الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم (خطبة)
الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم (خطبة)
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العَرَبَ والعَجَمَ، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17].
الحمد لله قامت بربها الأشياء، وسبحت بحمده الأرض والسماء، ولا زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فما من شيء إلا هو خالقه، ولا من رزق إلا هو رازقه، ولا من خير إلا هو سائقه، ولا من أمر إلا هو مُدبِّره ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، اعتزَّ بالله فأعَزَّه، وانتصر بالله فنصره، وتوكَّل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْره، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلل له رقاب عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك ومن تبعك بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، كان محمد صلى الله عليه وسلم رؤوفًا شفيقًا، يعود المريض، ويزور الفقير، ويخصف نعله، ويصلح ثوبه، وينظف بيته، ويُجِيب دعوات العبيد، فهو إذًا لا شك نَبِي كريم، الصادق الأمين، صاحب الخلق العظيم، جعل الله اليُتْم له مهدًا، لم يقل يومًا يا أبي؛ لأن أباه كان قد فارق الحياة؛ وإنما كان يقول يا رب، يا رب؛ لذلك أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، نشأ يتيمًا فقيرًا، حتى صار فاتحًا عظيمًا ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1].
نبي مرسل، وقائد مظفر:
أيها المسلمون، كانت تصرفاته صلى الله عليه وسلم في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل، لا على أنه قائد مظفر، فقد أبدى رحمةً وشفقةً على أمته، رغم أنه أصبح في مركز قويٍّ؛ لكنه توَّجَ نجاحَه وانتصارَه بالرحمة والعفو.
النبي مع قومه رحمة وعفو:
عباد الله، جاءه جبريل يومًا مرسلًا من رب العالمين بعد رحلة الطائف، وما فعله أهلها معه من أذى وهُزْء وسخرية، يريد أن ينتقم له: “لو أردْتَ أن يطبق عليهم الأخشَبَينِ لفعل”؛ والأخشبان: جبلان في مكة، فكان رده مغلفًا بالشفقة، ممزوجًا بالرحمة، محاطًا بالرأفة: ((لا يا أخي، يا جبريل، إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم مَنْ يعبده، ولا يُشرك به شيئًا)).
وفي غزوة أُحُد شجَّت رأسه، وكسرت رباعيته، وسال الدم من وجهه، ومع كل ذلك كان يدعو لقومه لا عليهم: ((اللهُمَّ اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
لقد عقمت أرحام النساء أن تأتي بمثله، وعجزت أخلاق البشر أن تحاكي خلقه، كيف؟! ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الأدب الرفيع، والقيم العالية، والخلق العظيم.
تناغم فريد:
أيها المسلمون، إنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى في كلا المستويين: الديني والدنيوي، وإن هذا التناغم الفريد الذي لا نظير له -للتأثير الديني والدنيوي معًا- يخوله أن يعتبر أعظم شخصية أثرت في تاريخ البشرية.
إنَّ التاريخ الإنساني على وجه الأرض لم يعرف عظيمًا من العظماء، ولا زعيمًا من الزعماء، ولا مُصلحًا من المصلحين، استوعب في صفاته الذاتية والعقلية والنفسية، والخلقية والدينية والروحية، والاجتماعية والإدارية والعسكرية والتربوية ما استوعبته شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما اختصَّه الله به من الكمالات التي تشرق في كل جانب من جوانبها، وتضيء في كل لمحة من لمحاتها، حتى استحقَّ أن يصفه الله عز وجل بالنور في مثل قوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].
بذوغ فجر الأمل:
عباد الله، لقد بزغ فجر الأمل، متمثلًا في مولد خَيْر البشر صلوات ربِّي وسلامه عليه، فكان ميلاده ميلاد أمَّةٍ، وبعثتُه بعثة رَحمة، ومَقدَمُه مقدم رسالة جاءت لتغيِّر مجرى التاريخ، فهو صلى الله عليه وسلم بَيَّض وجهَ الأرض، وعطَّر نَسيم الكون، ونظَّم شؤونَ الحياة، غيَّر هذا الواقع السيِّئ، ورفعَ المعاناة عن كاهل البشر، وقضى على أبي جهل وظُلمه، وأثمرت دعوة الإسلام التي جاءنا بها الأمل من جديد، ((إنَّما بُعِثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاقِ)).
