريقًا وعرة، وكان له عمل غير مسبوق”.
قال عنه أيضًا محمد عطية الأبراشي وهو من كتب مقدمة كتاب “تاريخ المغرب العربي لدبوز”: “والأستاذ المؤرخ الأديب محمد علي دبوز له كل التشجيع والإعجاب، وتقدير العالم الإسلامي كله؛ لما قام به من جهد مشكور سيذكره له التاريخ…”.
تعريف بالمقالات:
كما ذكرنا فإن محمد علي دبوز كان من كُتَّاب البصائر الدائمين فبالإضافة إلى مقالاته التي نلقي الضوء عليها هنا له العديد من المنشورات الأخرى خاصة التاريخية منها، والذي يهمنا أن نلفت نظر القارئ بأن المقالات حملت عنوانًا رئيسيًّا هو “وقفة في دار الرافعي وعلى قبره” منشورة على البصائر [السلسلة الثانية 1946-1956] في شكل أجزاء سبعة على النحو التالي:
المقال الأول: عدد 340، 11.11.1955.
المقال الثاني: عدد 337، 1955.10.14.
المقال الثالث: عدد 334-23/ 09/ 1955.
المقال الرابع: عدد 336- 07/ 10/ 1955.
المقال الخامس: عدد 342- 25/ 10/ 1955.
المقال السادس: عدد347- 14/ 11/ 1955.
المقال السابع: عدد 354- 23/ 09/ 1955.
سرد من خلالها محررها ما شاهده وأحس به من مناظر عايشها ومشاعر تملكته،كانت حمولة المحبة والتعلق بشخصية الرافعي يفوح عبقها من جميل اللغة التي صيغت بها الجمل والفقرات، والتي كشفت بأسلوبها المميز الأثر البليغ الذي كان عليه دبوز وهو يأنس بكل ما يتصل بأديبه المفضل، الذي زاد قربه الروحي منه من خلال مطالعاته الكثيرة لكتاباته سواء ما كان منها منشورًا ومبثوثًا في مجلة الرسالة أو تلك التي ألفها ونشرها على شكل كتب في أصناف فكرية مختلفة.
نظرة استقرائية في المقالات:
بدأ كاتبنا مقالاته واصفًا البلدة التي ولد فيها الرافعي وقضى جُلَّ حياته بين أزقَّتها وفي ربوعها، وفيها أيضًا رفاته بعد وفاته وهي بلدة “طنطا” مشبهًا إياها بمدينة البليدة الجزائرية في بديع طبيعتها من حقول وبساتين وحدائق مترامية على مد البصر، مبينًا ما لها من صفات بهية ومناظر جميلة تأثر في زائرها، فكيف لا تؤثر في ساكنها فـ “الوطن الذي يقضي فيه الأديب عمره هو أبو نتاجه، يؤثر فيه كما يؤثر في سجيته”، كما قال كاتب المقابلات.
كان الرافعي في اعتقاد محدثنا أديب هذا الزمن، وأن أدبه لا يضاهيه أحد من أدباء عصره، فهو شبيه الجاحظ وأبي العلاء في سعة المعرفة والذكاء، ثم لقد استطاعت مؤلفات الرافعي أن تزاحم كتب ودواوين العظماء؛ كالمتنبي وأبي تمام فيما كتبوه، ليواصل في وصف أدب الرافعي مؤكدًا على أنه يصلح أن يكون مصلحًا اجتماعیًّا لما حمله تراثه من معانٍ ومُثُل وعزة وقِيَم، ليس للغرائز المنحطة له من سبیل ولا بداخل علمه عبث أو انحراف، بل تعد كتاباته ثورة في وجه الفساد والانحلال والعظام وكل ما ينافي الفكرة السويَّة، ثم يشير محمد علي دبوز إلى أمر مهم هو أدب الرافعي لا يُغرم به إلا من اجتهد في قراءته لا كما يطرحه بعض الناشئين برميه بالتكلف والتعقيد، مشبهًا من لم يقل ذلك بالوليد الضعيف أمام الطعام الدسم.
كانت رحلته لزيارة موطن الرافعي صيفية اغتنم فترة الإجازة ليحقق تلك الرغبة الجامحة التي تملكته منذ وطئت قدمه مصر، ليروي لقُرَّائه كيف استقبله نجل الرافعي الدكتور محمد مصطفی الذي كان طبيبًا خلوقًا فاستقبله أحسن استقبال، وقضيا وقتًا مفيدًا استطاع من خلاله دبوز أن يشفي شغفه ويتجول في كل مكان للرافعي فيه موطن قدم.
فزار منزل الرافعي والشارع الذي كان يتمشى فيه والمقهى الذي جلس فيها كثيرًا؛ حيث كتب بعضًا من أدبه، وقف مطولًا تحت شرفة المنزل التي كان يطل منها الرافعي على الشارع حيث كانت مجلسًا له في بعض أوقاته، مستذكرًا في لحظات تأمل ومستحضرًا الرافعي في مخايله هناك يمسك قلمه تارة والكتاب تارة أخرى.. نعم استحضر في أوقات حالمة تلك المعاني الجميلة التي كانت تتزيَّن بوجود عملاق الأدب.
اتجه بعيد ذلك رفقة الدكتور إلى مدفن الرافعي وفي رحاب القبر ومع ذلك الجو المهيب، امتزجت المشاعر بالدعوات وخالص الترحمات على روح الرافعي، ثم اتصل الحديث بين محمد علي دبوز ونجل الرافعي في وصف حال الرافعي ويومياته ومؤلفاته، وكذا علاقاته مع محبيه خصومه، فكان حديثًا شائقًا ثريًّا مفيدًا.. أي نعم، لقد كان الرافعي رغم صلابته وقوة شخصيته صاحب دعابة وطرفة مع أصدقائه بل ومع كل من جالسه أو حادثه.
ليعرجا في حديثيهما على منتوج الرافعي وما اتصل بجمالية تراثه الأدبي، خاصه ما اتصل برمزيته وفلسفته وغزارته اللغوية؛ كأوراق الورد، وفلسفة الجمال، والسحاب الأحمر، وتحت راية القرآن، وعلى السَّفُّود…[وكلها كتب للرافعي]… يقول دبوز بالحرف: “ما أحوجنا في الجزائر إلى أدباء عباقرة يطهرون النفوس من أدرانها ببلاغة القرآن! وما أشد فقرنا إلى جيش من البلغاء يرابطون تحت راية القرآن؛ كالرافعي، ليغرسوا معانيه في النفوس.. لقد عاش الرافعي لدينه ووطنه، وقبل ذلك إلى الإنسان في إنسانيته، كان واسع الأفق، شدید الملاحظة، دقيق الوصف”؛ ليختم مقالاته السبع – وما أجملها من مقالات! وما أثراها!- بنصيحة، بأن ما يُحدث التغيير الحق والسعادة لا يقوى عليه إلا أصحاب الأقلام والألْسُن البليغة، فيجب أن تعمل مدارسنا في إحيائها في نفوس أبنائنا في الجزائر، فهي أكبر سلاح لمقارعة المحتل، ليس احتلال الوطن فحسب؛ وإنما من احتلال العقل والفكر.