الاكتئاب داء العصر
الاكتئاب داء العصر
الحمد لله وكفى، والسلام على عبده المصطفى؛ أما بعد:
فعصرنا هذا عصر انتشار الفتن بأنواعها، والمحن بأصنافها، كثرت فيه البلايا، وعمَّت فيه الرزايا، تبلَّدت فيه المشاعر، وظهرت فيه السرائر، وأُصيب الناس بداءٍ ربما يكون أخطر من جميع الأدواء، وأشدها فتكًا بالنفس، بل ربما أعظم من الأمراض العديدة والأوبئة الخطيرة، بل ربما أخطر من الأسلحة الفتَّاكة والقنابل المدمرة؛ إنه داء القلق، وضيق الصدر، والكآبة، والضجر، والتشكي وعدم الرضا؛ لأن هذه الأدواء البدنية والصحية يُلتمس لها العلاج، فيتعافى المرء من شرها ووبالها، ويعود إلى كامل صحته، أما هذه الأدواء، فلا علاج لها إلا أن يمُنَّ الله على عباده، ويرزقهم الشفاء منها، حتى غدا العديدُ ممن أُصيبوا به يعانون من ضنك الحياة وقسوتها، وضغط المشاكل وحِدَّتها، فلا يجدون لهم مؤنسًا يسليهم، فيخفف عنهم ما يعانون، ويكشف عنهم ما يجدون، فتراهم لا يعرفون لحياتهم طعمًا أو مذاقًا، ولا روحًا أو ملاذًا، وازدحمت العيادات النفسية بروَّادها، وكثُر تناول العقاقير المهدئة، فضلًا عن المخدِّرات المنوِّمة والمدمِّرة؛ مما دفع البعض منهم إلى التخلص من هذه الحياة بطرق شتى، والهروب من هذا الواقع المرير الذي يعيشون فيه، والحال الذي هم فيه؛ وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
والسبب في انتشار هذه الحالات بين شرائحَ من المجتمع في البلاد الإسلامية والعربية، فضلًا عن بلاد خَفَتَ فيها نور النبوة، وضاعت فيه القيم والمبادئ والأخلاق، يرجع في نظري إلى جملة من الأسباب؛ ومنها:
1- الإعراض عن ذكر الله وشرعه ودينه، والانشغال بالملهيات والمسليات، من متاع الدنيا وزينتها، والانغماس في الشهوات والمنكرات وملذاتها، حتى آثروا الفاني على الباقي، وغابت عند الكثير منهم المعاني الصالحة، والقيم النبيلة؛ كالحياء والسخاء، والشجاعة، والبذل والعطاء، والزهد والورع، والمسارعة إلى كل عمل صالح متبع، وخفت نور الإيمان في القلوب، وانطفأت جذوته عند الخطوب، ورحلت عن النفوس حقائق الإيمان، وحل محلها اليأس والقنوط من الرحمن، وعدم القناعة بالموجود، والتكالب والشح والاقتتال على حُطامها بدافع النفس الحقود، حتى أصبح الناس كالوحوش يلهثون وراء الدنيا، وحتى أضحت أعداد المولات والأسواق في البلد الواحد ربما يفوق عدد روَّادها، وحيث لم يُعهَد ذلك في السابق القريب، ومع تلك الزيادة في المأكل والمشرب والملبس، وهذا حقًّا مريب، ترى الكثير من الناس لا يشبعون ولا يكتفون بها، بل يبحثون عن المزيد، فتجد أحدهم عنده من الملابس على أنواعها وألوانها المئات منها، والحال هو في المشرب والمأكل، ومع كل ذلك لربهم لا يشكرون، بل ويشكون الخلق ويتذمرون، ولنِعَمِ الله وآلائه لا يحمدون، وللصحابة والسلف الصالح لا يتبعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- ومن أعظم أسباب الاكتئاب ما حلَّ بالأمة من هذا البلاء المستطير، والشر الأكيد المرير؛ وهو إفراط الناس في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعه، فبدلًا من استخدامها كوسيلة في نشر العلم والفضيلة، والتعلم والتعليم، والتواصي بالحق، فقد أصبحت وسيلة هدم وضياع، وقتل الوقت، وافتتان الشباب والشابات، والعكوف عليها، حتى عُبِد الجوَّال من دون الله سبحانه، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((تعِس عبدُالدينار والدرهم، والقطيفة والخَميصة، إنْ أُعطِي رضِيَ، وإن لم يُعطَ لم يَرضَ))[1]، وأصبح الجوال شغلهم الشاغل في الليل والنهار، وبالغدو والآصال، في الراحة والعمل، وعند النوم والكسل، فهو ينام معه ويصحو، ويختلي به حتى في بيت الخلاء، وفي مجالس الأفراح، وفي مجالس العزاء، بل يسهرون عليه من الليل إلى الصباح حتى في البرد ونزول المطر، فلا يبالون ما يصيبهم من شدة شغفهم به، وقد قيل: حبُّك للشيء يُعمي ويُصِم، ومن أغرب ما رأيت أنهم وبعد السهر في الليل على الإنترنت، فإذا حان وقت أذان الفجر وصلاة الجماعة، ذهبوا للنوم، حتى صد الكثير منهم هذا البلاءُ عما أوجب الله عليهم من الأوامر الشرعية، والشعائر التعبدية، التي فيها حياتهم وسعادتهم، وعزهم وفلاحهم، فأعرض العديد منهم عن كتاب الله قراءة وتدبرًا، وتأملًا وتلاوة، والاستنارة بأنواره، والاستضاءة بضيائه، والاستشفاء بدوائه، وهجروه وتركوه، حتى المساجد لم تسلم من خطر هذا الوباء، وشر هذا الداء، فبدلًا من أن يتحلق المسلمون لتلاوة كتاب ربهم، وليتعلموا ما فيه من أحكام وأوامر ونواهٍ، ويحافظوا على سنة الاعتكاف في أجواء المساجد والجوامع – على سعتها وجمال عمارتها، وتوفر ما فيها من وسائل الراحة – والتزود من رياض القرآن، عكف البعض منهم على الجوال والتقليب في صفحاته، حتى غاب عن الكثير منهم ما خُلِقوا من أجله؛ ألَا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ونسُوا الغاية التي خُلقوا من أجلها؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 56 – 60]، والله المستعان.
