كثرة النقد بلاء!
كثرة النقد بلاء![1]
ما أحسنَ النقدَ حين يكون بنَّاءً، وما أجودَ التعليقَ حين يكون دافعًا إلى الأفضل، حافزًا إلى التقدُّم والتطوير، باعثًا للهِمَم، مشجِّعًا على المزيد، فالمرءُ قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ولا يبلغ البنيانُ التمامَ إلا بتضافُر الجهود والتشاور والتناصح.
وما أسوأَ النقدَ حين يغدو بلاءً، وداءً عَياءً، لا نجاةَ منه ولا شفاء.
إذ إنَّ بعض الناس يستمرئُ أمرَ النقد، ويبالغ في تتبُّع الهفَوات والأخطاء، ويغلو في تكبير الهنات وكشف السَّوءات، فترى أحدَهم لا همَّ له إلا إبراز أخطاء الكتَّاب أو الدعاة أو الخطباء، كأنه موكَّل بتتبُّع عثَرات الناس، وفضح خَباياهم، والوقوف على عَوراتهم.
ويستبدُّ الأمر ببعضهم إلى التعجُّل بإصدار حُكم على من ينقده، ويتفاوت هذا الحكمُ بين التبديع والتكفير والإبعاد من رحمة الله سبحانه، وكأنه ملَكَ مفاتيحَ الجِنان، واقتدرَ على تحجير ما اتَّسَع، وتغليق ما انفتَح، وخفض ما ارتفَع.
وهو في هذا كلِّه يحسَبُ أنه يُحسِنُ صنعًا، ويفعل خيرًا، ويكشف ضُرًّا، ولا يدري أنه يسيء من حيثُ يظنُّ أنه يحسِن، ويضرُّ من حيثُ يظنُّ أنه ينفع، ويفضَح من حيثُ يظنُّ أنه ينصَح.
وقد نهى رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل هذا إذ قال: «يُبصِرُ أحَدُكُمُ القَذى في عَينِ أخِيه، ويَنْسى الجِذْعَ -أو قالَ الجِذْلَ- في عَينِه!».
وقد قِيل:
عَجِبتُ لِمَن يَبكي على فَقْدِ غَيرِهِ دُموعًا ولا يَبكي على فَقْدِهِ دَما وأعْجَبُ مِن ذا أن يَرى عَيبَ غَيرِهِ عَظِيمًا، وفي عَينَيهِ عن عَيبِهِ عَمَى |
وإذا ما اختبرت هذا المنتقِدَ وجدتَّه فارغًا من كلِّ شيء، لا يكاد ينفعُ الناس بشيء، ولا يشارك في بناء شيء، أو يُسهم في تأليف شيء، أو يشجِّع على عمل شيء، فتعجَبُ والله لأمره، ولا تملكُ إلا أن تقولَ له ما قاله المتنبِّي لنفسه:
لا خيلَ عندكَ تُهدِيها ولا مالُ فليُسعِدِ النُّطقُ إن لم يُسعِدِ الحالُ |
وإذا عجَزتَ يا أخي عن النُّطق بما يُسعِد وما يَسُرُّ فالسكوت أَولى بك، وأدبُ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم أخلَقُ بالاتِّباع حيث قال: «مَن كان يُؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فليَقُل خَيرًا أو لِيَصمُت».
والحقُّ أن البيتَ الأخير من هذه الأبيات يصوِّر مَكمَنَ العلَّة عند هؤلاء؛ لأنهم يظنُّون أنفسَهم فوقَ الآخرين، ويبرِّئون أنفسَهم ممَّا يتَّهمون به الآخرين، وهي علَّة وَبيلة من علل النفوس المريضة، يحتاج المُبتلى بها إلى علاج سريع قبل استفحال دائه، واليأس من شفائه.
ولعلَّ من صور العلاج أن يُحسنَ المرءُ الظنَّ بالآخرين، ويلتمسَ لهم المعاذير، فما كلُّ من أخطأ أو جانب الصواب، أو زلَّ له قلمٌ أو لسان.. يُجبَـه بالإنكار والنكير، أو يسارَعُ إليه باللَّوم والتعزير، فقد يكون لما قاله وجهٌ من الصواب، وقد يكون لما كتبه مَنزعٌ إلى مذهب مقبول، أو رأي صحيح، ولله درُّ دِعْبل إذ قال:
تَأَنَّ ولا تَعجَلْ بلَومِكَ صاحِبًا لعلَّ لهُ عُذرًا وأنتَ تلومُ |
ومن صور العلاج أن يحاولَ المرء صُنعَ ما يفيد، وتأليفَ ما ينفع، وسدَّ الثُّغْرات التي ينبغي أن تُسَدَّ، والمشاركة فيما يشاركُ فيه هؤلاء الذين يسارع في نقدهم؛ ليأتيَ بأحسنَ ممَّا أتَوا به، وليستدركَ ما وقعوا به من أخطاء، وما فاتهم من صواب، وما نقَصَهم من أشياء.
ومن صور العلاج كذلك أن يتبصَّر المرء في عيوبه، وينشغلَ بها؛ ليكفَّ عن عيوب غيره، فقد جاء في الحديث: «طُوبى لمَن شَغَلَهُ عَيبُه عن عُيوب الناس».
وقال أبو حامد الغزاليُّ: إذا أراد الله بعبد خيرًا بصَّره بعيوب نفسِه، فمَن كانت بصيرتُه نافذةً لم تخفَ عليه عيوبُه، فإذا عرَفَ العيوبَ أمكنَه العلاج. ولكنَّ أكثرَ الناس جاهلون بعُيوب أنفسِهم.
ولله دَرُّ من قال:
إذا شِئتَ أن تَحيا ودِينُكَ سالمٌ وحَظُّكَ مَوفُورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ لِسانَكَ، لا تَذكُرْ بهِ عَورةَ امرِئٍ فكُلُّكَ عَوراتٌ وللنَّاسِ ألسُنُ |
وبعدُ، فيا أيُّها المولَعُ بالنقد، يا من لا يعرِفُ إلا الهدم، قُل لي بربِّك: أيَّ كتاب ألَّفت؟ وأيَّ مقالٍ حبَّرت؟ وأيَّ خيرٍ فعلت؟ وأيَّ نفعٍ قدَّمت؟!
أولئكَ قَومٌ إنْ بَنَوا أحسَنُوا البُنى وإنْ عاهَدُوا أوفَوا وإنْ عَقَدُوا شَدُّوا أقِلُّوا علَيهِم لا أبا لأبِيكُمُ مِنَ اللَّومِ أو سُدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا |
ولتكُن على ذُكرٍ من قول أشجَعَ لجعفر:
[1] بقلم أ. د. محمد حسان الطيان: كلية القانون الكويتية العالمية.