كن أنت الأفضل (خطبة)
كُنْ أنتَ الأفضل[1]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون؛ إن من الصفات الحسنة للنفس البشرية: أن تكون ذات همة عالية، وتطلُّع مستمر إلى المنازل السامية، مُحِبَّةً للصدارة والسبق، كارهةً للتأخُّر والبطء.
قَالَ الشاعر:
عَلَيْك بأرباب الصُّدور فَمن غَدا مُضَافًا لأرباب الصُّدور تصدَّرا وإيَّاك أَن ترْضى صحابة نَاقص فتنحطّ قدرًا من علاك وتحقرا[2] |
ومن الصفات السيئة في الإنسان: أن يكون دني الهمة، بطيء الخطى على مدارج القمة، لا يُحرِّكه تنافس المتنافسين، ولا السعادة التي تغمر المتسابقين.
عباد الله؛ إن ديننا الحنيف قد جاء ليصلح النفس الإنسانية، فيحلِّيها بأجمل الخصال، وينقِّيها من سيِّئ الأخلاق والأفعال، ويحثها على أن تكون هي الفاضلة لا المفضولة، والسابقة لا المسبوقة.
ألا وإن المظاهر التي تحتاج من الناس إلى المراجعة والتصحيح: الرضا بالدون، والقناعة بالسيئ مع القدرة على الحسن والأحسن، والانتصار للنفس والهوى على حساب الانتصار للدين والعقل والمروءة.
لكن الإنسان العاقل يحب أن يكون هو الأفضل والأكمل، ولا يرضى لنفسه بالسفول والتأخُّر، سواء كان ذلك في أمر الدين أم الدنيا، أو في معاملة الخالق أم المخلوق، فأيما رايةٍ رفرفت على قمة خير وبر، وفضل وسبق؛ حرص عليها، وسابق إليها.
قيل لعَرَابةَ بن أوس بن حارثة الأنصاري: بأي شيء سدت قومك؟ فقال: والله، إني لأعفو عَنْ سفيههم، وأحلم عَنْ جاهلهم، وأسعى فِي حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عَنْ فعلي فأنا خير منه، فقيل: لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك:
رَأَيْتُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسمُو إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ[3] |
أيها المؤمنون؛ ليكن المرء منا هو الأفضل إذا جاءت الخيرات، وبدت الأعمال الصالحات، وصار الناس فيها على منازل ومراتب، فهذا عكاشة بن مِحْصَن رضي الله عنه يسمع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ)) فلم يتريث عكاشة، ولم يجعل أحدًا يسبقه إلى مثل ما سأل، فقام فقال: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ)) ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((سَبَقَكَ عُكَاشَةُ))[4].
إن الرجل الأفضل- معشر الفضلاء-إذا رأى فرجة إلى خير بادر إليها، متى أعرض غيره عنها، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ)).
والرجل الأفضل يختار أكمل الخير ولا يرضى لنفسه بأقله، فعن عمران بن حصينٍ رضي الله عنهما قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: السلامُ عليكُمْ، فردَّ عليه، ثُمَّ جلَس، فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَشْرٌ)) ثُمَّ جاءَ آخرُ فقال: السلامُ عليكُمْ ورَحْمَةُ الله، فردَّ، فجَلَس، فقال: ((عِشرونَ))، ثُمَّ جاءَ آخَرُ فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبَركاتُه، فردَّ، فجلَس، فقال: ((ثَلاثون))[5]؛ أي: حسنة.
والرجل الأفضل يوم الجمعة يختار الساعة الأولى أو ما قرب منها للذهاب لصلاة الجمعة ولا يتأخَّر إلى تقريب البيضة، أو يأتي بعد صعود الخطيب إلى المنبر.
فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((من اغتسل يومَ الجمعة، ثم راحَ في الساعةِ الأولى فكأنَّما قرَّب بَدَنَةً، ومن راح في الساعةِ الثانيةِ فكأنما قرب بَقَرَةً، ومن راح في الساعةِ الثالثةِ فكأنما قرَّب كبشًا أقْرَنَ، ومن راح في الساعة الرابعةِ فكأنما قَرَّبَ دَجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بَيْضَةً، فإذا خرج الإمامُ حضرتِ الملائكة يستمعون الذِّكرَ))[6].
عباد الله؛ إن بِرَّ الوالدين طاعةٌ من أعظم الطاعات، وقُرْبةٌ من أجل القُرُبات، غير أن بعض الأبناء أو البنات قد يكون من أهل البِرِّ فيرضى الوالدان عنه، وربما يُفضِّلان تقديمه في الأمر والنهي، وطلب الحاجات على سائر إخوته؛ لركونهما إلى بِرِّه، وحُسْن جوابه لطلبهما، من غير مراجعة وتبرُّم؛ لكنه قد يتضجر ويقول بلسانه أو نفسه: لماذا أنا دائمًا! وليس فلانًا أو فلانًا، يريد من إخوته.
ألا فلتكن أنت الأفضل في بِرِّ والديك ولو أمراك وحدك دون إخوتك، ولو كلفاك أعمالًا ولم يكلفوهم؛ بل افرح أن والديك اختاراك لبِرِّهما، وأحسنا بك الظن لتلبية مطالبهما بغير عناء.
فكن أنت الأفضل من إخوتك في البِرِّ والإحسان.
وإذا كان هذا مع الوالدين فهو كذلك مع الأقارب؛ فإن أناسًا صالحين، قد يحسنون إلى الأقربين، غير أنهم لا يجدون منهم إحسانًا، ولا يرون منهم إلا قطيعةً ونكرانًا، فالرجل الأفضل يواجه القطيعة بالصلة، والإساءة بالإحسان، والجهل بالحلم؛ طلبًا لمرضاة الله تعالى.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم وَيقْطَعونني، وأُحْسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحْلُم عليهم وَيجْهَلون عليَّ! فقال: ((لئن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ-يعني: تلقمهم الرماد الحار- ولا يزالُ معك مِنَ الله ظهيرٌ عليهِمْ ما دُمْتَ على ذلك))[7].
أرأيتم – معشر الكِرام-كيف شجَّع رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا الرجل على استمرار فضله إلى أقاربه رغم إساءتهم المتنوعة إليه.
ويؤيد هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ؛ وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))[8] حثًّا منه عليه الصلاة والسلام على الأفضلية لا الفضل فقط.
وهذا شاعر كريم يخبركم عن أفضليته في حسن معاملته ذوي قرابته، مع سوء صنيعهم معه:
أيها الأحباب الكِرام، إن الجار قد يُسيء الجوار، ولا يعرف للإحسان طريقًا، ولا يوفي لجاره حقوقًا؛ لكن ليس من صفات الإنسان الكريم أن يواجه الإساءة بالإساءة، ويقطع الإحسان لعدم المكافأة؛ بل الأفضلية في الجوار: استمرارُ بذْلِ الندى، وكفِّ الأذى، وبقاء الإحسان، وتحمُّل جفاء الجيران.
فكن-أيها المسلم-أفضل من جارك صبرًا، وأحسن إحسانًا وشكرًا، وأكثر منه فضلًا وخيرًا.
“يروى أن رجلًا جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني، ويضيق عليَّ، فقال: اذهب، فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه”[10].
قال جار يمدح جارًا له اسمه حسين:
يا سائلي عن حسينٍ وقد مضى أشكالهْ أقل ما في حسينٍ كفُّ الأذى واحتمالهْ[11] |
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأخيار، ويحشرنا في زمرة الأبرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون؛ إن الإنسان حين يعامل الناس قد يجد فيهم أناسًا يحيدون عن المعاملة الحسنة، ويحبون الشَّرَّ والإضرار بالآخرين.
فيرى من بعضهم السفه والطيش، والبذاء والإيذاء، وتهييج المرء على الغضب والعدوان؛ لكن الدين والحكمة يحملان الإنسان على أن يكون هو الأفضل فيتعامل معهم بالحلم وكظم الغيظ، والصبر الجميل، ولا يختار لنفسه أن يشاركهم فيما هم عليه من السوء، فيصنع مثل صنيعهم أو يزيد عليه؛ بل لا يرضى لنفسه إلا السمو والأفضلية وتحمُّل المكروه الذي يصير بالحلم وحسن الصفح من المحابِّ والمسارِّ، قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 40 – 43]، وقال الله تعالى في صفات المتقين الذين هم صفوة المؤمنين: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
“كان عند ميمون بن مهران ضيف، فاستعجل على جاريته بالعشاء، فجاءت مسرعةً ومعها قصعة مملوءة فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون، فقال: يا جارية، أحرقتني، قالت: يا معلم الخير، ومؤدب الناس، ارجع إلى ما قال الله تعالى، قال: وما قال الله تعالى؟ قالت: قال: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ قال: قد كظمت غيظي، قالت: ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ قال: قد عفوت عنك، قالت: زِدْ؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ قال: أنت حرة لوجه الله تعالى”[12].
“وشتم رجل الشعبي فجعل يقول: أنت كذا وأنت كذا، فقال الشعبي: إن كنت صادقًا فغفر الله لي, وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك”[13].