3- ومن أسباب الاكتئاب الاهتمامُ بالغذاء الدنيوي من طعام وشراب وملبس – مع ضرورتها لقيام حياة الناس – التي فيها صحة الجسم، وقوة البدن، وأعرضوا عن الغذاء الروحي النفسي من تقوى الله العمل الصالح، والتزود للآخرة، الذي فيه سعادة القلب وانشراحه، وبه راحة الروح وسعادتها، وبهجة النفس وأُنسها، وحياة الروح ورَوحها، فترى العديد من الناس اليوم يقوم بالجانب الأول من الغذاء للبدن، فيهتم به فيرتاد المطاعم والمولات، والأسواق والنوادي والمتنزهات، حتى أضحى بعضهم يرتاد تلك الأماكن، وإن لم يكن بحاجة إليها، وإنما لقضاء الوقت وقتله، فيأكل وإن كان شبعانَ، ويشتري من أصناف أدوات المنزل وإن كان يملك العديد منها، ويدخر الكثير من أدواتها، واتجه الناس في البحث عن الراحة الجسدية، والمتع البدنية من مسابحَ وشواطئ وحدائق وأبراج عند البحر، ورصد الإعلانات على القنوات التي تعلن عن إقامة حفلة لمغنٍّ شهير أو مغنية في المهرجانات، حتى إن الملاعب والمسارح على سَعَتِها تمتلئ وتكتظُّ بالخَلق، والجمهور يصفقون ويصفرون، وفي غيِّهم يعمهون، أما مساجدنا، فقد خَلَتْ من حِلَقِ الذكر وقراءة القرآن، فتجد مساجدنا خاصة ما بين العشاء والمغرب خالية من المصلين، والذاكرين والخاشعين والمتعلمين، وعلى مقربة منها وليس ببعيد ترى الشواطئ ممتلئة بروادها، حتى أضحت بعض المساجد مُوحِشَة غريبة لخلوِّها من المصلين، وفارغة إلا من الإمام والمؤذن والخادم، والله المستعان.
والله دعانا إلى عمارة المساجد لا الأسواق، وبيوت الرحمن لا المسارح والمهرجانات؛ قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور: 36 – 38].
إن العلاج المفيد، والبلسم الشافي لكل الأدواء، وجميع الأمراض التي يعاني منها الناس اليوم هو القرآن الكريم الذي جعل الله فيه الشفاء والنقاء، والراحة والمعافاة من البلاء، فعلينا تلاوة القرآن في الليل والنهار كما كان سلفنا الصالح يتلونه حق تلاوته، ويتدبرونه، ويتمعنون في آياته، والعيش في ظلاله، والتنعم بنسماته ودلائله كفيل بأن يُخرِج من النفوس أدواءها، ويقتلع منها حب الدنيا وشهواتها، ويعيد إليها السعادة والروح والسرور، ويفتح مغاليق الخير في جميع الأمور، كيف وقد قال المولى في كتابه: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
القرآن الكريم يمنح الإنسان السعادة الحقة التي تملأ قلبه رضًا بخالقه، وتجعله منشرح الصدر، قريرَ العين، يبذل ما عنده من خير ومال بنفس طيبة راضية، وتدفعه إلى الصبر على الأقدار، والمسارعة إلى الاقتداء بالأخيار؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
ومن العلاج المفيد لحالات الاكتئاب كثرة التوبة والاستغفار، والبعد عن مواطن الفتن والأشرار، خاصة لمن لا يأمن على نفسه من الوقوع فيها، أو التلوث بشرها.
وينبغي التعامل الإيجابي مع وسائل الاتصال، واستعمالها فيما ينفع ويفيد من موعظة حسنة، أو خطبة مؤثرة، أو علم نافع في أحكام الدين، أو تعلم آية من سورة القرآن الكريم، أو الدرس على عالم من علماء المسلمين في الفقه والدين.
فالبِدارَ البدارَ إخوتي وأحبائي قبل فوات الأوان، وحلول الأجل، وضياع الفرص، سارعوا إلى كل عمل صالح يقربكم من المولى سبحانه؛ كالمحافظة على صلاة الجماعة، ومصاحبة الصالحين، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، واستغلال الوقت في الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، والصلاة على سيد البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أوصانا بهذه الوصية النافعة المفيدة التي هي أغلى من الذهب الخالص؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يَعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحَّتك قبل سُقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك)).
إن ما عند الله من النعيم المقيم، والأجر العظيم خير مما يتنافس اليوم فيه الخلق، ورحم الله سلفنا الذين عرفوا حقيقة هذه الدنيا، وقِصَرَ عمرها ومدتها، وأنها لو كانت تزن شيئًا ما سقى الله منها الكافر شربة ماء، وعرفوا حقيقة ما يسعون إليه من الأجر والثواب عند الله، فشمَّروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وجعلوا همَّهم فيما يصلح حالهم، ويقوي يقينهم وعزائمهم، فتزودوا من العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب الله، واستغلوا الوقت وأنفاس العمر فيما يعمر الدار الآخرة من كل عمل صالح مبرور نافع.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وردهم إلى دينك ردًّا جميلًا، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا، وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.