خاتم النبيين (43) حجة الوداع


خاتم النبيين (43)

حجة الوداع

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى صحبه والتابعين؛ أما بعد:

فمرحبًا بكم – أيها الكرام – في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأكارم، أسلفنا حديثنا في الحلقة الماضية عن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، وتحدثنا أيضًا عن وقفات تربوية في هذه القصة، ثم اتبعنا ذلك ببعض الأحداث التي حصلت وحدثت بعد غزوة تبوك، وفي حلقتنا هذه نتحدث عن الحدث الكبير في السنة العاشرة؛ وهو حدث حجة الوداع، فلما تمَّ ما أراده الله عز وجل من فتح هذا البلد العظيم؛ وهو مكة، وتم تطهيره من الأصنام والأوثان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المدينة لحجة الوداع، وقد سجل الرواة دقائق هذه الحجة، ورَوَوها للأمة لتكون شرعًا يسيرون عليه في أداء فرضهم، وسُمِّيتْ تلك الحجة بذلك؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ودَّع الناس فيها، ولم يحج بعدها؛ ففي ذي القعدة من السنة العاشرة نُودِيَ في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج، فتوافد الناس على المدينة، كلٌّ يريد أن يقتديَ برسول الله عليه الصلاة والسلام ويحج معه، ويقول جابر رضي الله عنه: فنظرت الحجاج مع النبي صلى الله عليه وسلم مدَّ بصري عن يميني وشمالي، وأمامي ومن خلفي، مشاة وركبانًا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وقد خرج معه أكثر من مائة ألف حاج، وكانت نساؤه كلهن معه في الهوادج، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى ذي الحليفة، وصلى في الوادي خمس صلوات، ثم اغتسل عليه الصلاة والسلام لإحرامه، وطيَّبتْهُ عائشة، ولبس الإزار والرداء، ثم صلى الظهر عليه الصلاة والسلام في ذي الحليفة، ثم أهلَّ بالحج والعمرة، فقَرَن بينهما وهو في المسجد، ثم أهلَّ مرة أخرى لَما ركب ناقته، ثم أهلَّ مرة ثالثة لَما كان على البيداء، وقال: اللهم حجة لا رياء فيها، ولا سمعة، ثم لبَّى عليه الصلاة والسلام بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، وقد أمره جبريل عليه السلام أن يأمر أصحابه برفع أصواتهم في التلبية؛ فإنها شعار، فكانوا رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم حتى تبح حلوقهم، وسُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أفضل الحج، فقال: ((العج الثج))، وفي ذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس رضي عنها زوجة أبي بكر، ولدت ابنها محمد بن أبي بكر، فسأل أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يأمرها أن تغتسل، وتستذفر بثوب، ثم تُهِلَّ بالحج، وتصنع كما يصنع الحاج، غير ألَّا تطوف بالبيت حتى تطهر، وخلال الطريق حصل مواقف وأحكام، وأكمل طريقه عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى سرف، فحاضت عائشة رضي الله عنها، فأمرها كذلك أن تفعل كما يفعل الحاج، غير ألَّا تطوف بالبيت حتى تطهر، ولما وصل إلى ذي طوى بات فيه عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح سار إلى مكة، ودخلها من أعلاها من كدا، ونزل بظاهر مكة عند الحجون، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ضُحًى، ثم دخله من باب السلام، ثم بدأ بالحجر الأسود، فاستلمه وقبَّله، ثم طاف بالبيت