{ ليدبروا آياته } (خطبة)
﴿ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾
الحمدُ للهِ العزيزِ الغفارِ، الواحدِ القهارِ، الجليلِ الجبارِ، ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، ولا ربَّ لنا سواهُ، ﴿ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8].
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومجتباه وخليله، المصطفى المختارِ.. صلَّي اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ، وعلى آله الأطهار، وصحابتهِ الأخيار، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا..
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وتدبروا القرآنَ، فإنمَّا تزكو القلوبُ وتصِحُّ بتدبُّر القرآنِ: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، واعلموا أنَّ بركة القرآن ونفعه إنما تُنالُ بالتدبر، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
معاشر الصائمين الكرام: لا يخفى على مُسلمٍ، أنَّ ذِكرَ اللهِ تبارك وتعالى، هو أفضلُ ما يفعلهُ العبدُ استثمارًا للمواسم الفاضلة، والأوقات المباركة.. فقد جاء في الحديث الحسن: “ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا بلى، قال: ذكر الله تعالى”.. ولا شك يا عباد الله أن أفضلَ الذكرِ هو قراءةُ القرآنِ الكريم، خصوصًا في رمضان المبارك، فرمضان شهر القرآن: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقر: 185].
والقرآنُ الكريم: هو سميرُ القلوبِ ومُستراحُها، وأنيسُ الأرواح وروحها، ونورُ الصدورِ وانشراحُها، ونعيمُ العقولِ وغِذائُها، وربيعُ الصائمين وحُداءُها.. ﴿ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].
القرآنُ المجيد: عزٌ تليدٌ لمن تولاه، وسُلمٌ مُوصلٌ لمن ارتقاه، وهُدىً مُستقيمٌ لمن استهداه.. تلاوتهُ درجات، وتدبّرهُ فُتوحات، وكُل حرفٍ منه بعشر حسنات.. ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]..
القرآنُ الحكيم: متانةُ بُنيان، وإشراقةُ بيان، وقوةُ بُرهان، وظهورُ سُلطان، ومعانٍ حِسان: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]..
القرآن العظيم: هو الصراطُ المستقيمُ الذي لا تميلُ به الآراء، والذكرُ الحكيمُ الذي لا تزيغُ به الأهواء، والكتابُ العجيبُ الذي لا يشبعُ منهُ العلماء، من قال به صدق، ومن حكمَ به عدل، ومن عمِل به أُجر..كلما ازدادت البصائرُ فيه تفكرًا، زادها هِدايةً وتبصرًا، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]..
نوهَ الله تعالى على عظمته فقال: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].. وأشادَ بعلو منزلته وشرفه فقال: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44].. وبين أنهُ أحسنُ الحديث وأفضلُه فقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [الزمر: 23].. وكتبَ له العلُوَّ والرفعة، فقال: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف: 4].. ووصفهُ بأنه روحٌ ونورٌ وهُدى فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].. وأقسَمَ اللهُ تعالى في سُورةِ الواقعةِ بقسَمٍ ما أقسم الله بمثله أبدًا.. فقالَ جلَّ وعلا: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [الواقعة:75- 76].. فالقسَمُ عظِيمٌ ليتناسبَ مع عَظمةِ جَوابِ القسَمِ.. وهو قولُهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ [الواقعة: 77].. فاللهُ تعالى يُقسِمُ قَسَمًا عظِيمًا على أنَّ هذا القُرآنَ كريمٌ، كثِيرُ العَطاءِ.. ثمَّ إنَّ هذا العَطاءَ القرآنيَ الكثيِرَ، فيهِ بركةٌ عَظِيمةٌ، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، والشَّيُ المباركُ هو الكثِيرُ النَّفعِ، فالعطاءُ القُرآنيُ كثيرٌ ومُبارَك، و﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].. تأمَّلْوا هذا الحديثَ الحسن: “يجِيءُ القُرآنُ يومَ القِيامَةِ فيقولُ: يا ربِّ حلِّهِ يعنى صَاحِبَهُ، فيُلبَسُ تاجَ الكَرامَةِ، ثمَّ يَقولُ: يا ربِّ، زِدهُ، فيُلبَسُ حُلَّةَ الكَرامَةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ، ارضَ عنهُ، فيرضَى عنهُ، فيقولُ: اقرأ وارتَقِ، ويزدَادُ بكُلِّ آيةٍ حَسنة”.. وتأمَّلْوا أيضًا هذا الحديث الصحيح: “أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللهِ وخاصتهُ”.. فإذا كانَ القرآنُ الكريمُ المباركُ، سَيُوصِلُ صَاحِبهُ لأنْ يُلبَسَ حُلَّةَ الكَرامَةِ، وأن يوضعُ على رأسه تاجُ الكَرامَةِ، وأن يَرضَى اللهُ عنهُ على رؤوس الخلائق، وأن يجعَلَهُ مِنْ أهلِهِ وخَواصِهِ، فهَلْ بعدَ هذا الكَرمِ من كَرمٍ، وهلْ بعدَ هذهِ البرَكةِ من بركةٍ.. من أجل هذا جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس تحسُّر أهلِ الجنَّةِ إلا على ساعةٍ مرَّت بهم لم يذكروا الله عزَّ وجلَّ فيها”.. ولا شك أنَّ أفضلَ ما يَعمُرُ به الصائمُ وقتهُ هو تلاوةُ كتابِ ربه، ومدارسته وتدبرهِ، والعنايةِ به فهمًا وتأملًا، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَرَتّلِ القُرْآنَ تَرْتيلًا ﴾ [المزمل: 4]، وقال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82].. فلَا شَيْءَ أَصْلَحُ لأحْوَالِ المسلمِ، ولا أعظمَ لهُ بركةً ونفَعًَا، مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الكريمِ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “ليس شيءٌ أنفعَ للعبد من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معانيه، ولو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها”.. ويقول الإمام وهيب بن الورد رحمه الله: “لم نجد شيئًا أرقَّ لهذه القلوب ولا أشدُّ استجلابًا للحقِّ من قراءة القرءان بالتدبر”.. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “من أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيءٍ من الكلام، لا منظومه ولا منثوره”.. ويقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: “من قُرئ عليه القرآن فليقدِّر نفسهُ كأنما يسمعه من الله يخاطبهُ به، وعندئذٍ تزدحم معانيهِ ولطائفهِ وعجائبهِ على قلبه”، وقال أيضًا: من استمع إلى القرآن فهمًا وتدبرًا، فلن يُعدم إرشادًا لحجة، وتبصرةً لعبرة، وتذكرةً لمعرفة، ودِلالةً على رُشد، وحياةً لقلب، وغِذاءً ودواءً، وشفاءً وعصمةً، ونجاةً وكشفَ شُبهة.. ويقول أحد كبار مفسري القرآن الكريم: “ومع كثرة النصوص الآمرة بتدبر القرآن، فأنَّ الغالبية قد اكتفوا بألفاظٍ يرددونها، وأنغامٍ يلحنونها، ونسوا أنَّ فائدةَ وبركةَ القرآن العظمى إنما هي في تدبر آياته، ولقد أمرنا الله عز وجل بقوله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82]، أي أفلا يتَدَارَسُونَ آيَاتِهِ، ويَسْتَلْهِمُونَ هِدَاياتِهِ، ويَتخَلَّقُون بإرشَاداتِهِ وتَوجِيهَاتِهِ، فَيُحَقِقون بذلك مُرادِ اللهِ، وينَالُونَ مَرْضَاتِهِ..
أيَّها الصائمون الكرام، لقد كان صيامُ المصطفى صلى الله عليه وسلم مُزدانًا بالإكثار من قراءة القرآن ومُدارسته وتدبره، ففي الصحيحين أنَّ جبريل عليه السلام كان يلقى النبيَّ صلى الله عليه وسلم كُل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن.. فَلَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ..
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]..
أقول ما تسمعون….
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]..
معاشر الصائمين الكرام: وهاهنا أمورٌ خمسة تعين على التدبر:
الأمر الأول: الفهم: يقول الامام الغزالي: تلاوة القرآن حقَّ تلاوته هو أن يشترك فيه اللسانُ والعقلُ والقلبُ والجوارح، فاللسانُ يُرتِّل والعقلُ يفهم والقلبُ يتعظ والجوارحُ تخشعُ وتلين.. ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]..
