تعدد سبل الخيرات واحتساب النية الصالحة
خطبة جمعة: تعدد سبل الخيرات واحتساب النية الصالحة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي فتح لعباده أبواب الخير وجعلها متعددة ومتنوعة، وجعل كل عمل صالح يُقرب إليه سببًا في نيل رضوانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، فإنها وصية الله للأوَّلين والآخرين، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
عباد الله، حديثنا اليوم عن تعدد طرق وسبل الخيرات واحتساب النية الصالحة، موضوع عظيم الشأن؛ لأننا نتحدث عن كيف يمكن للإنسان أن يجعل حياته كلها عبادة وطاعة لله، في كل لحظة من لحظات يومه، سواء في عمله أو بيته أو علاقته مع الناس، حتى في أبسط الأمور اليومية.
وسنتطرق لتغطية هذا الموضوع لعدد من المحاور التي توضح أهمية الموضوع وتبرز مكانته.
أيها الإخوة الكرام، إن الله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء، وقد جعل – سبحانه – للخير أبوابًا كثيرة لا تُحصى، ولم يجعل – جل وعلا – طريق الجنة محصورًا في نوع واحد من الأعمال؛ بل جعل الطاعات متنوعة لتلائم أحوال الناس المختلفة؛ فمنهم من يجتهد في الصلاة والصيام، ومنهم من يجد في الإنفاق والبذل، ومنهم من يبدع في خدمة الناس، وكلهم على خير إذا أخلصوا النية لله، قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”؛ [رواه مسلم].
تأملوا، أيها الإخوة، كيف أن الأعمال الصالحة تتدرج من أعظمها وهو التوحيد، إلى أبسطها وهو إزالة الأذى عن الطريق، وكلها تؤدي إلى مرضاة الله.
أيها الأحبة، النية الصالحة هي روح الأعمال، وهي التي تميز العادة عن العبادة، فكم من عمل دنيوي بسيط يتحول إلى عبادة عظيمة إذا كان القصد منه رضا الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”؛ [رواه البخاري ومسلم].
فالإنسان قد يأكل ويشرب وينام، وهذه أمور عادية في حياتنا، ولكن إذا نوى العبد بها التقوِّي على الطاعة، أصبح له أجر عظيم. حتى العلاقات الزوجية إذا كانت بنية إعفاف النفس وإعانة الزوجة فهي عبادة، كما جاء في الحديث: “وفي بُضْعِ أحدكم صدقة”، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: “نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”؛ [رواه مسلم].
ومن الأمور – أيها الإخوة – التي قد يظنها بعض الناس عادية ولا يدخلونها في باب العبادات: الإنفاق على الأهل والعيال، لكنه في ديننا الحنيف عبادة عظيمة إذا احتُسبت النية الصالحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصَدَّقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك”؛ [رواه مسلم].
أيها الإخوة، تأملوا هذا الحديث جيدًا، فإن أفضل الإنفاق عند الله هو الذي ينفقه الإنسان على أهله، لماذا؟ لأن فيه تحقيقًا لمعنى الرحمة والرعاية، وفيه تقوية لأواصر المحبة بين أفراد الأسرة.
أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ تنوع طرق الخير ينعكس إيجابيًّا على المجتمع بأسره، فحين يكون كل فرد في المجتمع مشغولًا بعمل الخير، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، تتحوَّل الأمة إلى كيان متكافل متعاون، قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
ومن صور التعاون على البر:
1. مساعدة المحتاجين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته”؛ [رواه البخاري].
2. الإصلاح بين الناس: وهو من أعظم الأعمال، قال الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].
واعلموا- رحمكم الله- أنَّ من أهم ما يُعين على إدراك فضل تعدُّد سبل الخيرات هو التفكُّر في حال السلف الصالح، وكيف أنهم سعوا جاهدين في الطاعات والقربات، واستثمروا حياتهم بما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة.
لقد حفظوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وطبَّقوه واقعًا في حياتهم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة”؛ [رواه البخاري ومسلم].
تأمَّلوا – رحمكم الله – كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا في هذا الحديث أبوابًا كثيرة للخير يمكن لكل مسلم أن يسلكها يوميًّا، ولا تحتاج إلى مالٍ أو جهدٍ كبيرٍ، بل مجرد حسن النية والعمل بما نستطيع.
والحاصل – عباد الله – أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى الأعمال الدنيوية على أنها أمور عادية لا أجر فيها، ولكن الإسلام – بحمد الله – وسَّع مفهوم العبادة ليشمل كل شيء يُقصد به وجه الله تعالى.
فإذا خرج المسلم إلى عمله بنية الكسب الحلال والقيام بواجبه تجاه أهله ومجتمعه، فإن ذلك يصبح عبادة يؤجر عليها، يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
فكل من يسعى في الأرض طلبًا للرزق، سواء كان طبيبًا أو معلمًا أو تاجرًا أو غير ذلك، إذا أخلص النية لله، فإن أجره محفوظ عند الله.
وتربية الأبناء على الخير والصلاح من أعظم القربات التي يبقى أثرها حتى بعد الموت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”؛ [رواه مسلم].
أيها الأحبة، من أعظم أبواب الخير التي حثَّ عليها الإسلام: الصدقة والإنفاق في سبيل الله، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وقد قال: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”؛ [مسلم].
إنَّ الصدقة لا تقتصر على المال، بل تشمل كل ما يُقدَّم من خير للناس، سواء بالمال أو بالطعام أو بالملبس، أو حتى بالكلمة الطيبة.
أيها الأحبة، لقد بيَّن لنا الإسلام أن كل عمل صالح، مهما كان صغيرًا، إذا اقترن بالنية الصالحة، فإنه يتحوَّل إلى عبادة عظيمة تؤجر عليها. فلنغتنم هذه الفرص، ولنجعل حياتنا مليئة بالخير والطاعات، ولنتواصَ بالحق والصبر.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، وأعنَّا على طاعتك وذكرك وشكرك، ووفقنا لاغتنام أوقاتنا فيما يرضيك، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل لنا في كل عمل صالح أجرًا عظيمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فيا أيها الإخوة، إنَّ الحديث عن تعدُّد سبل الخيرات واحتساب النية الصالحة يذكرنا بأننا مسؤولون عن كل لحظة من حياتنا، وأن الخير الذي نزرعه اليوم سنجني ثماره غدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك”؛ [الحاكم].
فلنحرص على أن نكون من أهل المسارعة في الخيرات، ولنجعل كل أعمالنا خالصة لوجه الله.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا لما تحب وترضى.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل فيها لأحد من الخلق شيئًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.