ماشيًا، ورمل ثلاثة منها، ومشى أربعة، واضطبع عليه الصلاة والسلام، وكان يقول بين الركنين: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ولم يثبت أنه كبَّر عند الركن اليماني، فلما فرغ صلى الركعتين خلف المقام، وقرأ فيهما بـ(الكافرون والإخلاص)، ثم عاد إلى الحجر، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قال: ((أبدأ بما بدأ الله به: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، ثم قال الذكر على الصفا، ثم مضى إلى المروة، وأكمل سعيه، ثم بعد أن أنهى ذلك، ذهب إلى الأبطح شرقي مكة، فأقام فيه أربعة أيام، ثم خرج في اليوم الثامن إلى مِنًى، وكان ذلك ضحًى، ومكث فيها يومه، فلما أصبح اليوم التاسع توجَّه عليه الصلاة والسلام إلى عرفة، وخطب الناس في عرفة خطبة عظيمة جليلة، فذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، وذكر شيئًا من أحكام الحج، وذكر تحريم الربا، وحقوق النساء، وتحريم الزنا، وغير ذلك من الأحكام، ثم أشهدهم أنه بلغ رسالة ربه، ثم اشتغل عليه الصلاة والسلام بالدعاء والتضرع والابتهال، حتى غربت الشمس، وهذا اليوم يوم عرفة هو يوم العتق والمباهاة؛ ففي صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))؛ [رواه مسلم]، ثم أفاض إلى المزدلفة بعد غروب الشمس، فنزل فيها، وجمع بين المغرب والعشاء، وأذِن للضَّعَفَةِ أن ينصرفوا قبل الناس، فكان ذلك في آخر الليل، فلما أصبح يوم النحر، وصلى الصبح، وأسفر جدًّا، انصرف عليه الصلاة والسلام إلى مِنًى قبل طلوع الشمس، وهذا هو السُّنَّة، وكان يسير إليها بسَكِينة، وكان يلبي في مسيره حتى شرع في الرمي، فلما أتى جمرة العقبة، جعل الكعبة عن يساره، ومِنًى عن يمينه، ثم رماها بسبع حصيات، وكانت الحصيات بمثل حصى الخذف؛ وعند الإمام أحمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فارموها بمثل حصى الخذف))، وما سُئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال: ((افعل ولا حرج))، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم مائة بَدَنَة، نحر منها هو بنفسه عليه الصلاة والسلام ثلاثًا وستين بدنة، وأكمل عليٌّ ما بقِيَ منها؛ وهو سبع وثلاثون بدنة، فلما فرغ من نحره، حلق رأسه عليه الصلاة والسلام؛ وفي صحيح مسلم يقول أنس رضي الله عنه: ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل))؛ [رواه مسلم]، وقد دعا عليه الصلاة والسلام للمحلقين ثلاثًا، ودعا للمقصرين مرة، ثم بعد ذلك حلَّ من إحرامه؛ لأنه رمى وحلق، ثم تطيب ولبس قميصه، ثم اتجه عليه الصلاة والسلام إلى البيت، فطاف به، ثم رجع إلى مِنًى، وأقام فيها ثلاثة أيام؛ وهي أيام التشريق، وكان خلالها يرمي الجمار بعد زوال الشمس، وبعد أيام التشريق اتجه إلى المحصب، فأقام فيه بقية يومه؛ وهو مكان بين مكة ومِنًى، ورقد فيه عليه الصلاة والسلام ثم قام سَحَرًا، فطاف طواف الوداع، ورخص للحائض ألَّا تطوف الوداع، فأسقطه عنها، ثم خرج من مكة متجهًا إلى المدينة، وكان مكثه في المشاعر ومكة عشرة أيام، ثم سار عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فدخلها نهارًا، واتجه إلى المسجد فركع ركعتين، ثم اتجه إلى بيته، وهكذا تمت هذه الحجة باختصار وإجمال، أيها الكرام، نختم حلقتنا هذه بشيء من العبر والدروس من هذه الحجة العظيمة؛ ومما ذلك ما يلي:

