الإسراف في الطعام والشراب
الإسراف في الطعام والشراب
من السلوكيات التي اتصف بها أكثر الناس اليوم الإسراف في الطعام والشراب، على الرغم من النهي الواضح الذي ورد في القرآن الكريم عن الإسراف، فقد قال جل جلاله في سورة الأعراف: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، والله سبحانه وتعالى لا ينهانا إلا عن شر يضرنا، ولا يأمرنا إلا بالخير الذي تصلح به دنيانا قبل آخرتنا.
وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الطعام والشراب:
فقد روى الترمذي في صحيحه عن مقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا مَحالة، فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسَه”؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، كما رواه ابن ماجه في سُننه عن نفس الصحابي: المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنٍ حسب الأدمي لُقيمات يُقمنَ صُلبه، فإن غلَبت الآدميَّ نفسُه، فثُلث للطعام، وثُلث للشراب، وثلث للنَّفَس”.
يقول ابن القيم في الجزء الأول من مدارج السالكين عن مفسدات القلوب: كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمس من أكبر مفسدات القلب، وقال: “وهذه الخمس تطفئ نوره، وتعور عين بصيرته، وتثقل سمعه، إن لم تصمه وتبكمه، وتضعف قواه كلها، وتوهن صحته، وتفتر عزيمته، وتوقف همته، وتنكسه إلى ورائه، ومَن لا شعور له بهذا فميت القلب.
ويقول: والمفسد له من ذلك نوعان: أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات، والثاني: ما يفسده بقدره وتعدى حده؛ كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات…..).
وقد بيَّن لنا العلم الحديث الفوائد الصحية العديدة لحديث الثلث:
يقول الدكتور د. عبدالجواد الصاوي عن الإعجاز العلمي في حديث الثلث: “لقد تعددت مظاهر استنباط العلماء للحِكَمِ الصحية في هذا الحديث، فقد أفرد ابن القيم في الطب النبوي فصلًا حول هديه صلى الله عليه وسلم في الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب، فقال: “والأمراض نوعان: أمراض مادية تكون عن زيادة مادة: أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية، وهي الأمراض الأكثرية، وسببها: إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية، واعتاد ذلك أورثته أمراضًا متنوعة، منها بطيء الزوال أو سريعه، فإذا توسط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلًا في كميته وكيفيته كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير”.
وقال ابن القيم: “ومراتب الغذاء ثلاثة (أحدها): مرتبة الحاجة، (والثانية): مرتبة الكفاية، (والثالثة): مرتبة الفضلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته ولا تضعف معها؛ فإن تجاوزها: فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب، وصار محمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع”.
الحجم الأقصى للمعدة:
يختلف حجم المعدة بحسب كمية الطعام التي تحتويها، فحينما يدخل الطعام إلى المعدة نجدها تنتفخ تدريجيًّا للخارج مستوعبة كميات أكبر وأكثر من الطعام؛ حيث تتمتع الألياف العضلية الملساء في المعدة بخاصية المرونة، حتى تصل إلى أقصى حد لها وهو حوالي لتر ونصف اللتر، ويظل الضغط داخل المعدة منخفضًا حتى تقترب من هذا الحجم بناءً على قانون لابلاس القائل بأنه: كلما ازداد قطر الجسم كلما ازداد التقعر في جداره، فلا تسبب زيادة قطر المعدة ارتفاعًا في الضغط داخلها إلا بدرجات ضئيلة جدًّا، وبما أن حجم المعدة حوالي 1500 مل يمكن تقسيم حجم المعدة إلى ثلاثة أقسام متساوية، سعة كل قسم نصف لتر (500مل).
ثلث حجم المعدة الفارغ ضروري لِنَفَسِ الإنسان:
هناك علاقة حيوية بين المعدة والتنفس؛ حيث تكمن المعدة في الجزء العلوي من التجويف البطني تحت الحجاب الحاجز مباشرة، وتستقبل الطعام بعد مضغه وبلعه ومروره بالمريء. وللمعدة قدرة كبيرة على تغيير حجمها، فهي تبدو صغيرة عندما تكون فارغة، وتتمدد كثيرًا بعد تناول وجبة كبيرة، وعندئذ يشعر الإنسان بعدم الراحة وصعوبة في التنفس، ويعني ذلك أن المعدة قد امتلأت أكثر من اللازم حتى أصبحت تشغل حيزًا يزيد عن المعتاد، فضغطت على الحجاب الحاجز، فأوجد هذا صعوبة في تقلُّصه وإعاقته عن الحركة إلى أسفل بالقدر اللازم لحدوث تنفس عميق.
