الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (2)
الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (2)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده.
من هدايات سورة الفاتحة: تقرير الإيمان بالقدرِ، وترسيخهِ في نفوس المؤمنين:
بيَّنا في الدرس الماضي تقرير الإيمان بالقدر في قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الفاتحة:2]، واليوم إنْ شاء الله نتحدَّث عن بقية الآيات في سورة الفاتحة.
• ففي قول الله جَلَّ وَعَلَا:﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾[الفاتحة:3]، فيهِ إيمانٌ بالقدر؛ لأنك أيضًا ترجو رحمة الله تعالى، ومن خلال هذا الرجاء تعرف أنك فقيرٌ إلى الله محتاجٌ إليهِ، وإلى هدايتهِ ومنتهِ جَلَّ وَعَلَا، وعطائهِ وفضلهِ ورحمتهِ، فلا غنى لك عنهُ طرفة عين.
• قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5]، إيمانٌ بالقدر، فأنت تستعينُ بالله؛ لأنهُ القادر على كل شيء، وتطلب عونهُ؛ لأنَّ بيدهِ أزِمَّةَ الأمور، ويتصرفُ في خلقهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كيف يشاء.
• قال تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة:6]، إيمانٌ بالقدر؛ لأنك تطلب الهداية ممَنْ بيدهِ الهداية؛ قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص:56]، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة:272]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر:8].
وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب الناس قال في خطبتهِ: «إنَّ الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ، ومَنْ يهدهِ الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له» [1]، وجاء في الحديث أنَّ الله تعالى يقول: «يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»[2]؛ أي: اطلبوا مني الهداية أوفِّقكم إلى سلوك طريقها.
وكان نبينا عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يحث أصحابهُ على سؤال الله جَلَّ وَعَلَا الهداية؛ كقوله لعلي رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: «قُلِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي»[3]، وجاء من دعائهِ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنِي أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعفَافَ والغنَى» [4]، وجاء كذلك في الحديث عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الدعاء «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ»[5]، وفي دعاء القنوت: «اللَّهُم لَكَ أسْلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توَكَّلْتُ، وإلَيكَ أنَبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ، اللَّهمَّ إني أعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إلَه إلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّنِي فأنْت الْحيُّ الَّذي لاَ تمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يمُوتُونَ»[6].
ومن دعائهِ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهمَّ مُصرِّفَ القُلوبِ صرِف قلوبنا على طاعتك»[7]، وكان أكثر دعائهِ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك» [8]، وكل هذه الأدعية إنما هي إيمانٌ من العبدِ بأنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على كل شيءٍ قدير، وأنَّ الهداية بيد الله جَلَّ وَعَلَا.
وفي قولك: ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾[الفاتحة:7]، إيمانٌ منك بأنَّ النعمة إنما هي من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، سواءٌ أكانت هذه النعمة متعلقةٌ بالصحة أو بالمال أو الهداية، أقصد هداية الطاعة والإيمان.
فالسورة تدلّ وتشمل على الإيمان بالقدر من وجوهٍ كثيرة، والمسلم اَلذِي يردد هذه السورة العظيمة يستشعر معانيها، ويؤمن بدلالتها، لا بد أنْ يؤمن بالقدر، وأنَّ الأمور كلها بقدرة الله جَلَّ وَعَلَا، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وللحديث بقية.
[2] حديث صحيح (أخرج مسلم) رواه أبو ذر الغفاري.
[3] حديث صحيح (صحيح النسائي) رواه علي بن أبي طالب.
[4] (أخرجه الترمذي واللفظ له وأخرجه مسلم) رواه عبد الله بن مسعود.
[5] حسن صحيح (سنن الترمذي وابن ماجه) رواه الحسن بن علي بن أبي طالب.
[6] إسناده صحيح (أخرجه البخاري مختصرًا ومسلم) رواه عبد الله بن عباس.
[7] حديث صحيح (أخرجه مسلم) رواه عبد الله بن عمرو.