كان معن بن زائدة أميرًا على العراق، وكان له في الكرم اليد البيضاء، وهو من الحلم على أعظم جانب، فقدم عليه أعرابي ذات يوم يمتحن حلمه، فلما وقف قال:
أتذكرُ إذ لحافُك جلدُ شاةٍ وإذ نعلاك من جلد البعيرِ؟ |
قال معن: أذكر ولا أنساه، فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك مُلْكًا وعلَّمك الجلوس على السريرِ |
قال معن: يا أخا العرب، السلام سنة، وشأنك في الأمير، فقال الأعرابي:
سأرحلُ عن بلاد أنت فيها ولو جار الزمانُ على الفقيرِ |
قال معن: يا أخا العرب، إن جاورتنا فمرحبًا بك، وإن رحلت فمصحوب بالسلامة، فقال الأعرابي:
فجُدْ لي يا ابنَ ناقصةٍ بشيء فإني قد عزمت على المسيرِ |
قال معن: أعطوه ألف دينار يستعين بها على سفره، فأخذها وقال:
قليلٌ ما أتيتَ به وإني لأطمعُ منك بالمال الكثيرِ |
قال معن: أعطوه ألفًا آخر، فأخذها وقال:
سألتُ اللهَ أن يبقيك ذخرًا فمالَك في البرية من نظيرِ |
فقال معن: أعطوه ألفًا آخر، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، ما جئت إلا مختبرًا حلمك لما بلغني عنه، فلقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قسم على أهل الأرض لكفلهم، فقال معن: يا غلام، كم أعطيته على نظمه قال: ثلاثة آلاف دينار، فقال: أعطه على نثره مثلها، فأخذها ومضى في طريقه شاكرًا”[14].
أيها الإخوة الكِرام، وقد يجد الإنسان في معاملة الناس من يغش ويكذب، ويخون ويغدر؛ لكن الخلق الكريم يفرض على المرء أن يكون أفضل منهم فلا يعاملهم بمثل هذا السوء، بل يصدق ولو كذبوا، ويكون أمينًا ولو غشوا وخانوا، موفيًا ولو أخلفوا وغدروا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك))[15].
وتجد – أيها المسلم- في معاملة الناس من يحصل بينك وبينه خصام وقطيعة، فالفضل والكرم وسمو النفس أخلاق تأمرك أن تقطع حبل القطيعة والهجران، وتبدأ بالمصالحة، فتكون أنت الأفضل؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا, وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ))[16].
وفي معاملة الناس تجد من يستدين فيُماطل في القضاء مع قدرته على الوفاء، وهذا خلق رديء.
والحق يكون بالمسارعة إلى القضاء عند القدرة؛ لكن الفضل لمن شاءه أن يزيد المدينُ الدائنَ فوق حقِّه شيئًا.
فعن جابر رضي الله عنه قال: (كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني)[17].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سِنٌّ من الإبل، فجاء يتقاضاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه))، فطلبوا سِنّه، فلم يجدوا إلا سنًّا فوقها، فقال: ((أعطوه))، فقال: أوفيتني أوفى الله بك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن خياركم أحسنكم قضاءً))[18].
أيها المسلمون، لنطلب دائمًا لأنفسنا أن نكون على وصف الأفضل في الخير ومعاشرة الخلق، ولا نرضى لها بالدون أو السوء.
ولنجاهد أنفسنا حتى تكون مسارعة إلى فعل أحسن الأعمال، والتحلِّي بأجمل الخلال، ومتى غدونا كذلك أحبنا الله وأحبنا الخلق، وظفرنا بالنصر على أنفسنا وأهوائها، وفُزْنا بخيرات العاجلة والآجلة، فيا ربح من سمع حقًّا فوعاه، ويا فلاح من رأى بِرًّا فسابَقَ إليه مَنْ سواه.
نسأل الله أن يجعلنا من الأفاضل الصالحين، ومن المسارعين إلى الخير في كل حين.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على خير البَرِيَّة.
[1] ألقيت في جامع الشوكاني في: 12/7/ 1444هـ، 3 /2/ 2023م.
[2] خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي (5/ 104).
[3] أمالي القالي (1/ 274).
[5] رواه أبو داود، والترمذي، وهو صحيح.
[8] رواه البخاري.
[9] صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال (1/ 492).
[10] إحياء علوم الدين (2/ 212).
[11] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 61).
[12] إحياء علوم الدين (2/ 220).
[13] التبصرة لابن الجوزي (1/ 55).
[14] مجاني الأدب في حدائق العرب (5/ 116).
[15] رواه أبو داود والترمذي، وهو صحيح.
[18] رواه البخاري.