الطعام وكيف يستفيد منه الجسم؟
يتكون الطعام الذي نأكله من البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون، والفيتامينات مخلوطة بأثر بسيط من معادن الأرض، ولقد هيَّأها الله سبحانه في صور شتى، وألوان مختلفة، وطعوم جذابة، ليتناولها الإنسان بشغف، ويستفيد الجسم من الطعام بتحوله إلى مكوناته الأولية، وتحرر الطاقة الكامنة فيه بين جزئيات مواده وذراتها عبر عملية تسمى بالتمثيل الغذائي التي يمكن تلخيصها بعمليتي البناء والهدم، ففي عملية البناء تستخدم مكونات الغذاء المختلفة بعد تحلُّلها بالعصارات الهضمية وامتصاصها في بناء الخلايا الجديدة، والمركبات الحيوية المختلفة، وفي عملية الهدم يقوم الجسم بحرق مكونات الطعام بخطوات دقيقة ومتدرجة حيث تؤكسد فيها: الكربوهيدرات، والبروتينات والدهون، منتجة ثاني أكسيد الكربون، والماء، والطاقة، ويستفيد الجسم من الطاقة التي حصل عليها في تشغيل أجهزته المختلفة، وفي الحركة، وفي إنتاج الحرارة اللازمة لحفظ درجة ثابتة لا تتغير، وما يزيد عن حاجته منها يخزن في مخازن خاصة تستجلب عند الحاجة إليها.
مصير الطاقة الفائضة:
تفيض الطاقة عن حاجة الجسم الفعلية وتختزن في داخله، إما على هيئة مواد غذائية مكثفة تنطلق منها الطاقة الكامنة فيها عند أكسدتها، كالدهون المختزنة تحت سطح الجلد وداخل الجسم، والبروتينات المختزنة في العضلات وخلايا الأنسجة الأخرى، والجليكوجين المختزن في الكبد والعضلات، ويتم اختزان الطاقة على هذه الهيئة أثناء المرحلة المتوسطة من التمثيل الغذائي؛ حيث تكون المركبات الكيميائية الناتجة من السكريات والأحماض الأمينية والدهون متشابهة إلى حد بعيد، ويمكن عندئذ تحويل كل منها للآخر ومقادير هذه الطاقة المختزنة في الشخص البالغ الذي يزن 70 كجم تصل إلى 166 ألف كيلو كالوري تشكل الدهون فيها أعلى نسبة، وهذه الطاقات تكفي لحياة الإنسان من شهر إلى ثلاثة شهور لا يتناول فيها طعامًا قط.
امتلاء المعدة بالطعام يؤثر على أجهزة الجسم:
حينما تمتلئ المعدة تمامًا تضطرب مضخة التنفس، ولا يصل كل الدم الوريدي غير المؤكسد إلى القلب بسهولة، وإذا لم تنقبض عضلة الحجاب الحاجز بالقدر المطلوب بسبب امتلاء المعدة، سيؤدي ذلك بدوره إلى عدم قدرة الرئتين على التمدد الكامل؛ نظرًا لعدم إتمام اتساع القفص الصدري وبالتالي فلا يحصل تبعًا لذلك دخول الهواء بالحجم الطبيعي أو المدي إلى الرئتين، وتتدخل عندئذ عضلات الطوارئ في إحداث تنفس عميق؛ مما يؤدي إلى ضغط محتويات التجويف البطني لتفريغ مساحة لاتساع التجويف الصدري، وهذا بدوره يؤدي إلى شدة واضطراب يؤثر على جميع أجهزة الجسم المختلفة، أما إذا ترك ثلث المعدة أو أكثر منه فارغًا وهو ما يوازي حجمه حجم الهواء الطبيعي الداخل للرئتين (500 مل)، فإنه بذلك يؤدي إلى تنفس انسيابي مريح، وانصباب سهل للدم الوريدي للقلب، وبهذا يظهر الأثر الضار لامتلاء المعدة على كل من الجهاز التنفسي والدوري عند الإنسان. كما أن امتلاء المعدة بالطعام يؤثر سلبًا على هضمه؛ حيث إن تمدد جدار المعدة يثبط نشاط عضلات هذا الجدار، فيؤدي بدوره إلى تأخير وإعاقة الهضم”؛ انتهى كلامه.