الدرس الأول: لقد تكاثر الناس، وتوافدوا على المدينة يريدون صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة؛ ليقتدوا به، ويصدروا عنه، فكلٌّ روى وفعل ما رآه من النبي عليه الصلاة والسلام، فكان تشريع ورواية للأمة من بعدهم إلى يوم القيامة، وهذا الاقتداء والحرص عليه يعطينا درسًا عظيمًا مهمًّا في جميع عباداتنا أن نكون مقتدين، ولا نفعل ما تمليه عليه نفوسنا، أو نسمعه من عوام الناس؛ فالعبادة لا تصح إلا إذا كانت خالصة لله تعالى، وصوابًا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما نرى البعض من الناس في الحج أو العمرة أو في العبادات الأخرى يرى الناس يعملون، فيعمل كما يعملون، وهذا جانب من الخطأ؛ فإن فعل عوام الناس فيه الخطأ والصواب، فيا أخي الكريم، إذا أشكل عليك شيء في عباداتك، فاقرأ عنه، واسأل أهل العلم ليفيدوك؛ فقد يبطل عمل العامل من حيث لا يشعر، وهذا كثير لمن تأمله، خصوصًا في المناسك.

 

الدرس الثاني: في قوله عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الحج العج الثج)) هو حثٌّ على كثرة التلبية، فهي المرادة بقوله: ((العَجُّ))، وعلى الهَدْيِ والذبح والنحر وكثرته؛ وهو الثَّجُّ، فالمسلم يستحب له أن يهدي في الحرم ما شاء من بهيمة الأنعام، ولو في غير الحج، فالسنة أن يسوقه معه من بلده أو من أدنى الحل، كما ساق صلى الله عليه وسلم هَدْيَهُ في الحديبية، وللمسلم أن يرسل هديه إلى مكة، ولو لغير الحج تقربًا لله تعالى، وهذا من السنن المندثرة، فعلينا بإحيائها، والعج هو الإكثار من التلبية، فيشرع للمحرم أن يكثر منها، خصوصًا إذا كان متنقلًا بين مشعَرَينِ من المشاعر.

 

الدرس الثالث: عندما نفست أسماء بنت عميس، وحاضت عائشة رضي الله عنهما، وجَّههما النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلا مثل ما يفعل الحاج، غير ألَّا يطوفا بالبيت حتى تطهرا، فعلى المرأة إذا اعتمرت أو حجَّت، ثم جاءتها الدورة الشهرية وهي في الميقات أو نحو ذلك – أن تغتسل وتدخل في الإحرام، ولكن لا تطوف، حتى تطهر، فإن كانت عمرة، فتنتظر حتى تطهر، ثم تغتسل من سكنها ومكانها من الحيض، ثم تعتمر، وإن كانت حاجة، فلتفعل كما يفعل الحاج، غير أنها تؤجل الطواف للحج، حتى تطهر، لكن البعض من النساء قد تتجه للعمرة، فإذا جاءتها الدورة في الميقات أو نحوه في الطريق، تركت العمرة بسبب حيضتها، وبهذا يكون فاتها خير عظيم، وهو تلك العمرة، ولكن عليها أن تحرم، وإذا طهرت اعتمرت.

 

الدرس الرابع: البعض من الحُجَّاج والمعتمرين قد يتساهل في بعض السنن؛ كالدعاء على الصفة الواردة على الصفا وعلى المروة، أو بسنن الطواف من الرمل والاضطباع، وغيرهما، وكذلك في بعض مناسك الحج، فإن هذه السنن وإن كان تركها قد لا يؤثر في صحة الحج والعمرة، لكن الإتيان بها هو مما يكمل عمل المناسك ويتممها بمستحبَّاتها، فاحرص عليه يا رعاك الله.

 

الدرس الخامس: من الناس مَن يكبِّر إذا حاذى الركن اليماني، وهذا خطأ وخلل؛ فإن التكبير هو عند محاذاة الحجر الأسود فقط، كما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أما الركن اليماني، فليس عنده تكبير ولا إشارة؛ لأن التكبير الموجود الآن عند بعض المعتمرين والحجاج هو من تأثير بعضهم على بعض، فعلى المسلم ألَّا يكون مصدره في العمل والعلم هو عموم الناس، وإنما يصدر عن أهل العلم ويسألهم.

