عظمة القرآن وتعظيمه (خطبة)
عظمة القرآن وتعظيمه
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب المشرق والمغرب، فاتخذه وكيلًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نزل الله عليه القرآن الكريم تنزيلًا، فرتَّل القرآن الكريم ترتيلًا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين عملوا بالقرآن الكريم ورتَّلوه بكرةً وأصيلًا، وعلى التابعين لهم في حمل هذا القرآن الكريم وسلِّم تسليمًا، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله، القرآن الكريم هو مصدر عِزَّة هذه الأُمَّة، مَن تمسَّك به نجا، وهُدِي إلى الصراط المستقيم، ومَن لم يؤمن به وأعرض عنه ضلَّ في الدنيا والآخرة؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإسراء: 9، 10] ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
القرآن كلامُ ربِّ البريَّة ذكرٌ لمن تذكَّر به، وموعظةٌ لمن اتَّعَظ به: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [الأنبياء: 50]، ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69].
ومن عَظمته وجَلاله، وقوة تأثيره، أنَّه لو خُوطِب به صُمُّ الجبال لتصدَّعت من خَشية الله: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].
وقد شَهِد الأعداء بعظمته، وسموِّ معانيه، وتأثيره في النفوس، فقد أتَى الوليد بنُ المغيرةِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا محمَّدُ، اقرَأ عليَّ القرآنَ، فقرَأ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، ولم يكد صلى الله عليه وسلم يفرغ من تلاوتها حتَّى قال الخَصمُ الألَدُّ: والله، إنَّ لَه لحلاوةً، وإنَّ عَليه لطَلاوَة، وإنَّ أسفَلَه لمورِقٌ، وإنَّ أعلاه لمُثْمِر، وما يقول هذا بشر! (رواه البيهقي في الدلائل والشعب (1/156) عن عكرمة مرسلًا، ووصله بعضهم).
وقد حكى الله سبحانه ما تواصى به المشركون فيما بينهم ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وذلك خوفًا من تأثير القرآن في القلوب، بعد عجزهم عن معارضته، وعن الإتيان بسورة من مثله، فذهبوا إلى تلك الأساليب السخيفة، لصرف الناس عن سماع القرآن الكريم؛ ولكن هيهات هيهات فإن الله وهو الحفيظ قد وعد بحفظه، ولن يُخلِف الله وعده: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فالقرآن محفوظٌ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل، وقد تحقَّق مِن وَعْدِ الله بذلك ما تقرُّ به عيون الموحِّدِين من حِفْظ القرآن في الصدور، وحفظه في السطور.
وما أكثر الحاقدين على القرآن الكريم! فمنذ أن ظهر على وجه الأرض، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ومعركتهم ضده دائرة في كل زمان ومكان، فمن محاولات اللغو فيه، والتنفير من سماعه، إلى التشويه والتحريف، ومن الكيد الخفي إلى العدوان الجلي، ومن العدوان الظاهر إلى التدنيس الجائر كما في عصرنا الحاضر؛ فقد نشرت وسائل الإعلام في الأيام الماضية أن بعض أعداء القرآن في الغرب حرقوا نسخًا من القرآن العظيم في ساحاتهم، وقد تكررت هذه الجريمة أكثر من مرة في دول غربية شتى، وهكذا بين الحين والآخر، يخرج داعر موتور، أو دعيٌّ مأجور، ينفس عن حقده، ويُبين عن عجزه؛ تارةً بمقالة ساقطة، وتارةً برسوم هابطة، وأخرى بمحتوى رخيص! وهكذا كما صنع أسلافهم: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].
استفزاز هزيل للإسلام والمسلمين بين حين وآخر من فاقدي القِيَم، باسم ما سمَّوه «الحرية»، وهي كذبة كبرى يُردِّدونها فصدقوها، وصدقها المفتونون من المسلمين، وليست من الحرية في شيء، إنما هي حرية الفساد والإلحاد والشذوذ الأخلاقي؛ ولكنه بإذن الله السقوط للهاوية نتيجة تبنيهم القيم المتحررة الداعية إلى الانحلال، وإفساد الفطرة وتغيُّر خلق الله وعبادة الشيطان، فهم في ظُلُمات بعضها فوق بعض!
