خطبة: فقه الصيام وأحكامه (1)
فِقْهُ اَلصِّيامِ وَأَحْكَامِهِ (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فليس بيننا وبين رمضان إلا أيام معدودة، ومن لوازم الاستعداد لرمضان الفقهُ بأحكام الصيام، فما هو الضروري من أحكام الصيام؛ حتى نكون على بيِّنة من أمرنا؛ فالصوم عبادة، والله عز وجل يُعبد بالعلم؟
وحتى أبسط لكم الأمر؛ أتناول هذه الأحكام على شكل مسائل مرقَّمة؛ حتى تستطيعوا التركيز معي، فأعيروني القلوب والأسماع حتى نخرج جميعًا بفوائدَ تنفعنا.
المسألة الأولى: على من يجب الصيام؟
عباد الله: الحديث عن الصيام في كتاب الله تركَّزَ في سورة البقرة، وإن ورد الحديث عنه في آيات أخرى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 183، 184].
وقفة مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، الخطاب موجه للمؤمنين العقلاء البالغين، ذكورًا كانوا أم إناثًا، الذين انتفت عنهم الموانع، فهؤلاء يجب عليهم الصوم عند الاستطاعة، ويتفرع عن هذه المسألةِ المسألةُ الآتية.
المسألة الثانية: حكم صوم الأطفال.
الذين هم دون البلوغ لا يجب عليهم الصوم، ولكنه مستحب في حال قدرتهم على ذلك؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يدربون أبناءهم على الصيام؛ فعن الربيع بنت معوذ، قالت: ((أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرًا، فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا، فليَصُمْ، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوِّم صِبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن – الصوف – فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار))[1]، والمقصود أنهم يُلهونهم بشيء إلى حين غروب الشمس؛ قال أشهب: “يُستحب لهم إذا أطاقوه”[2]، وقال عمر رضي الله تعالى عنه لسكران في رمضان: “ويلك وصِبياننا صِيامٌ”، فضربه، ثم أمر فضُرب ثمانين سوطًا، ثم سيَّره إلى الشام[3]، فنستفيد من فعل عمر رضي الله عنه أمرين؛ الأول: أن الأبناء يصومونهم، والثاني: تأديب من يجهر بالفطر في رمضان، ولا يحترم حرمة الصيام ولا شعور المسلمين، ولذلك نبع مِن بينِنا مَن يفعل ذلك بدعوى الحرية، وإنما هم يحادون الله ورسوله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والخلاصة أنه ينبغي تحفيز الأبناء؛ كأن تعطيه لعبةً في الحاسوب مثلًا، أو في التطبيقات الذكية، أو تعده برحلة، أو بهدية… ولنَدَعْ عنا الدلع والشفقة الزائدة ونحن نقول في أمثالنا المغربية (اللي فش ولدو غشو)، ويقول القائل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوهُ وما دان الفتى بحجًا ولكن يعلمه التدين أقربُوهُ |
ومن يتحرَّ الخير يعطَه، ومن يتقِ الشر يوقَه.
المسألة الثالثة: حكم الصيام:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]؛ ﴿ كُتِبَ ﴾؛ أي: فُرض عليكم، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))[4]، فالصيام فرض وركن من أركان الإسلام، بالكتاب والسنة والإجماع.
وعُرِّف بأنه: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع (الشهوة)، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع مقارنة النية[5]، ومن خلال هذا التعريف نخرج بمسائل فقهية كثيرة؛ منها:
المسألة الرابعة: أدلة التعريف أولًا:
دليل الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة: قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]؛ مفهومه إذا تبين لكم طلوع الفجر فأمسكوا إلى الليل بغروب الشمس، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((يقول الله عز وجل: الصوم لي، وأنا أجزي به، يَدَعُ طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))[6]، فذكر ترك الطعام والشراب، وذكر نية القصد لله سبحانه.
المسألة الخامسة: مسائل فرعية تتعلق بالطعام والشراب؛ منها:
5-1- مسألة الحقن: وهي الإبر وهذه لا نص فيها؛ لأنها لم تكن بهذا الشكل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي قسمان؛ القسم الأول: إبر غير مغذية تُعطَى لتسكين الآلام أو للتقوية أو غير ذلك، فهي غير مغذية؛ لأنها ليست بطعام ولا شراب؛ قال الفقهاء: لو حلف شخص أنه لا يأكل ولا يشرب وأخذ حقنة، هل يفطر؟ قالوا: لا، إذًا ليست في معنى التغذية، القسم الثاني: إبر تُؤخَذ من الوريد ويُقصد بها التغذية، فهذه تفطر، ولو لم تكن عن طريق الفم، ويرى أصحاب فقه الاحتياط تأجيلها إلى الليل إن أمكن.
