الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (3)
الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (3)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، أما بعد:
فبعد أنْ بينا في الدروس الماضية ما ورَد في سورة الفاتحة من تقرير الإيمان بالقدر، فينبغي أنْ يعلم كل مسلمٍ أهمية الإيمان بالقدر، وعظيم مكانتهِ، وكبير عوائدهِ على العبد في دينهِ ودنياه، فهو يعطي القلب قوةً وثقةً بالله، وحسن صلةٍ بالله جَلَّ وَعَلَا، وإقبالًا على طاعتهِ، وقوةً في الافتقار إليه والالتجاء إليه، وسؤالهُ وحده والتوكل عليهِ، وطلب العون منه، والإكثار من سؤال الهداية والتوفيق والسداد.
وأيضًا قوة العبادة والطاعة وقوة الصبر في المصائب؛ لأنَّ مَنْ يؤمن بالقدر يعلم أن ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأهُ لم يكن ليصيبه؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾[التغابن:11].
فالإيمان بالقدر من أسباب هداية القلوب إلى كل خيرٍ، وإلى كل فلاح، وإلى كل رفعةٍ في الدنيا والآخرة، ولهذا يقول عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»[1].
فالمؤمنُ في كل أحوالهِ ملتجئٌ إلى الله جَلَّ وَعَلَا، إذا كان صحيحًا معافى، أو غنيًّا، فإنهُ يحمد الله جَلَّ وَعَلَا، وإنْ كان مريضًا يصبرُ على ما أصابه ويسأل الله جَلَّ وَعَلَا، وإنْ كان فقيرًا يدعو الله بالدعاء المأثور عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهمّ اكْفِنِي بحلالِكَ عن حرامِكَ وأغْننِي بفضلكَ عمن سواكَ»[2]، فهو يلتجئ إلى الله جَلَّ وَعَلَا؛ لأنهُ مؤمنٌ بأنَّ الأمور كلها بقدرة الله جَلَّ وَعَلَا.
والإيمان بالقدر لهُ أثرٌ مباركٌ وثمارٌ عظيمة لا حصر لها ولا عد، ولو نظرنا إلى صلاح العبد في دينه ودنياه، فإننا نجدُ أنَّ العبد بحاجةٍ إلى إيمانهِ العميق بقدرة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيلهج لسانهُ بكثرة ذكر الله جَلَّ وَعَلَا، فإذا عطَّل الإنسان الإيمان بالقدر، فسد عليهِ كل شيء، وحرم من كل خير، وباء بكل خيبةٍ وحسرةٍ وندامةٍ في الدنيا والآخرة.
وهذا مما يبيِّن لنا أن الإيمان بالقدر أساسٌ لا تقوم شجرة الإيمان إلا عليهِ، فلا تثمر ولا تزهرُ إلا بوجود هذا الأصل المبارك، وكلما قَوِيَ إيمان العبدُ بالقدر قَوِيَ الخير فيهِ، وزاد ونما وكثُر، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم:24].
جاء عن عبدالله بن عباسٍ أنهُ قال: (الإيمانُ بالقدر نظام التوحيد، فمَنْ آمن بالله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبهُ التوحيد)، وكلامهُ واضحٌ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ؛ أي: إنَّ التكذيب بالقدر تكذيبٌ بالإيمان وتكذيبٌ بتوحيد الرحمن سبحانه.
ومما يزيد هذا الأمر وضوحًا قول الإمام أحمد رَحِمَهُ اَللَّهُ: (القدرُ قدرة الله جَلَّ وَعَلَا، والله جَلَّ وَعَلَا قديرٌ على كل شيء)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النحل:77].
فالذي يكذب بالقدر يكذبُ بقدرة الله جَلَّ وَعَلَا، فهو في الحقيقة مكذبٌ بالله، اللهم إنَّا نسألك إيمانًا كاملًا، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، ويقينًا صادقًا، حتى نعلم أنهُ لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.