إن مثل هذا الفعل الشنيع الذي استنكره عقلاء العالم ومنصفوه كان سببًا لأن يتعرف الناس إلى الإسلام، فدخلوا في دين الله أفواجًا؛ لعلمهم أنه الدين الحق للإنسانية جمعاء، وأن حقَّه أن يُوقَّر ويُعزَّر؛ ولكن ينطبق على مثل هذه الأفعال الرعناء قول الشاعر:
وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فضيلةٍ طُويَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ ما كان يُعرَف طيبُ عَرف العود |
فلا نبتئس معاشر المسلمين، فإن للقرآن ربًّا يحفظه، وللدين إلهًا ينصره، وها هم أهل القرآن يحملون راية الدعوة، في كل بقاع الأرض، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، فهل يستطيع مثل أولئك الأشرار الجبناء أن يطفئوا نور الله؟! كلا، فإن الله يأبى إلا أن يُتِمَّ نورَه ولو كَرِهَ الكافرون.
والمسلمون إزاء هذه التجاوزات التي تمسُّ الإسلام، بحاجة إلى رد فعل موحَّد، بالالتزام بإرشادات القرآن الكريم، وأولى أولياتها الدعوة: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، والتعامل مع عدوان المعتدي وَفْق هدي القرآن: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].
ومصير مُحبِّي الباطل والتردِّي الأخلاقي محسوم في القرآن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].
وإنكار حرق القرآن الكريم واجبٌ؛ لكن بالطرق المشروعة، لا بالصخب والمظاهرات وغيرها من البدع والمحدثات؛ بل بالعلم والحكمة، والبعد عن ردود الأفعال الوقتية، المخالفة لهدي الكِتاب والسُّنَّة.
إن من حق هذا القرآن تعظيمه وإجلاله وتوقيره، فإنه كلام ربِّنا العظيمِ الجليلِ، فتوقيره تعظيمٌ لله العظيم، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، قال النوويُّ: “أجمع المسلِمون على وجوبِ تعظيمِ القرآنِ العزيزِ على الإطلاقِ وتنزِيهِه وصِيانتِه”، قال القاضي عياض: “من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحَف أو بِشيءٍ، منه فهو كافِرٌ بإجماعِ المسلِمين”؛ التبيان في آداب حملة القرآن (ص151-152).
فعظِّموا هذا الكتاب، واحفظوه من عبثِ العابثين، وربُّوا النشء على تعظيم كلام الله وعدم الاستخفاف به، فهو رفعة وعِزَّة: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ))؛ رواه البخاري.
ونُعظِّم هذا الكتابِ العظيمِ، والفرقانِ المبينِ بالاستمساك به، تمسُّكًا صادِقًا، تُرى آثارُه في الأعمال والأقوال والأخلاق، كما أمر الله تعالى بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43]، والاستمساكُ به يكون باتباعِه، وإحلالِ حلالِه، وتحريمِ حرامِه، والاقتداءِ به، والتحاكُمِ إليه.
ونُعظِّم كتاب اللهِ بحُسْنِ تلاوته، وتصديقِ أخباره، وامتثال أوامِره واجتِنابِ نواهيه؛ فهلمُّوا إلى رحاب القرآن الكريم علمًا وعملًا، وتلاوةً وتدبُّرًا، وحفظًا وتجويـدًا، والقيام بحقوقه كما كان المسلمون الأوَّلون حقًّا وصدقًا، فكانت حياتُهم مرآةً صادقةً لهذا القرآن، فكسبوا النصر في جميع المعارك، وسدُّوا في وجوه أعدائهم جميع المسالك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، واتقوا الله عباد الله، وتمسَّكُوا بكتاب ربِّكم، فهو ذكركم ورفعة لكم، وعظموا كلام الله بإقامةِ حروفِه وحدودِه، وتعظيمِ شأنِه والسَّير على منهاجِه، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، واحذروا من هجر القرآن: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
اللهُمَّ اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصَّتُك يا رحيم يا رحمن، واجعلنا ممَّن يقرأ القرآن فيرقى، ولا تجعلنا ممن يقرأ القرآن فيشقى، واجعل القرآن شفيعًا لنا ومشفعًا.
اللهم وفِّقْ وليَّ أمرنا ووليَّ عهده لما تُحِبُّ وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأعذنا من الفتن والشرور، وانصر جنودنا المرابطين في الثغور.