الأمر الثاني: الخلوة وقطع الشواغل: فالتدبر يحتاجُ للانفراد والخلوةِ واستجماعِ النفسِ، وتركيزِ العقل، فالقرآنُ عزيز، لن يُعطيك بعضهُ إلا اعطيتهُ كلك، لكأنَّ القرآنَ يقولُ لمن يُريده: فرِّغ قلبك من غيري أسكنهُ.. وأفضلُ ما يكون ذلك في جوف الليل، حيث السكون والهدوء التام، ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6]، وقال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].. ففي هدأة الليل تتفتح المغاليق، وتتقشع الحجب، ويرى العبد ببصيرته لا ببصره، ويقرأ بقلبه لا بلسانه، ويسمع بروحه لا بأذنه، يقول عمرو بن عبسة رضي الله عنه: “قلت: يا رسول الله هل من ساعة أقرب من الأخرى؟ أو هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال: “نعم، إن أقرب ما يكون الرب عزّ وجّل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عزّ وجّل في تلك الساعة فكن”..
الأمر الثالث: المعايشة وتنزيل الآيات على النفس، وأنك وحدك المخاطب بما تقرأ، يقول حبرُ الامةِ وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما إذا سمعت الله تعالى يقول: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فارعها سمعك، فإنما هي خيرٌ تؤمر به، أو شرٌ تُنهى عنه..
الأمر الرابع: الترتيل والتمهل والترسل: فهكذا كان هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مُسلم، كان النبيِّ صلى الله عليه وسلم: “يقرأ مترسلًا، إذا مرّ بآية فيها تسبيحٌ سبّح، وإذا مرّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرّ بتعوذٍ تعوذ”، أما السرعةُ والاستعجال فهو عدو التدبر، يَقولُ ابن القَيمِ رحمهُ اللهُ: كان للرسول صلى الله عليه وسلم حِزبٌ من القُرآنِ يَقرؤه ولا يُخِلُّ بهِ، وكانت قِراءتُهُ تَرتِيلًا لا هَذًَّا ولا عَجلةً، بل قِراءةً مُفسَّرةً حَرفًا حَرفًا، وكان يُقَطِّع قراءتهُ آيةً آيةً، وكان يمدُّ عند حُروفِ المدِّ، فيمدُّ (الرَّحمن)، ويمدُّ (الرَّحِيم)، وكان صلى الله عليه وسلم يُرتِلُ السُّورةَ حتى تَكُونَ أطولَ مِنْ أطولَ مِنهَا، وكانَ صلى الله عليه وسلم يَتغنَّى بالقرآنِ، ويُرجِّعُ صَوتَهُ بهِ.. وكل ذلك تنفيذٌ لأمر ربه جلَّ وعلا: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [الإسراء: 106]؛ أي على مهلٍ وتؤدة.. ومن حبائل الشيطان؛ أن يغريك بالمرور السريع على الآية ليفوتك خيرها، وتُحرِم بركتها..
الأمر الخامس: التكرار: فتكرار الآيات عدة مراتٍ يهزّ النفس، ويحرك القلب، ويُدرُّ الدموع، ويرسخُ المعاني، ويجلبُ السكينة والطمأنينة، وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر بعض الآيات كثيرًا، فعن أَبي ذَرٍّ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ وهي قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة، يُردِّد أحدهم الآية إلى الصبح، فقد قام تميم الداريّ رضي الله عنه يردد قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]، يرددها حتى أصبح، وقال محمد بن كعب: “لأن أقرأ في ليلتي حتى أُصبح بـ”إذا زلزلت والقارعة” لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر، أحبُّ إليَّ من أن أهذَّ القرآنَ هذًا”..
فتعاهدوا يا عباد الله كتاب ربكم وأكثروا من تلاوته وتدبره والعناية به، ففي الحديث الصحيح: أن مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.. وفي صحيح مسلم: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ”.. وفي الحديث الصحيح: “إنَّ للَّهِ أَهْلينَ منَ النَّاسِ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، من هُم؟ قالَ: هم أَهْلُ القرآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وخاصَّتُهُ”..
اللهم فاجعلنا من أهل القرآن الذين هم اهلك وخاصتك..
اللهم ارفعنا وانفعنا واسعدنا بالقرآن الكريم، واجعله حجة لنا لا علينا يا أكرم الأكرمين..
اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته وتدبره والعمل به على أحب الوجوه التي ترضيك عنا يا أرحم الراحمين..
اللهم صل على محمد….