كانت حاجة العالَم إليه صلى الله عليه وسلم حاجة المريض إلى الشِّفاء، والعطشان إلى الماء، والعليلِ إلى الدواء، والنَّظر تتمنَّاه العين العمياء.
كيف لا؟! إخوة الإسلام عباد الله، كيف لا يكون مقدمه مقدم رسالة وقد اجتباه ربه وتولَّاه، حفظه الله ورعاه، عصمه الله وكفاه ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
كيف لا يكون ميلاده ميلاد أمة؟! وقد جمع الناس من شتات، وأحياهم من موات، وعلمهم من جهالة، وهداهم من ضلالة، فإذًا أنت أمام أمة عظيمة الأركان، قوية البنيان ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
كيف لا يكون بعثته بعثة رحمة؟! وهو لم يبعث لقبيلة من القبائل، ولا للون من الألوان، ولا للسان من الألسن، ولا للهجة من اللهجات؛ بل جاء رسولًا للخلق أجمعين ورحمة للعالمين ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
كيف لا؟! وقد لقبه أعداؤه قبل البعثة بالصادق الأمين، وبعد البعثة أنزل الله تعالى فيه قرآن يقول: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
كيف لا؟! وهو إمام الأنبياء، فقد صلى بهم إمامًا ليلة المعراج، وفيهم مَن فيهم مِن أُولي العزم من الرسل: إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا.
كيف لا؟! وطاعته من طاعة الله، من أطاعه أطاع الله ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].
كيف لا؟! والله كتب على العباد تعظيمه وتوقيره ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8، 9].
كيف لا؟! ولا إيمان لأحد إلا بالانصياع لأمره، والتسليم لحكمه ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
كيف لا؟! والله تعالى معه ضد عدوِّه يدافع عنه، ويحارب معه ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ [العلق: 17، 18].
كيف لا؟! وليس لأحد أن يتقدم بين يديه ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1].
كيف لا؟! وليس لأحد أن يرفع صوته عنده حيًّا أو ميتًا ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحجرات: 2، 3].
كيف لا؟! وقد أنزل عليه القرآن ليفرح ولا يحزن ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، ليسعد ولا يشقى: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2].
كيف لا؟! والله نهى البشر كل البشر عن أذاه، أو الزواج من أزواجه من بعده ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53].
كيف لا؟! ومَنْ آذاه فعليه لعنة الله في الدنيا والآخرة، ومن ثم العذاب المهين ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [الأحزاب: 57].
كيف لا؟! ومَنْ سَبَّه، أو شتمه، أو استهزأ به، كفاه الله تعالى ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95].
كيف لا؟! ومَنْ تطاول على مقامه الرفيع، ومنزلته العالية انتقم الله منه، وجعله عبرة للعالمين ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10].
كيف لا؟! ومن أطاعه دخل الجنة، ونال الشرف العظيم مع أطهر البشر، وأفضل الخلق ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
كيف لا؟! ومن كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ كَذِبًا عليَّ ليس ككذب على أحَدٍ، مَنْ كذِبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار))؛ رواه البخاري.
كيف لا؟! ومَنْ خالف أمره أصابته اللعنة والعذاب الأليم ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
كيف لا؟! وهو سيِّد ولد آدم يوم القيامة، وهو أول مَنْ ينشق عنه القبر، وهو أول من يحرك حلق الجنة، وأول شافع ومشفع، قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: ((أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع، وأول مشفع ولا فخر)).
كيف لا؟! وهو صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79].
كيف لا؟! وقد اصطفاه الله على العالمين، ورفع ذكره إلى يوم الدين ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1- 4].
كيف لا؟! وقد آتاه الله ما لم يؤتِ أحدًا من المرسلين ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].
كيف لا؟! وقد أعطاه الله ما تميَّز به عن الخلق أجمعين ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 – 3].
كيف لا؟! وقد بكى جذع النخلة؛ شوقًا وحنينًا لما تحوَّل النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلى المنبر، وكان الحسنُ إذا ذكر حديث حَنينَ الجذع وبكاءه، يقول: “يا معشر المسلمين، الخشبة تحِنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه”؛ أعلام النبلاء.
