من ثمار الاعتراف عند الأشراف
من ثمار الاعتراف عند الأشراف
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد:
فقد قال الشيخ أبو هلال العسكري رحمه الله: “فكلُّ اعترافٍ إقرارٌ، وليس كلُّ إقرار اعترافًا“؛ [الفروق اللغوية له، ص: 60]، وأول الاعتراف يكون لله عز وجل، ثم لأهل الفضل، ثم اعتراف النفس بالخطأ، فهو على مراتب إذًا؛ وقد قال تعالى في حق الكفار والمشركين: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزمر: 38]، فهم قد أقرُّوا بنصِّ هذه الآية وغيرها من الآيات بأن الله خالقٌ رازقٌ، مُحيٍ ومميت، ومُسيِّر ومُدبِّر دون شريك له، لكنهم لم يعترفوا بحق العبودية له وحده، والْمُسْلِمُ معترِف بحقِّ العبودية له وحده، ومُقِرٌّ بربوبيته في الملك سبحانه وتعالى، فهذه بداية الاعتراف، ومن الاعتراف لله عز وجل هو الاعتراف بالنِّعم التي نتنعم بها كل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، وتتفاوت النِّعم من شخص لآخرَ؛ فهناك من له أموال وأولاد وأملاك، وهو مريض، وهناك من له صحة وعافية وعيش الهناء، لكنه فقير المال، وهناك من له كل شيء، لكنه يتيم الأبوين، وهكذا، والنعم لا تُحصى بعدد، وأفضلها نعمة الإسلام والسُّنَّة، ثم نعمة الإيمان والعلم، ثم نعمة الأمن والحرية، وبعدها نعمة الصحة والعافية، ثم نعمة المال والولد، ونعمة العقل…؛ إلخ، والاعتراف بالنِّعم للمُنْعِم علينا تكون بالشكر كما قال أهل العلم؛ فقد قال أحد العلماء: “أركان الشكر ثلاثة: التحدث بها ظاهرًا، والاعتراف بها باطنًا، وصرفها في طاعة مُسْدِيها ومُولِيها“، وهي بين الحمد والشكر لله ثم الثناء؛ مثل قول: “إن الله رحيم، إن الله حليم، إن الله محسن، إن الله كريم…؛ إلخ“، وهذا الاعتراف يكون من باب الصدق وعن طريق المحبة، فلا تَقُل: “لي كذا”، وليس لك شيء مما ذكرت، وأن تحب النعمة التي أنت فيها، فلا تسخط لقلَّتِها، ولا تذمها ولا تسُبها، كما يفعل البعض هداهم الله، فيلعن بيته أو سيارته، أو يلعن ولده أو عمله، أو تجده يدعو على نفسه وماله، وولده ومنصبه بالسوء، ومن هذا الاعتراف وكماله هو مشاركة فرحة هذه النعمة غيرك من المسلمين، سواء بالنصيحة حتى يكون لهم ما عندك، أو المساعدة بالمال، وغيره، وهكذا.
فالنعمة بعمومها هي سقف الحياة، فإن لم تكن الأعمدة سقط السقف على صاحبه، وأعمدة سقف النعمة هي شكر الْمُنْعِم عليها، وأعلى مراتب الاعتراف لله عز وجل هو توحيده وعبادته وطاعته في كل ما أمر ونهى، ومنه ذكره في السر والعلن ودعاؤه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والتصديق بكل ما أخبر عنه، ومحبة دينه ورسله، والإيمان بالغيب كما جاء دون تشكيك، والعمل بكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمرة هذا الاعتراف مغفرة الله لنا يوم القيامة، ورحمته الواسعة علينا، واستجابة دعواتنا في الدنيا، والزيادة في الخير والبركة في نعمه علينا، ثم بعد ذلك الاعتراف لأهل الفضل؛ ومنهم الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم جميعًا؛ فقد بلَّغوا هذا الدين كما أُمِرُوا، وكذلك العلماء الربانيون الثقات، الأحياء والأموات، فلولا هؤلاء كلهم، لعاش الناس كالبهائم، نعم هذا صحيح، فلا يفرِّقون بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، فالعلماء هم أولى الناس بالشكر؛ ولهذا قال بعض العلماء: “وإنما يعرِف الفضلَ لأهل الفضل أهلُ الفضل“، ومن أهل الفضل أيضًا أئمة الخير ومعلِّم الناس، والوالدان وأهل الإحسان، وكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من باب النصيحة، وطريق الدعوة إلى الله عز وجل، فهو من أهل الفضل، والاعتراف لهم يكون بذكر محاسنهم، وشكرهم على مجهوداتهم المبذولة، وأما الاعتراف لفضل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون باتباعه عقيدةً وعبادةً ومعاملةً، والصلاة عليه في كل وقت، وسؤال الله له الوسيلة؛ وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمِعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة))؛ [رواه مسلم]، وهو قول: (اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته)، وأما أهل الخير والإحسان من الناس في حياتنا ومن كان سببًا في تفريج كرباتنا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء))؛ [صحيح الجامع]، وفي رواية: ((… ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تَرَوا أنكم قد كافأتموه))؛ [رواه أبو داود وغيره]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس))؛ [رواه أحمد وغيره]، وفي الاعتراف بفضل الوالدين هو طاعتهما في المعروف، والدعاء لهما بالمغفرة والرحمة إن كانوا مسلمين، ومن الأموات.
