البكاء من خشية الله
البكاء من خشية الله
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحينٍ.
معشر الإخوة، حيَّاكم الله وأحياكم، وأطال أعماركم، وأحسن أعمالكم، وذخرًا للأمة أعدَّكم، تُعْلُون صروحها، وتضمدون جروحها، وتداوون قرُوحها، وللمِلَّة تسْمُون في سماها، وتحمون حماها، وترمون من رماها.
واعلم أن من الضمانات التي مَنَّ بها علينا رب الأرض والسماوات، ذاك الضمان الذي ينال بها شهادة مكتوب عليها: هذا حرام جسده على النار، إنها تلك القطرات المالحة التي يخرج من عين بكت من خشية خالقها، فتمحو بحار الذنوب وتدني العبد من رحمة علام الغيوب؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخِرَيْ امْرِئٍ أَبَدًا”، وَقَالَ: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ: “فِي مَنْخِرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا” [1].
(لا يلج النار)؛ أي لا يدخلها، (رجل بكى من خشية الله)، فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية، (حتى يعود اللبن في الضَّرع)، هذا من باب التعليق بالمحال؛ كقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]، (ولا يجتمع)؛ أي على عبد كما في رواية غير الترمذي: (غبار في سبيل الله ودُخان جهنم)، فكأنهما ضدان لا يجتمعان، كما أن الدنيا والآخرة نقيضان[2]؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 25 – 28]، عن أبي هريرة رضي لله عنه قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ، فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”[3]، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”[4].
يقول المناوي – رحمه الله -: (وعين بكت من خشية الله)؛ قال الطيبي: كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر: 28]؛ حيث وقع حصر الخشية فيهم غير متجاوزة عنهم، فحصلت النسبة بين العينين، عين مجاهدة مع النفس والشيطان، وعين مجاهدة مع الكفار والخوف والخشية متلازمان؛ قال في الإحياء: الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة إلى العلم والعمل[5].
وعن أبي أُمامَةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: “ليسَ شيء أَحَبَّ إلى اللَّه مِن قَطْرَتَيْنِ وأَثَرَيْنِ: قطرةُ دَمْعٍ مِن خشيةِ اللَّهِ، وقطرةُ دم يُهْراقُ في سبيلِ اللَّهِ، وأمَّا الْأَثَرانِ: فأَثَرٌ في سبيلِ اللَّهِ، وأَثَرٌ في فريضةٍ مِن فرائضِ اللَّهِ تعالى”[6].
وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “لأن أدمع من خشية الله أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بألف دينار”.
وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله، فتسيل دموعي على وجنتي، أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بوزني ذهبًا.
بكاء الملائكة:
وتعالَ أخي لترى بكاء من لم يعصِ قط مع الذين يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: “مَا لِي لَا أَرَى مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟!، قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ” [7].
عَنْ جَابِرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى جِبْرَائِيلَ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى”[8].
يقول المناوي: (مررتُ يوم أُسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس) بمهملتين أولاهما مكسورة – كساء رقيق على ظهر البعير تحت قَتَبِه – (البالي من خشية الله تعالى)؛ زاد الطبراني في بعض طرقه: فعرَفت فضل علمه بالله عليَّ؛ اهـ.
شبَّهه به لرؤيته لاصقًا بما لُطِيَ به من هيبة الله تعالى، وشدة فَرَقِه منه، وتلك الخشية التي تلبس بها هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم، حتى دعي في التنزيل بالرسول الكريم، وعلى قدر خوف العبد من الرب يكون قربه.
وفيه كما قال الزمخشري دليلٌ على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء؛ قال الحكيم الترمذي: وأوفر الخلق حظًّا من معرفة الله أعلمهم به وأعظمهم عنده منزلة، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، والأنبياء إنما فُضِّلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال، ولو تفاضلوا بالأعمال، لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته[9].
بكاء الأنبياء عليهم أفضل الصلوات وأزكي التسليم:
أما حال الأنبياء الأصفياء الذين هم خيرة الله من خلقه، فهم أشد وجلًا وخشية لله تعالى، وصفهم الله في كتابه، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58 ].
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم:
فهذا سيد ولد آدم عليه السلام، من غفر الله تعالى له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، يبكي حتى يبل الثرى من كثرة بكائه، عَن ابن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “اقْرَأْ علَّي القُرآنَ”، قلتُ: يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: “إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي”، فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 40 ]، قال: “حَسْبُكَ الآن”، فَالْتَفَتُّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ[10].
كَانَ فضَالة بن صَيْفِي كثير الْبكاء، فَدخل عَلَيْهِ رجل وَهُوَ يبكي، فَقَالَ لزوجته: مَا شَأْنه؟ قَالَت: زعم أَنه يُرِيد سفرًا بَعيدًا وَمَا له زَاد.
كَانَ الْحسن شَدِيد الْحزن طَوِيل الْبكاء، سُئِلَ عَن حَاله، فَقَالَ: أَخَاف أَن يطرحني فِي النَّار وَلَا يُبَالِي.
يَا من كَانَ لَهُ قلب فَمَاتَ يَا من كَانَ لَهُ وَقت ففات |
استغث فِي بوادي القلق ردُّوا عَليَّ ليَالِي التِي سلفت، احضر فِي السحر، فَإِنَّهُ وَقت الْإِذْن الْعَام، واستصحب رَفِيق الْبكاء، فَإِنَّهُ مساعد صبور، وَابعث سَائل الصُّعداء، فقد أُقيم لَهَا من يتَنَاوَل.
الْبكاء لأجل الذُّنُوب مقَام المريد والبكاء على المحبوب مقَام الْعَارِف.
قال ابن أبي ذئب: حدثني من شهد عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾[الفرقان: 13]، فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس، وقال سرار أبو عبدالله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه، فقال لي: يا سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إليَّ، إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف لنفس تغل يداها على عنقها، وتُسحب إلى النار ألا تبكي ولا تصيح، وكيف لنفس تعذَّب ألا تبكي.
[1] أخرجه أحمد ح 10567 الترمذي ح (1633) والنسائي ح 3108 قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 7778 في صحيح الجامع.
[2] تحفة الأحوذي. [جزء 5 – صفحة 215.
[3] رواه البخاري (629) ومسلم (1031).
[4] أخرجه الترمذي (1639) و الحاكم ح 2430 والطيالسي ح 2443، قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 3136 في صحيح الجامع.
[5] فيض القدير [ جزء 3 – صفحة 315 ].
[6] رواه الترمذي (1669) والطبراني في الكبير ح 7918، وحسنه الألباني في المشكاة ح 3837.
[7] رواه أحمد (12930)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ح 3664، وقال حسن لغيره ).
[8] – أخرجه الطبراني في الاوسط ح 4679؛ قال الشيخ الألباني: (حسن)؛ انظر حديث رقم: 5864 في صحيح الجامع.
[9] -فيض القدير، ج 5 ص 520.
[10] – البخاري ( 4763 ) ومسلم ( 800).