كيف لا؟! وقد عرج به إلى السماء، وصلى إمامًا بالأنبياء ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
كيف لا؟! ولما بعث النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم فتح الله به أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، وأقام به الملَّة العوجاء.
كيف لا؟! وقد جعل الله حبَّه في اتِّباع نبيِّه؛ ومن ثم ستر العيوب، وغفران الذنوب: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
كيف لا؟! وقد قالت له زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها لما ارتجف أول ما نزل الوحي: “والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمِل الكل، وتُقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق”؛ متفق عليه.
كيف لا؟! وقد قالت عنه زوجته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: “كان خُلُقُه القرآن، أو كان قرآنًا يمشي على الأرض”.
كيف لا؟! وقد قال عنه الصديق رضي الله عنه: “طفت العرب، وسمعت إلى فصاحتهم، فلم أجد أفصح من رسول الله لسانًا”.
كيف لا؟! وقد قال عنه أنس رضي الله عنه: “ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كَفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شممْتُ ريحًا ولا عرقًا أفضل من رائحة وعرق رسول الله صلى الله عليه وسلم”؛ متفق عليه.
حبه من حب الله:
أيها المسلمون، افترض الله على عباده طاعته ومحبَّته، وتوقيره، والاقتداء به، وجعل العزة والمنعة والنصرة والتمكين لمن اتَّبَع هداه، وترسَّم خُطاه، والذلة والصغار والمهانة على مَنْ خالف أمره وعصاه؛ لذلك فإن حبه صلى الله عليه وسلم يجري في أجسادنا كما تجري الدماء في عروقنا، ولقد استأثر عليه الصلاة والسلام بالحب الذي فاق الآباء والأمهات، والأبناء والإخوة والأخوات؛ بل طغى حبُّه على حب النفوس وزاد، كيف؟! عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))، وفي رواية لمسلم: ((حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين))، قالها الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن عبدًا خُيِّر بين الدنيا ولقاء الله، فاختار لقاء الله؛ ففهم الصدِّيق أن المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى، وقال: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بل نحن نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا”.
هذا هو رسول الله:
عباد الله، هذا هو رسول الله الذي أتانا ونحن نسير في دروب الضلالة، فأخذ بأيدينا إلى طريق الخير والهدى، والحق والرشاد.
هذا هو رسول الله الذي وقف على منبره بقلب مُشفِق يقول: ((أنذرتكم النار))، هذا هو رسول الله الذي قال: ((اشتروا أنفسكم لا أُغْني عنكم من الله شيئًا))، ((اعملوا، فإني لا أُغْني عنكم شيئًا)).
هذا هو رسول الله الذي تمنَّى أن يرانا يوم قائلًا: ((وددت لو أننا رأينا إخواننا))، هذا هو نبيُّنا محمد الذي قال: ((إني فرطكم على الحوض)).
هذا هو حبيبنا محمد ومصطفانا، كان لكل نبي دعوة مستجابة، ادَّخَر عليه الصلاة والسلام دعوته لأمته يوم القيامة، هو يقول: ((أُمَّتي أُمَّتي))، والله يقول: “رحمتي رحمتي”.
القدوة، لقد كانت سيرته من أجمل السيَر، وصفاتُه من أنبل الصفات، وأخلاقُه من أعظم الأخلاق، وحياته من أروع الحياة وأوفاها وأشملها، كيف؟! ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 128، 129].
لذلك وجب الاقتداء بالصادق الأمين في أقواله وأفعاله، في بيعه وشرائه، في فرحه وتَرْحه، في حركاته وسكناته، في إشاراته ونظراته، في أدقِّ تفاصيل حياته، في حربه إذا حارَب، وفي سِلْمِه إذا سالَم، في تعاملاته مع أهله، مع أولاده، مع أحفاده، مع جيرانه، مع أصحابه.
لقد حوَّل الله له القِبْلة استجابة لمراده، وتلبية لرغبته، وتطييبًا لخاطره، ونحن يتوجَّب علينا اتِّباع سُنَّتِه، ودراسة سيرته، وحفظ دعوته، بالسير في مسلكه، وانتهاج منهجه؛ لأنه لا صلاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا باتِّباعه صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 21].
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا حبيبي يا رسول الله، اللهُمَّ اجعلنا مقتدين بسُنَّتِه، دارسين لسيرته، منفذين لأوامره، سائرين على منهجه.