وثمار هذه الاعترافات كثيرة؛ ومنها:
التوفيق للخير، والتوفيق لطلب العلم، والتوفيق لنشره، والتوفيق للسعادة في الحياة الدنيا والآخرة، والنجاة من فتن الدنيا؛ كالحقد والحسد، ثم بعد ذلك الاعتراف بأخطاء النفس، وهذا ينقسم إلى أربعة؛ منها ما في حق الله؛ كالتقصير في العبادة، أو فعل ذنب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((أكْثِروا ذكرَ هادم اللذات؛ الموت، فإنه ما ذُكِرَ في قليل إلا كثَّره، ولا في كثيرٍ إلا قلَّله))؛ [رواه الترمذي وغيره]؛ أي: إذا ذُكِرَ في طاعة قليلة كثَّرها، وجعلك تزيد فيها، وإذا ذُكِرَ في معصية كثيرة، قلَّلها وجعلك تنقص منها، وتتوب لله عز وجل.
ثانيًا: في حق الناس، وأنت الظالم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عِرضِه أو من شيء، فليحلله منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، وإن كان له عمل صالح، أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ، أُخِذَ من سيئات صاحبه، فحُمِلَ عليه))؛ [رواه البخاري]، وقد جاءت في بعض الحكم يُقال فيها: (لذة الاعتذار تكون حينما يبتسم لك من اعتذرت له).
ثالثًا: الاعتراف لنفسك بنفسك من نفسك، فهي لها نقائص تراها أنت، وتتغاضى عنها، إما من باب العناد أو الجهل؛ مثل: الرياء والغرور، أو الإعجاب بالنفس، أو الحسد أو التقصير في طاعة، وكذلك البخل على نفسك إن كنت صاحبَ مالٍ أو علم، وأما من سُئِلَ عن علم لا يتقنه؛ فقد قال العلماء: (من سُئل وهو لا يعرف، وقال: لا أدري أو لا أعلم، فقد أجاب)، فهناك من يجيب عن أسئلة لا يعلم حقيقتها، فيُدخل أنفه فيما لا يقدر عليه، فلو اعترف لنفسه بالجهل، ما تجرأ على الفتوى بغير علمٍ وغيرها، وقد نُسب للإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:
كلما أدَّبني الدهر أراني نقص عقلي وإذا ما ازددتُ علمًا زادني علمًا بجهلي
|
ونُسب للإمام أحمد رحمه الله أنه قال: “كلامُنا رأيٌ فمن جاءنا بخير منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده“، فهؤلاء من كبار أهل العلم، بل هم من كبار السلف، وانظر كيف أدَّبوا نفوسهم، ولم يغتروا بعلمهم، فاعترفوا بالضعف والقلة.
رابعًا: الاعتراف بحقوق الطبيعة والجن، فلا تُفسد فيها ولا تظلم الحيوانات أو الطيور؛ كالصيد العشوائي وغيره، وحق الجن هو ذكر الله في أماكن تواجده، فتعترف لنفسك بأنك مقصر حتى تصلح أحوالك، وتقارن نفسك بين الأمس واليوم، وما الذي تغير حتى تحسنه مستقبلًا، وتصلح ما تبقى من أثر الفساد، ومن ثمار هذا الاعتراف هي التوبة إلى الله عز وجل، والتوفيق إليها منه، وتعيش حياة مليئة بالصلاح والإصلاح، ونور الهداية والثبات على الاستقامة، وعند حسن الخاتمة، وعلى عمل صالح، فتعيش حياة سعيدة في الدنيا بميزان الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.