ومن المؤسف أن نجد هذا الإسراف لدى الناس يتأكد أكثر في رمضان:
فنجدهم يحشون بطونهم بالطعام حشوًا، وكأنه شهر الطعام لا شهر الصيام، ويتفننون في رمضان في صنع الطعام ما لا يتفننون في سواه، فيصنعون الحلوى، ويبالغون في أصناف الطعام وكميته، ولقد كان سلفنا يجعلون من رمضانهم زهدًا ورضًا بالقليل، وقناعة بما يجدونه أمامهم من الطعام، بينما صار رمضان الخلف مبالغة في الطعام والشراب، وتكديسًا للبطن، وإنفاقًا للمزيد من المال، وإضاعة في المزيد من الوقت على الطعام والشراب.
وقد بيَّن لنا العلم الحديث فوائد الصوم لصحة الجسد:
فالصوم كما أنه يريح النفس ويرقي الروح، فإنه يريح المعدة من الطعام، ويخلص الجسم من السموم، والطعام الصحي يعتمد على تناول الخضر والفاكهة والحبوب مع القليل من اللحوم، وأما حشو البطن بالحلوى والأطعمة المقلية والدهون والمعجنات، فهذا يضر الجسم ولا يعطيه حاجته، ويقلل من أثر الصيام في تنظيف الجسم من السموم وعلاجه للأمراض.
والعلم الحديث يؤكد أهمية الصيام لصحة الجسد: “إن الصيام يقوي جهاز المناعة في الجسم، كما أنه ينظف الجسم من السموم، فبالحرمان من الطعام لعدة ساعات يبدأ الجسم في الاعتماد على مخزونه المتراكم، فتنطلق السموم المخزنة لمدة أحد عشر شهرًا، كما أن الجسم يستخدم الكثير جدًّا من طاقته في عملية هضم الطعام، وعندما يصوم الإنسان تُستغل هذه الطاقة لتنظيف الجسم من السموم..”، عن موقع واحة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وقد “كشفت دراسة أمريكية جديدة أن الصيام المتكرر يخفض السعرات الحرارية، ما يزيد كمية الخلايا العصبية التي تنشط الأعصاب، وهذا يساعد على شفاء الكثير من الأمراض، وكشفت الدراسة أن الصيام لمدة طويلة تصل إلى عشرة أيام متتابعة مع اتباع نظام غذائي مبني على الخضراوات يساعد مريض التهاب المفاصل على تخفيف الآلام الناتجة عنها، كذلك الحال بالنسبة للأمراض الخاصة بالقلب، وأن فوائد الصيام تظهر أيضًا على مرضى ارتفاع ضغط الدم في حال الصيام لمدة اثنى عشر يومًا، كما يؤثر الصيام على مرضى السكري؛ حيث يفرز الجسم الكوليسترول الذي يستخدم الدهون كمصدر للطاقة بدل من الجلوكوز؛ مما يجعل الخلايا الدهنية بالجسم تنخفض، كما أن الصيام يقي من بعض أمراض السرطان، وله نفس قدرة العلاج الكيماوي بالنسبة لسرطان الثدي والجلد والمخ؛ حيث يبطئ نمو الأورام السرطانية، ويعد المواظبة على اتباع نظام للصوم مثبطًا لنمو الخلايا السرطانية.
وكشفت دراسات عديدة خلال الخمسين عامًا السابقة عن فوائد الصيام العظيمة، بشرط أن نتبع نظامًا غذائيًّا يعتمد على الفواكه والخضراوات والحبوب والتمر، تشمل الالتهابات المزمنة في الرئتين والأمعاء؛ حيث تبيَّن أن الصوم يرمم الأماكن المتضررة من مختلف أجزاء الجسم مثل المعدة والأمعاء والقصبات الهوائية وغيرها..”؛ عن موقع عبد الدائم الكحيل للإعجاز العلمي بتصرف يسير.
لذا فاحرصوا على أن يكون شهر صيامكم شهرًا يخلو من السرف، فيكون مرمِّمًا للجسد كما يرمم القلب، وما زاد عن حاجتكم، فأفيضوا به على عباد الله المحتاجين، ليكون نافعًا لكم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.