من آداب الصيام: عدم الوصال في الصيام
من آداب الصيام: عدم الوصال في الصيام
قال الماوردي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير: 3/ 471”: “أما الوصال في الصيام فهو أن يصوم الرجل يومه، فإذا دخل الليل امتنع من الأكل والشرب، ثم أصبح من الغد صائمًا، فيصير واصلًا بين اليومين بالإمساك لا بالصوم؛ لأنه قد أفطر بدخول الليل وإن لم يأكل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ”؛ (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)، فهذا هو الوصال المكروه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُواصِلُوا، قالوا: إنَّكَ تُواصِلُ[1]، قالَ: “إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي[2]، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصالِ، قالَ: فَواصَلَ بهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَومَيْنِ أوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الهِلالَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “لو تَأَخَّرَ الهِلالُ لَزِدْتُكُمْ كالْمُنَكِّلِ لهمْ”، وفي رواية في الصحيحين: “نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي”، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: “لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا”.
فالعِباداتُ أُمورٌ توقيفيَّةٌ تُؤدَّى كما أمر بها الشَّرعُ، وقد أُمِرْنا أن نتَّقِيَ اللهَ قَدْرَ الاستطاعةِ دونَ مَشَقَّةٍ على الأنفُسِ، وألَّا نتشَدَّدَ في الدِّينِ؛ لأنَّ النَّاسَ يختَلِفون في قُدُراتِهم وتحمُّلِهم، وحتى لا تمَلَّ النُّفوسُ مِنَ العِباداتِ ومِن أوامِرِ الدِّينِ. وفي الحَديثِ السابق يخبرُنا أبو هُرَيرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أُمَّتَه – رَحمةً ورِفقًا بهم[3] – عن مُواصَلةِ الصَّومِ بتَرْكِ الطَّعامِ لَيْلًا ونَهارًا، قَصْدًا وعَمْدًا؛ حيثُ إنَّ الوِصالَ لَم يُشْرَعْ للأُمَّةِ، وإنَّما هو خُصوصيَّةٌ مِن خُصوصيَّاتِه صلى الله عليه وسلم، وهذا من تمامِ شَفَقةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ورَحمتِه بأُمَّتِه، وخوفِه عليها من المَللِ من العِبادةِ والتَّعرُّضِ للتَّقصيرِ في بعضِ وظائفِ الدين، ويُخبِرُ أبو هُرَيرةَ رضي الله عنه في هذا الحديث أنَّ بعضَ الصَّحابةِ لَمَّا لم يمتَنِعوا عن الوِصالِ – لظَنِّهم أنَّ نَهْيَه صلى الله عليه وسلم نَهْيَ تنزيهٍ لا تحريمٍ – واصَل بهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّومَ يَومَينِ، ثُمَّ رأَوا هِلالَ شَوَّالٍ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: “لوْ تَأخَّر لزِدْتُكم”، أي: لَيْتَه تَأخَّرَ هِلالُ شَوَّالٍ حتَّى أَزِيدَ في عَددِ أيَّام الوِصالِ، “كالمُنَكِّل بهم حينَ أَبَوْا”، أي: قاَل ذلِك زَجرًا وتَأديبًا لهم؛ حيث كلَّفوا أنفُسَهم ما لا يَطيقون”.
الحكمة من النهي عن الوصال:
قال النووي – رحمه الله -: “قال أصحابنا: الحكمة في النهي عن الوصال؛ لئلا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات، أو يملها ويسأم منها لضعفه بالوصال، أو يتضرر بدنه أو بعض حواسه، وغير ذلك من أنواع الضرر”؛ اهـ (المجموع للنووي :6/ 358).
تنبيه:
واختلف أهل العلم في حكم الوصال، فمنهم من أجازه وقالوا: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رفقًا لأمته ورحمة بهم، فمن قدر على الوصال فلا حرج، وكان عبدالله بن الزبير – رضي الله عنهما – وغيره يواصلون الأيام، وحجة من ذهب إلى هذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تُواصِلوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ”، وبه قال أحمد وإسحاق بن راهويه، بينما كَرِهَ مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والأثر الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره، ولم يجيزوه لأحد، ومن حجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوه”؛ (أخرجه مسلم).
وحقيقة النهي الزجر والمنع، وقالوا لما قال لهم: “أني لست كهيئتكم”، أعلمهم أن الوصال له خاصة لا لغيره كما خص بسائر ما خص صلى الله عليه وسلم، وقد احتج من ذهب هذا المذهب بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ”، قالوا: ففي هذا ما يدل على أن الوصال للنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص، وأن المواصل لا ينتفع بوصاله؛ لأن الليل ليس بموضع للصيام بدليل هذا الحديث وشبهه، وروى عبدالله بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولا معنى لطلب الفضل في الوصال إلى السحر على مذهب من أراد ذلك؛ لقوله: “لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ”؛ (أخرجه البخاري ومسلم)؛ (انظر الاستذكار لابن عبد البر :3/ 334).
وقال ابن بطال – رحمه الله -: “فأما الصوم ليلًا فلا معنى له؛ لأن ذلك غير وقت للصوم، كما شعبان غير وقت لصوم شهر رمضان، وكذلك لا معنى لتأخير الأكل إلى السحر لمن كان صائمًا في رمضان إذا لم يكن تأخيره ذلك طلبًا للنشاط على قيام الليل؛ لأن فاعل ذلك إن لم يفعله لما ذكرناه، فإنه مجيع نفسه في غير ما فيه لله رضا، فلا معنى لتركه الأكل بعد مغيب الشمس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ”؛ اهـ (شرح صحيح البخاري لابن بطال :4/ 109).
[1] قول الصحابة رضي الله عنهم: “إنك تُواصِل” ليس فيه اعتراض، وإنما هو سؤال واستفسار عن شأنه صلى الله عليه وسلم، أنه يُواصِل وَيَنْهَى عن الوصال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان قدوة لأصحابه، وكان إذا أمرهم بأمر فَعَله.
[2] “إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي”، ليس على حقيقته؛ قال ابن كثير رحمه الله: الأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًّا لا حِسيًّا، وإلا فلا يكون مُواصِلاً مع الحسي؛ اهـ، وقال ابن حجر: وقال الجمهور: قوله: “يطعمني ويسقيني” مجاز عن لازِم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكِل والشارِب، ويُفيض عليّ ما يَسِدُّ مَسَدَّ الطعام والشراب، ويَقْوَى على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كِلال في الإحساس، أو المعنى: إن الله يخلق فيه مِن الشبَع والريِّ ما يغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحس بجوع ولا عطش؛ اهـ.
وحُمِل على اكتفائه صلى الله عليه وسلم بالذِّكر في حال الوصال؛ قال ابن القيم رحمه الله عن الذِّكْر: قُوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بِمَنْزِلة الجسم إذا حيل بينه وبين قُوتِه، وحَضَرْت شيخ الإسلام ابن تيمية مَرَّة صَلَّى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب مِن انتصاف النهار، ثم التفتَ إليّ، وقال: هذه غَدْوَتي، ولو لم أتَغَدّ الغداء سقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا؛ اهـ.
[3] وفي حديث عائشة – رضي الله عنها- قالت: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ…”؛ (رواه الإمام مسلم)، وقد قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].