5-2- مسألة القيء: هل يفطر الصائم أو لا يفطره؟ الذي عليه العمل لدى الفقهاء هو العمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضِ))[7]، والمعنى من تعمَّد القيء، فقد أفطر وعليه القضاء، ومن غلبه القيء، فلا قضاء عليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الفطر لما دخل ليس لما خرج”.
5-3- مسألة الحجامة: هل تفطر الصائم أو لا تفطره؟ الجمهور على أنها لا تفطر؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم))[8]، وردوا على حديث أفطر الحاجم والمحجوم[9] بأنه منسوخ، لكن من خشِيَ على نفسه الضعف يتركها.
5-4- مسألة التبرع بالدم: هل التبرع يفطر الصائم أو لا يفطره؟ ما قلناه في الحجامة يُقاس عليها التبرع بالدم، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما السابق: “الفطر لما دخل ليس لما خرج”.
5-5- مسألة تذوق المرأة الطعام بلسانها: هل يفطر الصائم أو لا يفطره؟ الجمهور على جواز ذلك؛ ومن أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر: ((هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته))[10]، وقالوا: المتوضئ بماء البحر يشعر بملوحته ولو كان صائمًا.
5-6- مسألة السواك: هل يفطر الصائم أو لا يفطره، وخاصة إذا كانت فيه نكهة؟ يُقاس بماء البحر السابق معنا، ويقال هنا ما قلناه هناك؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة))[11]، وقالوا: المتوضئ بماء البحر يشعر بملوحته ولو كان صائمًا، وهذا عام في الصائم وغيره.
فاللهم فقِّهنا في ديننا، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:
فما زلنا مع بعض المسائل المتعلقة بالطعام الواردة في تعريف الصيام؛ ومنها:
5-7- مسألة معجون الأسنان: هل يفطر الصائم أو لا يفطره؟ يُقاس بالسواك السابق معنا، ما لم يصل فيه شيء إلى الجوف، وهناك من منعه سدًّا للذريعة.
5-8- مسألة المضمضة والاستنشاق: نفس ما قلناه في معجون الأسنان؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((وبالِغْ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا))[12]؛ أي: تُكرَه المبالغة سدًّا للذريعة.
5-9- مسألة الكحل: ليس بطعام ولا شراب ولا شهوة، فإذًا لا يُفطِر.
5-10- مسألة البخور: ليس بطعام ولا شراب ولا شهوة، فإذًا لا يفطر، وكذلك استنشاق الغبار، أو دخان السيارات…
5-11- مسألة الطِّيب: نفس ما قلناه في البخور.
5-12- مسألة بخاخ الربو: الذي يستعمله مرضى الربو – عفانا الله وإياهم – اختلف الفقهاء المعاصرون في بخاخ الربو: هل هو من المفطرات أو لا؟ وخلص المجتمعون في الندوة الفقهية الطبية التاسعة بالدار البيضاء أنه لا يفسد الصوم، وعليه فتوى الكثير من العلماء.
5-13- مسألة تبرد الصائم في اليوم الحار أو الاستحمام في البحر أو النهر: لا بأس في ذلك؛ لأن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، كان لها مخضب[13] تملؤه ماءً، فتجلس فيه وهي صائمة.
5-14- مسألة قطرة الفم والأنف: لا بأس فيها؛ فهي ليست بطعام ولا شراب ولا شهوة، ومن أقسم أنه لا يأكل ولا يشرب فوضع قطرةً في عينه أو أنفه، أنه لا يحنث؛ فإذًا ليست بطعام.
وحسبنا – عباد الله – ما ذكرناه من أحكام، ولنا وقفة أخرى مع أحكام جديدة مستنبطة من تعريف الصيام.
فاللهم فقهنا في ديننا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ آمين.
(تتمة الدعاء).
[1] رواه البخاري برقم: 1960.
[2] شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 1/ 282.
[3] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني: 11/ 69.
[4] رواه البخاري برقم: 8.
[5] المقدمات الممهدات، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي: 2/ 423.
[6] رواه أحمد في المسند برقم: 9112، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط بهامش المسند.
[7] رواه الحاكم في المستدرك برقم: 570.
[8] رواه البخاري برقم: 5694.
[9] صحيح أبي داود برقم: 2370.
[10] صحيح النسائي برقم: 4361.
[11] رواه مسلم برقم: 252.
[12] صحيح الترمذي برقم: 788.
[13] المخضب: عبارة عن حجر كبير منقور يُملأ بالماء.