صلصال الطين
صلصال الطين
كان الظلام يلفُّ كل شيءٍ حوله، ولا يكاد يصل إلى سمعه إلا همسٌ يسيرٌ كأنه آتٍ من أماكن بعيدة جدًّا.
استمر على حاله هذه مدةً يسيرةً، ثم أحسَّ كأنَّ شيئًا يدفعه للانفصال عن هذا الجسد المرتبط به، ليخرجه من هذه الظلمة الحالكة التي بقي فيها تسعة أشهر، وبدأت عملية الخروج لكن بصعوبة لا عهد له بها.
أيد تمتد لتسحب رأسه من ممر ضيق لا يتجاوز بضعة سنتيمترات، يندفع خارجًا مع ضغطة نَفَس، ثم يرجع مع ارتدادها، وبعد معاناة وصراخ استطاع أن يخرج من تلك الظلمة متجاوزًا ذلك الممرَّ الضيق، فلم يملك إلا الجهش بالبكاء.
انقطع الصراخ الذي كان من حوله، وانقلب إلى زغاريد وبسمات؛ لكن هو لم يكفَّ عن البكاء وإن صار يرى النور لأول مرة!
يومًا فيومًا يزداد نموُّه، ويزداد عدد أيامه في النور، وإن كانت تقل في ذات الآن! لكنه سعيدٌ، فكُلُّ مَن حوله لا يفتر عن لثمه وتقبيله وضمِّه وحملِه، وإن كان قد ظلَّ ما يُفارقه البكاء!
اشتدَّ عودُه شيئًا فشيئًا، زاد اعتمادُه على نفسه في قضاء حاجاته، ظهر له أنه ليس كل العالم يحبُّه كما كان يظنُّ مِن قبل، حتى هو نفسه لم يعد بريئًا كما كان؛ ظهر فيه حرص وبُخْل وطمع، ورغبة في البقاء في النور لا تتزعزع، وازدادت أيام بقائه في النور، وإن كانت تقل في ذات الآن!
اكتمل نموُّه الجسمي، ونضج نموه العقلي، وعاش حياة النور بكل ما فيها؛ فجاع وشبع، وظمأ وروي، واجتهد وكسل، ونجح وأخفق، وأحبَّ وكره، ووالى وعادى، وضحك وبكى، وطار من الفرح وكاد أن يموت كمدًا من التَّرَح، وذاق مرارة الحرمان ولذة الوجدان، وترقَّى في المناصب وترأَّس في المحافل، وهاب أقوامًا وهابه آخرون، وظَلم وظُلم، وجنى على غيره وجُني عليه، وازدادت سنواته في النور وقلَّت في ذات الآن!
وبعد برهة أحسَّ بعسكر الشيب يغزو رأسَه صارخًا بأعلى صوته: آن لك أن ترحل عن النور وترجع إلى الظلام، لم يأبه لتهديده، وكيف له أن يفكر في هذا الرحيل، وهل وصل إلى النور إلا قبل قليل؟ إنَّ بقاءه في النور – وإن كان الناس حوله يقولون إنه سنوات- ليس في إحساسه إلا مجرد لحظات يذكر تفاصيل بعضها جيدًا!
كان يستعين على الشيب بالحناء والأصباغ لينسى تهديده وصراخه الذي لا ينقطع؛ لكنها كانت دائمًا تُغطي الشيب ولا تستأصله.
وبعد برهة! أحس بضعف قواه عما كانت عليه، نقص سمعه وبصره وكل حواسِّه، انحنى ظهره، لم يمكنه الحركة إلا بصحبة العصا!
وفجأة! داهمه جيش من الأوجاع لا يعرف أن يولي الأدبار، استعان عليه بعسكر من الأطباء والأدوية لكن فهِمَ حين حمي الوطيس أن مهمة هذا الجيش تنفيذ تهديد الشيب الذي ظهر في رأسه، وإخراجه من النور!
أحسَّ في نهاية المعركة أن شيئًا كان لم يزل معه هو الآن في طريقه للصعود وترْكِه في الأرض؛ أدرك أن هذا الشيء كان طِلبة جيشِ الأوجاع ليقتنع مَن حوله بضرورة أن يخرجوه من النور.
تمدَّد بعد المعركة بلا حراكٍ ولا إدراكٍ، جاءه قوم نزعوا ثيابه – بلا استئذانٍ- وصبُّوا عليه ماءً، ثم أخفوه في لفائف بيضاء، وفجأة أعادوه إلى الظلام الدامس بعيدًا بعيدًا عن النور.
بقي وحيدًا في الظلام، انتفخ، هجمت عليه ديدان الأرض، أكلته ولم تبق منه إلا العظام، ثم تحللت العظام، ثم لم يعد له بالوجود والنور صلة من عين ولا أثر!
قال له الملحدون وأشياعهم: “هذه قصة حياتك وقد انتهت، ولن تُبْعَث يوم القيامة، ولن تعود لك الحياة، ولن ترجع إلى النور مرةً أخرى؛ لأن ذلك خرافات وسذاجات”!