 

الدرس السادس: صلاة ركعتي الطواف، وهي خلف المقام لا يلزم أن تكون خلفه مباشرة، وإنما يجعل المقام بينه وبين الكعبة، حتى لو كان بعيدًا عنه، فإنه في تلك الحال هو خلف المقام؛ لأن خلفه مباشرة هو مكان للطواف، والطائفون أحق بهذا المكان من المصلِّي، وقد يكون فيه أذية للناس وعدم ارتياح للمصلي في صلاته، إذا صلى خلف المقام مباشرة، ولكن ليجعل صلاته خلف المقام، وإن كان بعيدًا عنه ليطمئن في صلاته ولا يؤذي أحدًا من الناس.

 

الدرس السابع: مكث النبي صلى الله عليه وسلم الأيام الأربعة قبل الحج في الأبطح، وصلى فيه الصلوات الخمس، وقد استدل جمهور أهل العلم بهذا وأمثاله أن المضاعفة للصلاة في مكة هي كل ما كانت داخل حدود الحرم، وليس المسجد فقط، ولا شك أن المسجد الحرام هو الأفضل، لكن الرأي الذي عليه جمهور أهل العلم أن المضاعفة عامة في جميع حدود الحرم، وبهذا الرأي يكون الناس في سَعَةٍ من أمرهم.

 

الدرس الثامن: مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة حتى أصبح وأذِن للضعفة بالانصراف قبل الناس، وقد قال أهل العلم بأن انصرافهم يكون بعد غياب القمر، وقد كانت أسماء رضي الله عنها تنصرف إذا غاب القمر؛ [متفق عليه]، ولكن عتبنا على من يمكث شيئًا من الوقت ثم ينصرف قد يكون ساعة أو ساعتين، وهو بهذا لم يمكث الوقت المقدر شرعًا، وهو أكثر من نصف الليل للضعفة، فعليهم أن يتعرفوا على الحكم؛ لأنهم يتحملون ذمة هؤلاء الحجاج الذين معهم، خصوصًا إذا كانوا جاهلين.

 

الدرس التاسع: على الحاجِّ أن يتأكد أنه داخل عرفة في وقوفه في يومها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحج عرفة))، فإن وقف خارجها ولم يرجع إليها، لم يصحبها حجُّه.

 

الدرس العاشر: عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، بدأ فصلى في المسجد ركعتين، وهذه سنة شبه مهجورة في وقتنا الحاضر؛ وهي ركعتا القدوم من السفر، أن يصليهما في المسجد، فإن في تلك الركعتين خيرًا عظيمًا، وطمأنينة وسكينة، واقتداء وهدًى؛ فلا تتكاسل عنها، واستعن بالله تعالى على إحيائها.

 

