مدرسة رمضان (2) (خطبة)


مدرسة رمضان (2)

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربَّنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:

فقد سبق الحديث في الخطبة الماضية عن بعض مواد التدريس والتخرج من مدرسة الصيام؛ وهي مادة مقاصد الصيام؛ فعرفنا فيها أننا نصوم طاعةً لله وتحقيقًا للتقوى، ومادة التدبير عرفنا فيها أهمية استثمار وقت رمضان وفرصته، وعدم تضييعه فيما لا يفيد، ومادة البرامج والمناهج عرفنا من خلالها أهمية التخطيط ووضع برنامج شامل في شهر رمضان.

 

ويستمر الحديث في هذه الخطبة عن بعض مواد التدريس في شهر الصيام، واليوم سندرس المادتين الآتيتين:

المادة الرابعة: مادة الاقتصاد:

في هذه المادة في شهر رمضان نتعلم سلوكات اقتصادية إيجابية مطلوبة، وأخرى سلبية وجب تجنُّبُها.

 

أولًا: الاقتصاد والإنفاق المستحب في شهر رمضان:

1- الزيادة في الإنفاق التطوعي: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جوَّادًا طيلة العام، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارِسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة))[1]، والجود: كثرة الإعطاء، فلماذا يزيد النبي صلى الله عليه وسلم من الإنفاق والجود في رمضان؟ قال الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله: “وإنما كثُرُ جُودُه عليه السلام في رمضان لخمسة أشياء:

أحدها: أنه شهر فاضل، وثواب الصدقة يتضاعف فيه، وكذلك العبادات؛ قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره.

 

والثاني: أنه شهر الصوم؛ فإعطاء الناس إعانة لهم على الفطر والسحور.

 

والثالث: أن إنعام الحق يكثُر فيه؛ فقد جاء في الحديث: ((أنه يُزاد فيه رزق المؤمن، وأنه يُعتَق فيه كل يوم ألف عتيق من النار))؛ فأحب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوافق ربه عز وجل في الكرم.

 

والرابع: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل عليه السلام إليه في كل ليلة.

 

والخامس: أنه لما كان يدارسه القرآن في كل ليلة من رمضان، زادت معاينته الآخرة؛ فأخرج ما في يديه من الدنيا[2].

 

فهل بحثنا عن الفقراء والمحتاجين؟ هل أنفقنا على اليتامى؟ هل نفَّسنا عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؟ هل يسَّرنا على مُعسِر؟ هل ساعَدْنا مريضًا في إجراء عملية جراحية أو شراء دواء؟ وغيرها من أنواع الإنفاق؛ قال تعالى: ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[3]، وأبشِرْ أيها المنفق؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعْطِ منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا))[4].

 

2- تفطير الصائمين: سواء استقدمتهم إلى منزلك، أو هيأتَ طعامًا فذهبت به إليهم، أو أعددت قفةً رمضانية فتصدقت بها عليهم، أو شاركت بمالك في مشروع تفطير الصائمين، أو ما أشبه ذلك، وهذا لا شك يستلزم إنفاقًا.

 

والفائدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من فطَّر صائمًا، كُتب له مثل أجره، إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء))[5]، فهل أعددنا مشروعًا لتفطير الصائمين؟ وبذلك تستطيع أن تصوم شهرين عوض شهر، لو فطَّرت ثلاثين صائمًا خلال شهر.

 

ثانيًا: الاقتصاد والإنفاق غير المستحب في شهر رمضان؛ ومن ذلك:

1- الإسراف: كثير من الناس يسرف في موائد الإفطار، فيُوضَع على المائدة من الطعام ما يكفي الكثير من الناس، ويكثر من الأنواع إلى درجة أنك لا تعرف من أين تبدأ، ويُصاب بهستيريا الشراء فيشتري كل ما تقع عليه عينه. ثم لا يأكل من كل هذا إلا القليل، فيُهدر الباقي في أكياس القمامة، في حين هناك من يحتاج هذا الطعام، هو يشتكي من التُّخَمة، وغيره يشتكي من الجوع، هل هذه حكمة الصيام التي من تجلياتها ترك الأكل والشرب لتذكُّر الفقراء؟ وهل هذا هَدْيُ الإسلام في قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أُكُلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان لا محالة، فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))[6].