الدرس الحادي عشر: عندما حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في مِنًى بعد الرمي، كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون لأخذ شعره تبركًا به، وكانوا يأخذون فضل وضوئه وآثاره عليه الصلاة والسلام يتبركون بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجل مبارك، وقد وضع الله فيه بركة، وآثاره فيها بركة؛ وذلك كشعره وبصاقه ووضوئه، ونحو ذلك مما خرج منه، أو لامس جسده، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، لكن هل هذا التبرك يحصل بغير النبي صلى الله عليه وسلم كما يقوله بعض الفرق وأهل البدع؟ الجواب: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فقط لا يتعدى إلى غيره؛ لأنه أقرهم عليه الصلاة والسلام على ما فعلوا، ولم يَنْهَهُم، ولو كان ذلك حاصلًا لغيره من الصالحين والأولياء، لتبرَّك الصحابة والتابعون بالخلفاء الراشدين، ولكن هذا لم يحصل منه شيء قط؛ وذلك لعلمهم واجتماعهم رضي الله عنهم أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما ما نسمعه ونقرؤه عن بعض أهل البدعة أنهم يتبركون بآثار أوليائهم، فهذا لا شك أنه تسويل من الشيطان، ولم يدلَّ دليل على صحة ذلك، ولو كان هذا يحصل لأوليائهم، لَحَصَلَ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فهما أفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، ولكن الجهل قد يطمس البصائر، حتى في الآثار الأخرى من الأحجار كالحجر الأسود، والأماكن كالغار في مكة، ونحو ذلك، فهي لا يُتبرَّك بها، فأما الحجر، فقد كان عمر رضي الله عنه يُقبِّله ويقول: ((إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك، ما قبَّلتك))، فهو حجر من الأحجار، وكذلك الغار في مكة، مِن الناس مَن يتجشَّم المصاعب والمتاعب ليصعد إليه؛ تبركًا، وهذا لا أصل له في الشريعة؛ إذ إن الصحابة رضي الله عنهم وهم أعلم الأمة بعد نبيها لم يفعلوا شيئًا من ذلك، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، بل كانوا ينهَون عن ذلك أشدَّ النهي؛ لأن التبرك بالأماكن أو آثار الصالحين تعظيم، والتعظيم لله تعالى وحده، وقد يصل الأمر ببعضهم بعد التبرك للطواف على قبره، ودعائه من دون الله عز وجل، وهكذا يبدأ الشرك، نعوذ بالله تعالى من ذلك، وإن تعجب فاعجب ممن يبذل وقته وجهده وماله على شيء باطل، ليس له زمام ولا خِطام من الشريعة؛ كمن يذبح أو ينذر لغير الله، ونحو ذلك، وربما كان في أول أمره قد بدأ بأشياءَ صغيرة، حتى وقع في الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار، والعياذ بالله.

 

الدرس الثاني عشر: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسأله يوم النحر: ((افعل ولا حرج)) دليل على يُسْرِ تلك الشريعة وسماحتها، ودليل على رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ورأفته بهم؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال عز وجل: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، فهذه الصلوات الخمس كانت خمسين، فخُفِّفت إلى خمس، وبقِيَ أجرها أجر خمسين، وهذا كله تيسير من الله تبارك وتعالى لعباده، فاللهم لك الحمد على تيسيرك ورحمتك، وإن المسلم عندما يعلم ذلك التيسير ورفع الحرج، لَيقع في قلبه محبة الله تبارك وتعالى، بل يملأ قلبه من ذلك، وكذلك يُكثِر من العمل الصالح، والدلالة عليه، فعندما تنظر إلى أركان الإسلام، تعلم ذلك التيسير ورفع الحرج؛ فالصلاة – مثلًا – خمس بدل خمسين، والزكاة اثنان ونصف في المائة، والصيام شهر واحد من اثني عشر شهرًا، والحج والعمرة مرة واحدة في العمر، وهذا كله تيسير ورحمة ورأفة من الله تبارك تعالى بعباده؛ فليشكروه وليحْمَدوه، ويمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه، فإن فعلوا ذلك، فإن الله عز وجل برحمته يدخلهم جنته ودار كرامته، فإن المسلم عندما يعلم ذلك التيسير، ويتحدث به مع أصحابه وإخوانه المسلمين هو بذلك يشيع محبة الله تعالى بين عباده، ويجعل العباد يحبون الله عز وجل على هذا التيسير، كما أنه أيضًا بذلك يقوِّي عزيمتهم على عمل الصالح، وأن كل ما شرعه الله عز وجل إنما هو يسير وعمل قليل، مقابل ما يرحمهم الله تعالى بسببه، فيدخلهم الجنة التي يخلدون فيها بلا خروج ولا موت، فلو نظرت إلى العمل، ثم نظرت إلى الجزاء، لَرأيت الفرق الشاسع، والبعد الكبير بينهما، لكن الذي أوصلهم إلى هذا هو رحمة الله تبارك وتعالى لعباده، التي كان سببها هذا العمل الصالح.

 

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنا وعن والدينا ووالديهم والمسلمين، اللهم اجعلنا من عبادك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى أصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }
البر بالوالدين سبب للنجاة من النار (بطاقة)