 

2- البخل: والتقتير على نفسه وعياله حتى الضروري من النفقة، وهذا أيضًا غير مستحب، فالإسلام دين الوسط؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]؛ فالبخيل لا يؤدي حق الله فيما أوجبه عليه من الزكاة، ولا حق الأبناء والعيال فيما أوجبه الله عليه من النفقة الواجبة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوتَه))[7].

 

ورحمة الله على القائل:

إذا كنت جمَّاعًا لمالك ممسكًا
فأنت عليه خازن أمينُ
تؤدِّيه مذمومًا إلى غير حامدٍ
فيأكله عفوًا وأنت دفينُ

 

وصدق والله؛ فلكم رأينا من الناس ما أدوا حق الله، وتركوا المال لورثتهم وفيرًا، يعبثون فيه، فضيَّعوه، وبقِيَ هو في قبره حسيرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

فاللهم اجعلنا ممن أدَّوا حق المال، ومن المنفقين لأموالهم في أنواع الطاعات، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد:

المادة الثالثة: مادة مكارم الأخلاق:

عباد الله، الأزمة التي تعانيها الأمة اليوم في أفرادها ومجتمعاتها هي أزمة القيم والأخلاق.

فلعلك تشتكي من سماع سبٍّ وشتم وكلام فاحش، وأنت تمر في الشارع، أو جالس في بيتك.

ولعلك ترى من يعاقر الخمر، أو شاب وشابة يتعانقان في الشارع على مرأى من الناس.

ولعلك ترى التحرش الجنسي في الشوارع؛ سواء تحرش الفتيان بالفتيات بكلام فاحش، أو تحرش الفتيات بالفتيان من خلال كلامهن وتغنُّجهن ولباسهن.

ولعلك ترى من يسمع النداء: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو ماضٍ في عمله الدنيوي، لا تهُمُّه الاستجابة لنداء الرحمن.

ولعلك ترى من يخرب الممتلكات العامة من حدائق وملاعب وتجهيزات.

ولعلك ترى من يسيء إلى والديه ويعقُّهما؛ فنسِيَ ما كان منهما من فضل سابق.

ولعلك ولعلك؛ أسئلة ومشاكل لا تنتهي، هي عنوان أزمتنا الحقيقية؛ إنها أزمة الأخلاق.

 

وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لغاية سامية فقال: ((إنما بُعثتُ لأُتمم صالح الأخلاق))[8]. وكان يدعو الله ويقول: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اصرف عني سيِّئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت))[9]، وسأل هشام بن عامر عائشةَ رضي الله عنها فقال لها: ((يا أمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن))[10].

 

ورمضان فرصة للرقي بأخلاقنا في مدرسته؛ فهو مدرسة لإتقان أنواع الطاعات، ومدرسة لترك الغِيبة والنميمة، والسب والشتم، والكلام الفاحش وغيرها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الصيام ليس من الأكل والشرب فقط، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم))[11]، مدرسة نتعلم فيها الانضباط وحسن السلوك، فتصوم جوارحنا عما حرم الله، إلى جانب صيام المعدة عن الأكل والشرب؛ وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أحيانًا يضع حصاةً في فيه؛ يمنع نفسه بها عن الكلام، وكان يشير على لسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد”، هكذا كانوا – رحمهم الله – يربون أنفسهم على مكارم الأخلاق.

 

فاللهم بارك لنا في رمضان، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا، واهدنا فيه لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها؛ فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

تتمة الدعاء.


[1] رواه البخاري برقم: 6.

[2] كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي: 2/ 312-313.

[3] رواه مسلم برقم: 2699.

[4] رواه البخاري برقم: 1442.

[5] رواه أحمد في المسند برقم: 17033، وصحَّحه شعيب الأرنؤوط.

[6] رواه الترمذي برقم: 2380، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

[7] رواه مسلم برقم: 696.

[8] رواه أحمد في المسند برقم: 8952، وصحَّحه شعيب الأرنؤوط.

[9] رواه مسلم برقم: 696.

[10] رواه مسلم برقم: 746.

[11] أخرجه الحاكم في المستدرك برقم: 1570، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (3)
الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (2)